في هذا العالم الكبير الذي يضم أكثر من 7000 لغة، يختلف البشر في قدرتهم على التعبير، فهناك لغات محدودة الكلمات والتعابير، وأخرى واسعة المفردات، فمثلًا ثمة لغات تميز درجات الألوان بشكل كبير وأخرى لا تستخدم سوى كلمتى فاتح أو غامق، وبعض اللغات يمكنها أن تعبر عن الأشكال بشكل جيد والبعض الآخر يعبر عن المشاعر بشكل أفضل.
تعد اللغة أداةً للتعبير عن الفكر والتواصل بين مجموعة من البشر، كما أنها أداة لحفظ الماضي والحاضر، فهي ذاكرة الأمة ودلالة وجودها في التاريخ، هناك العديد من اللغات التي اندثرت ربما لقلة عدد مستخدميها أو فنائهم أو تعرضهم للغزو والتوقف عن استخدام لغتهم، فاللغة لا تتطور من تلقاء نفسها ويصيبها الجمود نتيجة جمود أهلها.
في عصرنا الحديث، أصبحت اللغات المستخدمة في العلوم والتكنولوجيا والابتكار هي اللغات القادرة على الانتشار بشكل كبير وفرض سيطرتها على لغات العالم، فمن دونها لن تتقدم الدول أو تتابع كل ما هو جديد في عالم المعرفة.
التفكير واللغة وجهان لعملة واحدة، فلكل منهما مساره منذ ولادة الطفل، لكنهما يلتقيان في الثانية من عمره عندما تتحول أفكار الطفل إلى كلام
قبل عدة قرون كان العرب هم المتقدمون في الطب والفلسفة والرياضيات والمنطق ومختلف العلوم وكانت كتبهم تدرس في أوروبا، كانت اللغة العربية هي لغة العلوم، أما اليوم فاللغة الإنجليزية أصبحت لغة العلم.
أيهما أسبق اللغة أم التفكير؟
انقسم علماء اللغة في رؤيتهم للعلاقة بين التفكير واللغة وأيهما أسبق في الوجود، ووفقًا لذلك ظهرت 4 نظريات تفسر العلاقة بين اللغة والتفكير.
في نظرية النسبية اللغوية أو ما يُعرف بنظرية ورف، يُعتقد أن اللغة تؤثر بشكل كامل على الفكر وأنها أسبق منه، فالتفكير يعتمد على اللغة وهي تتحكم به وتسيطر عليه، فاللغة التي يتحدثها البشر هي ما تؤدي إلى فهمهم للعالم وتشكيل رؤيتهم للكون.
وفقًا لهذا المنطق فإن اللغة تؤثر على تصرفات الإنسان وإدراكه للعالم من حوله وتوجهه وبالتالي يختلف الأشخاص المتحدثون بلغات مختلفة في إدراكهم وتصوراتهم عن العالم من حولهم.
أما النظرية الثانية ومن أشهر فلاسفتها بياجيه فيؤمن أصحابها بأسبقية الفكر، ويؤمنون بأن الطفل لا يمكنه أن يفهم التعبير اللغوي دون أن يتمكن من فهم الفكرة الكامنة خلفه، فتعلم الأشكال اللغوية لن يقود إلى تفكير منطقي واضح، لكن تأسس المنطق هو ما يقودنا إلى اكتشاف الكلمات المناسبة للتعبير عنه.
يرى أصحاب النظرية الثالثة وعلى رأسهم فيجوتسكي عالم النفس السوفيتي أن التفكير واللغة وجهان لعملة واحدة، فلكل منهما مساره منذ ولادة الطفل، لكنهما يلتقيان في الثانية من عمره عندما تتحول أفكار الطفل إلى كلام، فالطفل يبدأ في التفكير والتعبير منذ ولادته وهو بذلك يشبه الحيوانات لأنه يتحدث دون لغة.
يخالف نعوم تشومسكي الجميع في نظريته الفطرية، فهو يرى أن الطفل يولد ولغته جزء منه، فهو مبرمج منذ ولادته لكي يبحث عن الصفات اللغوية للغة ما، ويدلل بذلك على أن الأطفال يستطيعون تعلم أي لغة يُصادف أنهم تعرضوا لها في بداية عمرهم.
