أثار اختفاء الملياردير الصيني، جاك ما، مؤسس شركة “علي بابا” العملاقة للتجارة الإلكترونية، عن الرأي العام ووسائل الإعلام، منذ شهرين تقريبًا الكثير من الجدل حول سبب هذا الاختفاء غير المسبوق، فوفقا لتقرير نشره موقع “Foxbusiness”، فقد كان يفترض أن يشارك مؤسس “على بابا” في الحلقة النهائية لشهر نوفمبر من برنامج “Africa’s Business Heroes” وهي المسابقة التي ترعاها شركته لأصحاب المشاريع الأفارقة، إلا أنه لأول مرة يغيب عن الحضور فيما حضر مسئول من الشركة نيابة عنه.
موقع “فوربس” أشار إلى استدعاء “ما” بحلول أوائل نوفمبر الماضي إلى اجتماع مع السلطات الصينية، لكنه منذ ذلك الوقت لم يظهر، فيما التزمت شركته “علي بابا” الصمت بسؤالها عن مكان تواجده، الأمر الذي أثار الكثير من التكهنات بشأن مكان اختفاءه طيلة هذه الفترة.
وكان أخر ظهور إعلامي للملياردير الصيني في الرابع والعشرين من أكتوبر الماضي خلال مشاركته في مؤتمر شنغهاي، حيث تحدث في كلمته التي لم تتجاوز 20 دقيقة عن ضرورة الإصلاح الاقتصادي في بلاده وإعادة هيكلة السياسات المتبعة، فما قصة هذا الاختفاء؟
الخطيئة الكبرى
يبدو أن “ما” كان يعتقد أن ما وصل إليه من نفوذ مالي واسع النطاق، وتأثير ملحوظ في ركب الاقتصاد، المحلي والعالمي على حد سواء، يسمحان له بالحديث عن الإصلاح والتحفظ على بعض الأوضاع القائمة حتى وإن كان من باب النصيحة وليس الانتقاد، وهو ما حدث بالعكس.
في كلمة لم تتجاوز ثلث ساعة، تحدث فيها الإمبراطور الصيني بداية عن شركته وأفاقها المتوقعة خاصة أن هذا المؤتمر جاء قبل أيام قليلة من عقد اكتتاب لشركة الخدمات المالية التي أسسها قبل عشرين عامًا، شركة “آنت” (شركة المدفوعات عبر الهاتف المحمول المهيمنة في الصين، مملوكة بنسبة 33% لشركة “علي بابا” ويسيطر عليها جاك ما) وهو الاكتتاب الأكبر في التاريخ والبالغ قيمته 35 مليار دولار.
لكن وفي مجمل حديثه انتقد النظام الاقتصادي الصيني، والسياسات التي يتعامل معها والتي لا تتناسب والتطورات الراهنة، مطالبًا بإعادة النظر في هيكلة هذا النظام الخاضع وفق وصفه لسيطرة “نادٍ من العواجيز” يعملون لصالح حفنة من البنوك التقليدية التي تفتقد للإبداع والتي شبهها بـ “محلات الرهونات القديمة”.
وفي نهاية الكلمة حذر “ما” من أن المضي قدمًا في تلك السياسات سيخنق جميع الصناعات القائمة على الابتكار في الصين، هذا في الوقت الذي يحتل فيه العملاق الصيني موقع الريادة العالمية في تلك الصناعة التي تدر مئات المليارات على الاقتصاد الوطني للبلاد.
حملة تطهير
ساعات قليلة من انتهاء “ما” من كلمته حتى شنت السلطات الصينية هجومًا حادًا على شركات الإنترنت وتكنولوجيا الاتصالات، وكأن دعوة مؤسس “علي بابا” للإصلاح كانت نقطة الشرارة التي حفًزت نظام الرئيس شي جين بينغ لتقليم أظافر أباطرة الويب بعدما زاد نفوذهم عن الحد المسموح به.
البداية كانت بتعليق الاكتتاب العام لشركة “أنت” في بورصتي شنغهاي وهونغ كونغ، وكان ذلك في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني، بعد أسبوع فقط من كلمة “ما”، وكانت شركة “علي بابا” قد غُرمت قبل عشرة أيام، بنصف مليون يوان (99 ألف دولار) بدعوى خرقها قانون مكافحة المنافسة.
