بعد تفاقم الاضطرابات في منطقة الساحل والصحراء وبروز تطورات جديدة في المنطقة المغاربية تحديدًا، وجهت الجزائر بوصلتها جنوبًا والبداية كانت من موريتانيا، فخلال الأيام الأخيرة شهد محور الجزائر موريتانيا، حركة دبلوماسية غير معهودة.
برزت هذه الحركة في تلقي الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، اتصالًا هاتفيًا من نظيره محمد ولد الشيخ الغزواني أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، ومباشرة بعدها حط رئيس الأركان العامة للجيوش الموريتانية محمد بمبا مقيت، في الجزائر في زيارة مفاجئة لم تكن مبرمجة، واستقبل من طرف قائد الأركان الجزائري سعيد شنقريحة.
حركية غير معهودة
الزيارة جاءت بعد ساعات قليلة فقط من زيارة وفد وزاري رباعي يضم كلًا من وزراء الخارجية صبري بوقادوم والصحة عبد الرحمن بن بوزيد والمالية عبد الرحمن راوية إضافة إلى وزير التجارة الجزائري كمال رزيق، نواكشط لدراسة آفاق التعاون بين البلدين، كما زار وزير الصحة منذ أيام قليلة فقط موريتانيا رفقة وفد صحي كبير ومعهم شحنات تضم أدوية ومعدات طبية متنوعة لصالح المستشفيات الموريتانية.
وتصدرت تطورات الأوضاع في منطقة الساحل الإفريقي والتعاون العسكري لمواجهة التحديات الأمنية المفروضة، لا سيما بين لجنة الأركان العملياتية المشتركة التي تضم أيضًا النيجر ومالي، اجتماع وفدي البلدين برئاسة رئيس أركان الجيش الجزائري سعيد شنقريحة ونظيره الموريتاني محمد بمبا مقيت.
الملفت للانتباه أنه منذ استلام الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، مقاليد الحكم في البلاد، انتعشت الحركة بين الجزائر ونواكشوط، على جميع المستويات خاصة الاقتصادية والأمنية، وهو ما تبرزه الأرقام الاقتصادية التي كشفها المدير العام للنشاط الخارجي في وزارة التجارية الجزائرية، إذ قال إن حصة المنتجات الجزائرية من إجمالي الواردات الموريتانية من البلدان الإفريقية بلغت 20%، ما يجعل الجزائر في خانة أحد أبرز الممونين الرئيسيين لموريتانيا، وتطمح الجزائر في رفع صادرتها لموريتانيا إلى 50 مليون دولار خلال 2021.
وعرفت صادرات الجزائر إلى موريتانيا خلال الفترة الممتدة بين يوليو/تموز إلى سبتمبر/أيلول 2020، ارتفاعًا بنسبة 100% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2019، حيث بلغت قرابة 9 ملايين دولار، وقد تأخذ منحى تصاعديًا جديدًا خلال العام الحاليّ بعد دخول منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية حيز التنفيذ إضافة إلى إدخال التحرير التدريجي للتعريفات الجمركية وتقليل الحواجز غير التعريفية.
جاء هذا التحول البارز في العلاقات بين البلدين بعد مرحلة من الفتور والجمود
وبحسب الأرقام التي كشفها الديوان الوطني الموريتاني للإحصاء (هيئة حكومية)، فإن الصادرات الجزائرية إلى موريتانيا سجلت تطورًا ملحوظًا بعدما كانت لا تتجاوز مليوني دولار خلال 2014، لتبلغ عتبة 53 مليون دولار سنة 2017 و42 مليون دولار في الأشهر التسع الأولى من سنة 2019.
جاء هذا التحول البارز في العلاقات بين البلدين بعد مرحلة من الفتور والجمود، فموريتانيا كانت خارج دائرة اهتمام النظام السابق الذي أبقى العلاقات الجزائرية الموريتانية محدودة خاصة في فترة الوزيرين الأولين السابقين أحمد أويحيى وعبد المالك سلال.
أسباب سياسية
يرجع متتبعون للمشهد السياسي والاقتصادي في البلاد هذا التحول لعدة اعتبارات سياسية وأمنية وحتى اقتصادية، فالجزائر غيرت بوصلتها منذ وصول تبون إلى قصر المرادية بأعالي العاصمة الجزائرية من الأسواق الأوروبية نحو الإفريقية التي تعد موريتانيا بوابتها خاصة بعد افتتاح المعبر البري التجاري الأول بين البلدين في أغسطس/آب 2018، الذي يربط بين مدينة تندوف الجزائرية والزويرات الموريتانية بهدف رفع وتيرة التبادل التجاري وتسهيل تنقل الأشخاص، إضافة إلى تعزيز التعاون الأمني في مجال مكافحة الإرهاب.
