“كنت في البداية غير مقتنع بخروج الإعلاميين من الشمال السوري والهجرة إلى أوروبا، ولكن بعد ارتفاع عدد الاغتيالات والاعتقالات للإعلاميين، لم أعد قادرًا على لومهم”، بهذه الكلمات علق الإعلامي غياث أبو أحمد على حالة الاغتيالات التي تستهدف الإعلاميين والصحفيين في مناطق شمالي سوريا الواقعة تحت سيطرة المعارضة.
غياث أبو أحمد المقيم في إحدى مناطق ريف إدلب، ظل مؤمنًا بدور الكاميرا ورسالتها، فعلى الرغم من كل المخاطر التي تحيط بمهنته والتي تتطلب منه التواجد في الميدان في أكثر الأوقات خطورة، بقي مصرًا على إيصال الصورة من الداخل إلى العالم كله، لكن مع ازدياد حالات استهداف الإعلاميين في الفترة الأخيرة، بدأ بتخفيف نشاطه قدر الإمكان خوفًا على حياته وحياة أسرته الصغيرة.
يقول المصور غياث، الذي أصيب إصابةً بالغةً في يده سابقًا برصاص قوات النظام، في حديثه لـ “نون بوست”، إن “ضرورة وجود إعلاميين وإعلام حر بالنسبة للثورة مثل ضرورة الرماة في غزوة أحد، لا يمكنهم ترك مواقعهم، لأنهم ببساطة السلاح الأقوى في وجه كل مستبد”.
ويضيف إن الإعلاميين في شمالي سوريا اليوم “لا يدري أحدهم متى دوره في مسلسل الاغتيال”، حيث تشهد تلك المناطق حالة من القلق والارتباك في صفوف الإعلاميين القاطنين هناك، فقد اغتال مسلحون الصحفي حسين خطاب في مدينة الباب بريف حلب بعد أن أطلقوا النار باتجاهه، ما أدى إلى وفاته على الفور، وكما العادة في مسلسل الاغتيالات فإن الفاعل ما زال مجهولًا ويده ما زالت غير مقيدة عن فعل أي اغتيالات أخرى بحق أشخاص آخرين.
ولم يمض أيام على اغتيال خطاب حتى أتت أخبار أخرى عن عملية أخرى استهدفت الصحفي والناشط الإعلامي بهاء الحلبي، الذي نجا من “موت محقق”، إذ هاجمه مسلحون ملثمون وأطلقوا عليه النار من أسلحة رشاشة في سيارته، إلا أنه نقل على الفور إلى مشفى مدينة الباب، وأثارت هذه العملية موجة من الغضب على خلفية حالات الاستهداف المستمرة وغياب أي دور للشرطة في ضبط الأمن في تلك المناطق.
غياب الرادع
يُجمع الإعلاميون والصحفيون الموجدون في مناطق شمالي سوريا على أن من يقوم بالعدد الأكبر من عمليات استهداف واغتيال الإعلاميين، هم خلايا نظام بشار الأسد أو مجموعات تنظيم “داعش” الإرهابي النائمة في تلك المناطق، وهو ما يضيفه لنا أبو أحمد بقوله “هناك عدة جهات تقوم بعمليات الاغتيال ولكن الغالبية هم بقايا داعش في المنطقة وخلايا النظام المجرم، بالإضافة طبعًا إلى بعض التنظيمات الكردية مثل PKK وPYD”.
يؤكد الصحفي السوري مسلم سيد عيسى في حديثه لـ “نون بوست” هذه المعلومات، ويقول: “المنطقة مخترقة من كل التنظيمات التي لها حسابات تريد تصفيتها في شمالي سوريا، بدءًا من داعش وليس انتهاءًا بالتنظيمات الكردية والنظام السوري، إضافةً أيضا إلى التصفيات الداخلية بين الفصائل الموجودة في هذه المناطق، إذ أن بعض الفصائل تستهدف كل من يعارضها ويقف بوجهها”، ويرى مسلم أن “أكثر عمليات التصفية يقوم بها النظام السوري وتنظيم داعش، لأنهم لهم المصلحة الأكبر بالتخلص من هؤلاء الناس”.
مسؤولية الحماية
“تقع مسؤولية حماية الاعلاميين على الفصائل وجهاز الشرطة والأمن” هذا ما يقوله أبو أحمد عن المسؤول الأول عن حماية الصحفيين والإعلاميين مشيرًا إلى أن ” كثرة الفصائل في المنطقة وضعف التنسيق الأمني بينهم هو ما أوصلنا لهذه الحالة”، مضيفًا “لو أن فصيلًا محددًا يهتم أمنيًا بمنطقة الباب في ريف حلب لكان من السهل أن يُضبط الأمن ويوقف هذه الحالة المزرية”.