لم يكن “ما” هو المستهدف الوحيد من وراء هذه الحملة، إذ بات أن هناك مخطط عام لتقزيم دور كبار رجالات التكنولوجيا في البلاد بعد النجاحات المتتالية التي حققوها والتي أصبحت تمثل خطرًا يهدد قدرة السلطات على السيطرة على تلك النوافذ صاحبة التأثير القوي عالميًا خلال العقد الأخير.
في 10 نوفمبر أصدرت المصلحة الوطنية لتنظيم السوق (الجهة المنوطة بمكافحة الاحتكار في الصين) وثيقة مكونة من 22 صفحة تتضمن العديد من التعليمات والقرارات التي تهدف إلى تقليص نفوذ منصات الإنترنت الكبرى ومنعها من احتكار السوق بما يؤثر على المنافسة في المجال العام.
الإجراءات التي شملتها الوثيقة أفقدت شركات التكنولوجيا الكبرى الكثير من أرصدتها المالية والسهمية في السوق، هذا بخلاف تحجيم تحركاتها بصورة أثارت الكثير من الشكوك، حيث فقدت شركات “Alibaba” و”Tencent” و”Meituan” و”JD.com” ما بين 9-17% من قيمتها خلال أيام، فيما تآكلت القدرة التمويليلة لشركة “آنت” بشكل ملحوظ بعد إدارج قاعدة تقديمها 30% على الأقل من القروض من أموالها الخاصة وليس من أموال المساهمين، بحسب الوثيقة الجديدة.
واستمرارًا لتلك الهجمة، فرضت المصلحة غرامة بحق شركة “تنسنت” الإلكترونية بقيمة 76 ألف دولار في الرابع عشر من ديسمبر الماضي، بدعوى عدم حصولها – قبل استحواذ إحدى الشركات التابعة لها على شركة الوسائط والترفيه الصينية “New classic media”- على موافقة الجهات التنظيمية .
ومن المتوقع أن تؤت تلك الحرب ثمارها، ففي أول رد فعل على استهداف شركة “آنت” عبر تعليق اكتتابها التاريخي قال الرئيس التنفيذي للشركة “إريك جينغ” إن شركته ستجري “مراجعة ذاتية شاملة” للتوافق مع القواعد الجديدة، هذا في الوقت الذي يتوقع أن يأخذ الجميع نفس الموقف.
أين اختفى “ما”؟
الأستاذ بجامعة كولومبيا والخبير في السياسة الصينية، أندرو ناثان يجيب على هذا السؤال بالإشارة إلى أن “ما” أصبح كبيرًا جدًا مقارنة بأقرانه ، سواء في خطابه أو نفوذه المالي، لذا فهو أمام سيناريوهين، إما الاعتقال أو الإقامة الجبرية، وكلاهما يصب في محاولة تأكيد الحزب الشيوعي الحاكم سلطته المطلقة.
مجلة “فوربس” كشفت أن ما يحدث هو جزء من خطة منهجية بدأت منذ خمس سنوات، تستهدف أباطرة المليارات ورجال الأعمال، لافتة إلى أن منذ 2015 وحتى اليوم اختفى ما لا يقل عن 6 من أصحاب المليارات عن الحياة العامة لفترات زمنية متفاوتة، بسبب معارضتهم لسياسات الحزب.
ومن أبرز الأسماء التي غابت عن المشهد خلال الأونة الأخيرة غو غوانغ تشانغ، مؤسس ورئيس مجلس إدارة مجموعة الاستثمار Fosun International، كذلك تشو تشانغ جيان، مؤسس شركة شركة الأزياء السريعة Shanghai Metersbonwe Fashion & Accessories، هذا بجانب قطب العقارات رين تشيتشيانغ الذي اختفى في مارس بعد نشر مقال على الإنترنت انتقد طريقة تعامل الحكومة الصينية مع جائحة كوفيد -19.
كما صدر حكم بالحبس 18 عامًا بحق وو شياوهوي، رئيس شركة “Anbang” الذي قام بشراء أحد فنادق “والدورف” في نيويورك، بتهمة ارتكاب جرائم مالية في 2018، فيما اعتقل في العام نفسه يي جيان مينغ، رئيس شركة تشاينا إنيرجي الذي سعى لاستثمار 9 مليارات دولار في شركة روسنفت الروسية
أستاذ السياسة والشؤون الدولية في جامعة برينستون، آرون فريدبرج، يعتبر أن طريقة التعامل خلال الأونة الماضية مع أباطرة المال والأعمال في الصين تؤكد رغبة سلطوية حكومية جامحة في الإطاحة بأي كيانات أو أشخاص تحد من سلطتها أو تنازعها فيها بالمال والتأثير.