يقول الخبير في الشؤون الأمنية في منطقة الساحل الإفريقي، مبروك كاهي لـ”نون بوست” إن التقارب الجزائري الموريتاني ليس وليد اللحظة، فالعلاقات بين البلدين ضاربة في عمق التاريخ، فالجزائر كانت الدولة الوحيدة التي وقفت إلى جانب موريتانيا في الانضمام لجامعة الدول العربية بعد أن وقف المغرب ضدها، غير أن العلاقات بينهما شهدت فتورًا سياسيًا بسبب التدخل الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي، إضافة إلى انكفاء رجال القصر الرئاسي في الجزائر على أنفسهم في ظل مرض الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة.
ويؤكد المتحدث أن موريتانيا تبحث عن إقامة علاقات حقيقية تعود بالفائدة عليها وليست وهمية، خاصة أن الجزائر لها تجربة ناجحة في مجال الفلاحة الصحراوية وموريتانيا معروفة بالأراضي الصحراوية الشاسعة، في وقت تطمح الدبلوماسية الجزائرية لاقتحام أسواق دول غرب إفريقيا وحتى منطقة “إكواس”.
ويرى كاهي أن القيادة الجزائرية الجديدة قررت العودة للعمق الإفريقي، والدليل على هذا الزيارات المتتالية التي قام بها وزير خارجية الجزائر صبري بوقادوم منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي إلى دول إفريقية أبرزها نيجيريا، حيث أجرى مفاوضات مع رئيس مفوضية المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إكواس” التي تضم 15 بلدًا أبرزهم بوركينا فاسو والرأس الأخضر وساحل العاج وغامبيا وغانا وغينيا بيساو، وبدأ منذ يومين فقط بزيارة إلى جنوب إفريقيا وأنغولا التي كانت ثالث محطة له.
ويتابع الخبير في الشؤون الأمنية والسياسية قائلًا: “الجزائر تعمل على تفعيل المحور الإفريقي في ظل احتدام التنافس الدولي على هذه القارة وتفاقم الصراعات والحروب في المنطقة كالأزمة في ليبيا ومالي والحرب في إثيوبيا والنزاع القائم على الصحراء الغربية”.
إضافة إلى هذه الأسباب يذكر المتحدث سببًا آخر يتمثل في تحدي أمريكا لمنظومة الاتحاد الإفريقي، بعد إعلان دعمها للمغرب في ملف الصحراء الغربية وهو مناقض تمامًا لمسار التسوية للاتحاد الإفريقي الذي يتماشى مع الأمم المتحدة.
في أواخر عهد بوتفليقة عادت العلاقات إلى النشاط مع سياسة تشجيع الصادرات خارج المحروقات إلى غرب إفريقيا عبر موريتانيا
ويختتم مبروك كاهي حديثه مع “نون بوست” بالقول: “زيارات وزير خارجية الجزائر إلى المنطقة الإفريقية هي رسائل واضحة من القارة للإدارة الأمريكية الجديدة، كما أن هذه الزيارات تشكل حرجًا كبيرًا للمغرب الذي يبدو اليوم معزولًا عن إفريقيا”.
في المقابل يعتبر المحلل السياسي والإعلامي الجزائري أحسن خلاص، أن العلاقات مع موريتانيا قديمة وكانت قوية ومتينة خاصة في فترة الثمانينيات، لكن الظروف التي مرت بها الجزائر خلال التسعينيات جعلت هذه العلاقات تتراجع، بل وصلت حد التوتر في عهد الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة الذي لم تكن موريتانيا ضمن أولوياته إطلاقًا.
ويقول خلاص لـ”نون بوست”: “في أواخر عهد بوتفليقة عادت العلاقات إلى النشاط مع سياسة تشجيع الصادرات خارج المحروقات إلى غرب إفريقيا عبر موريتانيا”.
ويذكر المحلل السياسي أيضًا التوتر القائم حاليًّا مع المغرب الذي دفع العلاقات الثنائية مع موريتانيا خاصة أنه تزامن مع الانتقال السياسي في البلدين، ويشير المتحدث إلى أن الرئيس الموريتاني السابق لم يكن متحمسًا لتنشيط العلاقات مع الجزائر وهو المعروف بارتباطه بالمغرب بعلاقات مصاهرة، بينما الرئيس الحاليّ لموريتانيا ليس له خلفية عدائية للجزائر.
ومنذ استلام الرئيس محمد الشيخ ولد الغزواني مقاليد الحكم في موريتانيا، تمر العلاقات الموريتانية المغربية بفترة عصيبة، برزت بشكل لافت في التصريحات التي أطلقها الغزواني، بشأن قضية الصحراء في 6 من مارس/آذار الماضي، حيث شدد على أن السياسة الموريتانية تجاه قضية الصحراء الغربية لم ولن تتغير، وهو الاعتراف بالجمهورية الصحراوية لأنه موقف من ثوابت السياسة الخارجية للبلد، ولم تتوقف تصريحات الغزواني عند هذا الحد، بل قال أيضًا: “موقفنا لا يزال نفسه، أي الحياد الذي تبنته موريتانيا، لكنه حياد إيجابي بحكم العلاقة بمختلف الأطراف وحساسية الملف وأهمية الحل بالنسبة إلى الدولة الموريتانية”.