إلى ذلك، توجهنا بالسؤال إلى الفاروق أبو بكر أحد القادة العسكريين في الجيش الوطني السوري عن مسؤولية حماية الصحفيين وهل من معلومات حول استهدافهم، فقال: “منطقة ريف حلب الشمالي متاخمة لعدوين أساسيين هما قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وقوات النظام السوري، وهما من يريد زعزعة أمن المنطقة، إضافة إلى عدو ثالث هو داعش على شكل خلايا نائمة”، ويضيف أبو بكر إن “المسؤولية في الحماية تقع على المؤسسات الموجودة في المنطقة كالشرطة والفصائل والمؤسسات القضائية”.
يشير أيضا أبو بكر إلى عدم وجود تحرك جماعي ضد عمليات الاستهداف والاغتيال، ويقول: “للأسف إلى الآن لا يوجد تحرك جماعي ضد عمليات الاستهداف والاغتيال. الآن كل فصيل يعمل بحسب منطقته وبعض الفصائل غير جادة في التعامل مع هذه التحديات، فثمة مناطق فيها تفجيرات واستهدافات واغتيالات ويوجد مناطق آمنة نسبيًا وذلك بحسب الفصائل وجديتها بالتعامل مع الأزمة”.
يرى القائد العسكري أن الحل يكمن في “ضبط المناطق بتشكيل جهاز أمني موحد بعيدًا عن الفصائلية الموجودة في المنطقة، وذلك بالجانب إلى التعامل مع طرق التهريب المرتبطة مع مناطق النظام ومناطق الوحدات الكردية، وهي محمية من قبل الفصائل الفاسدة وهي من تدير التهريب في المنطقة وإذا لم يتم التعامل مع خطوط التهريب والفاسدين سنبقى أمام مشاهد متكررة من التفجير والاغتيالات وما إلى ذلك”.
هجرة مستمرة
في ديسمبر/ كانون الأول من العام المنصرم دخل عدد من الناشطين الإعلاميين السوريين إلى تركيا، تحضيراً لنقلهم إلى ألمانيا، وكان “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” بالتعاون مع منظمة “مراسلون بلا حدود” نظموا إجراءات لإخراج الدفعة الأولى، ونقلهم إلى أمكنة آمنة في دول أوروبية وافقت على استقبالهم في وقت سابق، وأرسل المركز أسماء 470 اسماً ناشطين وناشطات إلى سلطات الدول الأوروبية، المهتمة باستقبالهم، وقُبل منهم حتى الآن 75 شخصاً.
وفي هذا الخصوص، يرى الصحفي مسلم سيد عيسى أن الخوف ليس السبب الأول لخروجهم وإنما البحث عن فرص جديدة، فبحسب قوله “فإن طاقات العديد من الإعلاميين والصحفيين استنزفت خلال 10 سنوات من تغطية الأحداث وسط أجواء الحرب المحفوفة بالمخاطر”، وحان الآن وقت الاستقرار بعيدًا عن الحرب في دول أخرى، ومؤكدًا مرة أخرى أن “الخوف ليس سببًا رئيسيًا في الخروج، لأن الإعلاميين الذين واجهوا نظام بشار الأسد الذي هو أكبر مصدر تهديد لحياتهم لن يخافوا من العقبات الموجودة في الشمال السوري على خطورتها”.
إحصائيات الانتهاكات في سوريا
تواصلنا في “نون بوست” مع مركز توثيق الانتهاكات في سوريا لأخذ إحصائية عن عمليات الاغتيال التي حصلت في مناطق شمالي سوريا منذ عام 2017، أرسل المركز قائمةً تضم 6 حوادث اغتيال لإعلاميين وصحفيين، وهذه الحالات هي من ضمن عمليات استهداف متكررة، حيث يوجد وقائع اعتقال واعتداء وضرب عدا عن تلك العمليات التي فشلت في تحقيق أهدافها.
حسين خطاب: فارق الصحفي حسين خطاب الحياة بعد أن أطلق مجهولون النار عليه في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2020، أثناء إعداده تقريرًا إعلاميًا بمدينة الباب في ريف حلب الشرقي، استقرت رصاصة واحدة في رأسه والبقية في صدره، ما أدى لوفاته مباشرة. وعمل “خطاب” المنحدر من مدينة السفيرة بريف حلب الشرقي، في مجال الإعلام لصالح عدد من الوكالات المحلية، وعمل أيضًا في إعداد التقارير المرئية لصالح قناة TRT التركية.