لا يمكن الحديث عن اللغة بأنها مجرد وسيلة يستخدمها الفرد للتعبير فقط، فاللغة صفة إنسانية معقدة يمارسها البشر لأنهم يملكون من العقل ما يسمح لها باستخدامها إنها قدرة فطرية يملكها جميع البشر ولا يمكن كبحها.
وفقًا لذلك يتميز ثنائيو اللغة بقدرتهم الواسعة على التعبير كما يؤثر ذلك على المرونة العقلية وزيادة القدرات الإدراكية، حيث يمنحهم ذلك قدرة أكبر على مواجهة الشيخوخة والخرف، يقول الإمبراطور الروماني شارلمان: “أن تملك لغة ثانية هو أن تكون لديك روح ثانية”، ووفقًا لدراسة أجريت على أشخاص ثنائيي اللغة اتضح أن استخدام اللغة الثانية يؤدي إلى اتخاذ قرارات أكثر عقلانية، لأن اللغة الثانية تميل إلى نقص التحيزات مقارنة باللغة الأم، ما نستنتج منه أن اللغة قد تؤثر بالفعل على طريقة تفكيرنا.
كيف تؤثر اللغة على طريقتنا في التعبير؟
في دراسة أجرتها أصيفة ماجد – أستاذ اللغة والتواصل والإداراك الثقافي في جامعة يورك البريطانية – على 20 لغة في أوروبا وإفريقيا وآسيا وأستراليا من مناطق متنوعة ما بين حضرية ونائية، اختلف الناس في وصفهم للأشياء وكمّ المفردات التي يستخدمونها للتعبير عن شيء ما.
لغة الإشارة والصور والرسم أقدم من اللغة المنطوقة وكلها تستطيع التعبير عن الأفكار والمشاعر
وجدت الدراسة مثلًا أن اللغة الإنجليزية تزخر بالكلمات المعبرة عن الألوان، في الوقت نفسه وجدت أن تجمعًا سكنيًا في شبه جزيرة الملايو باسم “جاهاي” يعبر عن الروائح بشكل متنوع أكثر وأدق من اللغة الإنجليزية، بينما برع الناطقون باللغة الفارسية في وصف الطعم.
ربما يرجع ذلك إلى البيئة المحيطة بهؤلاء الأشخاص، فتجمع “جاهاي” يعيش على الصيد وجمع الثمار ما يجعل للروائح أولوية في حياتهم، أما الناطقون بالإنجليزية فأغلبهم يعيشوف في مناطق حضرية ويجلسون أمام الشاشات معظم الوقت مما يجعل اهتمامهم بالألوان أكثر من الروائح.
أما اللغة العربية فهي تتميز ببلاغة التعبير وتنوعه، فعند وصف الحب نجد أن هناك 14 كلمة تصف الحب ودرجاته حيث تبدأ بالهوى ثم الصبوة ثم الشغف ثم الوجد ثم الكلف ثم العشق ثم النجوى ثم الشوق ثم الوصب ثم الاستكانة ثم الود ثم الخُلّة ثم الغرام وأعلاها الهيام.
كما تتميز أيضًا بتنوع معاني الكلمة الواحدة، فعلى سبيل المثال كلمة “عين” وهي حاسة البصر كما يعرفها الجميع لها قرابة 50 معنى آخر، من بينها عين الجيش أي رئيسه، والعين تطلق على الجاسوس، وعين الماء هو مكان تدفق المياه من باطن الأرض، كما أن العين هي الشمس، والعين هم جماعة من الناس، كما تعد الكلمة مرادفًا للحسد أيضًا، فيقولون أصابته عين أي تعرض للحسد من أحدهم.
رغم هذا الخلاف بين علماء اللغة، فإنها لم تكن الطريقة الوحيدة للتعبير والتواصل بين البشر، فلغة الإشارة والصور والرسم أقدم من اللغة المنطوقة وكلها تستطيع التعبير عن الأفكار والمشاعر، لكن تظل اللغات بمفرداتها وتراكبيها وأصواتها الأقوى في تجسيد أفكار الإنسان ومشاعره.