ويضيف فريدبرج:”تركز الثروة الهائلة، خاصة في أيدي مديري الشركات الخاصة بدلاً من الشركات المملوكة للدولة، يتيح ممارسة النفوذ، وبالتالي يشكل تهديدًا محتملاً للحزب” وهو ما يتعارض مع التوجه العام للحزب الشيوعي خلال العامين الماضيين تحديدًا والذي يسعى لإيصال رسالة للكبار مفادها أنه “لا أحد فوق الحزب أو بعيدًا عن متناوله”.
تقليم أظافر أباطرة الإنترنت
في 27 ديسمبر 2020 نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرًا استندت فيه إلى رسالة صارخة بعث بها الناطق الرسمي باسم الحزب الشيوعي، في 2019، إلى الملياردير المختفي “ما”، أكد له من خلالها أن النفوذ الذي حققه وأقرانه من أباطرة الإنترنت إنما هو بفضل النظام وليس اجتهادًا من رجال الأعمال.
الرسالة كانت واضحة ومباشرة “نحن من صنعناكم ويمكننا صناعة غيركم بنفس الطريقة”، كما جاء فيها أنه لا يوجد عصر يسمى بعصر “ما” إنما يوجد عصر يعيش فيه “ما” ولا “هواتينج” (مؤسس شركة تنتست المنافسة لشركة علي بابا).
منذ تولي شي جين بينغ حكم البلاد في مارس 2013 وهناك توجه ما لإحكام السيطرة على شركات القطاع الخاص، رغم ما حققته تلك الكيانات من تقوية للمنظومة الاقتصادية الصينية التي كان لها دورًا كبيرًا في تحقيق الطفرة الهائلة التي دفعتها لريادة الاقتصاد العالمي.
هذا التوجه الداعم لتقليم أظافر تلك الشركات وأربابها مرجعه سياسي في المقام الأول، فهناك – كما هو حال النظم الديكتاتورية – قلق دائم من صعود أي نفوذ أخر غير نفوذ السلطة، حتى لو كانت شركات أو رجال أعمال لا علاقة لهم بالحكم وليس لديهم أطماع في الكراسي.
ومع التأثير الكبير للاقتصاد الرقمي في خلق بيئة توعوية عالمية كان لها دورًا في تحريك المياه الراكدة في مستنقعات السياسة اليابسة في بعض المجتمعات، تصاعد القلق الصيني حيال هذا المجال، الذي ورغم خلقه لمئات الآلاف من فرص العمل إلا أن هناك تخوف كبير منه بسبب ما يحمله من مقومات النهوض والمعرفة في ظل ما يمتلكه من بيانات لملايين المستخدمين، خشية توظيفها بما يقوض سلطة وقبضة النظام.
وكان من رحم تلك القبضة الحديدية التي فرضت على القطاع الخاص ومجال التكنولوجيا تحديدًا تراجع حجم الاستثمارات الصينية عبر دمج وشراء الشركات من 200 مليار دولار عام 2016 إلى 40 مليار عام 2019، هذا بجانب اضطرار العديد من الشركات لبيع أصولها التي تقدر بالمليارات بسبب الضغوط الحكومية المفروضة عليها.
وفي الأخير فإن حالة القلق من صعود شركات التكنولوجيا (هناك 6 شركات تكنولوجيا في قائمة أكبر 20 شركة صينية) من المرجح أن تتصاعد يومًا تلو الأخر، الأمر الذي يتوقع معه المزيد من التصعيد ضد أباطرة الإنترنت في الدولة التي تستهدف التربع على عرش الاقتصاد العالمي.
ربما يكون “ما” قد أخطأ التقدير حين ظن أن نفوذه سيحميه من السقوط من فوق الأحبال التي أجاد اللعب عليها لمدة عشرين عامًا مضت، لكن اختفاء شخصية بهذا الحجم وما رافقها من إجراءات قمعية بحق شركات التكنولوجيا الأخرى، وما سبقها من عقوبات ومحاكمات خلال السنوات الخمس الأخيرة، سيكون لها تداعيات السلبية على مستقبل الاستثمار في الصين، فيما سيظل غياب ما يون (الاسم الصينى لجاك ما) عن الأضواء لغزًا يحمل الكثير من علامات الاستفهام لحين الكشف عنه.