كمال أبو الوليد: قُتل الناشط الإعلامي السوري كمال أبو الوليد، في آذار/مارس 2018، بانفجار لغم أرضي كانت قد زرعته الوحدات الكردية، قبل انسحابها من مدينة عفرين في ريف حلب الشمالي الغربي، أثناء عمله على تصوير تقرير في المدينة بعد سيطرة القوات التركية وفصائل الجيش السوري الحرّ عليها.
محمد علي بكور: وجد بكور في شهر مارس/ آذار من 2017 مقتولًا بطلق ناري في الرأس على الطريق الواصل بين مدينتي إدلب – أريحا، وعن طريق الأهالي تم الإخبار عن جثته ليتجه فريق منظمة بنفسج الى مكان الجثة ويتم التعرف على المغدور، وكان بكور متطوعًا مع فريق منظمة بنفسج وناشطًا إعلاميًا مع مركز معرة النعمان الإعلامي منذ عام 2016.
محمد بكور ناشط إعلامي قتله مجهولون في مدينة إدلب
رائد الفارس وحمود الجنيد: هزت عملية اغتيال رائد الفارس وحمود الجنيد الشمال السوري، حيث كان لهما نشاط كبير منذ انطلاقة الثورة السورية، وفي نوفمبر/ تشرين الأول من عام 2018، كانا الناشطيين الإعلاميين يستقلان سيارة ومتوجهين إلى منطقة أحراش كفرنبل وكانت سيارة تلاحقهم لتعترض بعدها طريقهما ويترجل منها شخصان يفتحان النار على رائد وحمود فيردوهما قتيلين.
عمر الدمشقي: قتل الناشط الإعلامي عمر الدمشقي في حزيران/ يونيو من عام 2019 في قرية سرمدا بريف إدلب جراء انفجار عبوة ناسفة وضعت في سيارة ولم يكشف عن الجهة المسؤولة عن التفجير. ويعمل الدمشقي مصوّراً مع المكتب الإعلامي لمنظمة “الراحمون يرحمهم الله”.
عمومًا، فإن سوريا منذ عام 2011 من أخطر البلدان للعمل الإعلامي والصحفي، خاصة في مناطق النظام السوري، حيث وثقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” مقتل 707 صحفيين منذ اندلاع الثورة السورية وذكرت أن “سوريا تعتبر من الدول الأكثر فتكاً بالصحفيين”، وأشار تقرير الشبكة إلى مقتل 707 صحفيين بينهم 6 سيدات و9 صحفيين أجانب و52 قتلوا تحت التَّعذيب منذ آذار 2011، إضافة إلى إصابة ما لا يقل عن 1563 بجروح متفاوتة، على يد أطراف النزاع الرئيسة الفاعلة في سوريا.
وأضاف أن 551 صحفياً، بينهم سيدة و5 أجانب، قتلوا على يد قوات النظام والميليشيات المدعومة إيرانياً، فيما أودت الغارات الروسية بحياة 22 صحفياً منذ 2011. كما قُتل خلال الفترة نفسها، 64 صحفيا على يد تنظيم “داعش”، و4 آخرين على يد تنظيم “ي ب ك/بي كا كا”، فيما قتلت مجموعات مسلحة مناهضة للنظام، 33 صحفيًا.
بالمحصلة، يحتاج الصحفيون والإعلاميون اليوم في مناطق شمالي سوريا إلى حماية أو رادع قانوني سواء من فصائل أو مجالس محلية، وإن كانت تلك الخيارات غير متاحة في الوقت الحالي، فلا بد أن تعيد المؤسسات والمنظمات الحقوقية الإنسانية والإعلامية النظر في هذه المسألة بجدية أكبر، وعليها أن تكون صارمة في إدانة تلك الفظائع وأن تحاسب كل الذين يشتركون في ارتكاب تلك الاستهدافات، ولعل أهون ما يمكن البدء فيه هو تنظيم حملات تتصدى لهذه الانتهاكات، لأنه لا يخفى على أحد مدى احتياج تلك المناطق للمنابر الإعلامية التي تنقل الصورة للخارج، وبدونها فإننا سنخسر أولًا الكوادر الإعلامية، وثانيًا الحقيقة.