انتظر التونسيون، إلى وقت متأخر من ليلة أمس الخميس، رئيس بلادهم قيس سعيد عله يخرج عليهم ليهنئهم بالذكرى العاشرة لثورة الياسمين. تأخر ظهوره، فانتظروا أن ينشر بيانًا على صفحة الرئاسة لكن لم يحدث هذا أيضًا.
إذ يبدو أن للرئيس مشاغل أكبر، فكل تركيزه ينصب على تسجيل نقاط جديدة ضد الحكومة والبرلمان، رغم أنه وعد سابقًا بتحقيق مطالب الثورة في ظل الدستور والشرعية الدستورية، مؤكدًا بأنه لا يهتم برئاسة الجمهورية ولا رئاسة الدولة، وإنما تحقيق مشروع الشعب التونسي في الحرية والشغل والكرامة الوطنية.
تضحيات التونسيين
من المتعارف عليه في تونس منذ سنة 2011، أن يشارك رئيس البلاد يوم 14 من يناير/كانون الثاني، شعبه في احتفالاته بعيد الثورة التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي وأسست للجمهورية الثانية في هذا البلد العربي، بعد عقود من الديكتاتورية والاستبداد.
كان هذا في عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وقبله الرئيس المنصف المرزوقي، فكلاهما كان يشارك التونسيين فرحتهم، حتى إن كان بشكل رمزي وشكلي، إلا أن سعيد يقول صراحة إنه لا يعترف إلا بيوم 17 من ديسمبر/كانون الأول عيدًا للثورة، لكن الغريب أنه لم يتحول في ذلك اليوم أيضًا إلى مدينة سيدي بوزيد للمشاركة في الاحتفالات، بزعم أن لديه أعمالًا طارئة في ذلك اليوم، وفي ظل متابعتنا لنشاطه لم يكن في جدوله ما يزعم.
اهتمام الرئيس منكب حاليًّا على صراعه مع رئيسي الحكومة هشام المشيشي والبرلمان راشد الغنوشي
يذكر أنه في ذاك التاريخ، أحرق الشاب محمد البوعزيزي جسده، أمام مقر محافظة سيدي بوزيد، احتجاجًا على منع السلطات المحلية له من ممارسة نشاطه كتاجر متجول بالمدينة، ما أطلق احتجاجات أسقطت نظام بن علي في 14 من يناير/كانون الثاني 2011، وتعتمد الدولة تاريخ 14 يناير يوم عطلة وعيدًا للثورة.
يرى العديد من التونسيين أن عدم اعتراف سعيد بعيد الثورة يعتبر تنكرًا لتضحيات مئات التونسيين الذين سقطوا برصاص قوات الأمن خلال الثورة، علمًا بأن قوات الأمن قتلت 132 محتجًا وأصابت 4000، وفقًا للجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق عن التجاوزات والانتهاكات خلال الثورة.
استهجان كبير
تجاهل قيس سعيد لذكرى الثورة العاشرة، أثار استهجانًا كبيرًا في تونس، فقد قال الأمين العام للحزب الجمهوري، عصام الشابي: ”نعلم سيدي الرئيس أنك لم تشارك في أحداث الثورة ولا في النضالات التي مهدت لها، ولكننا أعتقدنا للحظة أنك تبنيت شعارات الثورة التي وصلت بفضلها إلى سدة الحكم، وأنك لا يمكن أن تستكثر على شهدائها ومناضليها تحية لنضالاتهم وتخليدًا لتضحياتهم ولو في كلمة متلفزة.. لكن خاب ظننا”.
لم يتوجه الرئيس قيس سعيد الى مدينة سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر كما كان وعد بذلك ” لالتزامات طارئة ” .. و لم يتوجه إلى الشعب…
Publiée par Issam Chabbi – عصام الشابي sur Mercredi 13 janvier 2021
من جهته انتقد الكاتب التونسي نور الدين العلوي، عدم اهتمام الرئيس قيس سعيد بعيد الثورة، وكتب في تدوينة له على صفحته الخاصة على فيسبوك جاء فيها: “أيها اللاشيء… العار أطول من العمر”، في إشارة إلى سعيد.
بدورها كتبت الصحفية التونسية ألفة خديمي تدوينة جاء فيها: “الرئيس قيس سعيد رغم أن الثورة ونتائجها أوصلته للحكم إلا إنه في 14 جانفي لم نسمع له كلمة ولا تعليقا بالمناسبة”.
ايها اللاشيء ….. العار اطول من العمر ….
Publiée par نور الدين العلوي sur Jeudi 14 janvier 2021
أما الإعلامية أميمة الجوادي فكتبت: “سيدي الرئيس عندك الحق ما خرجتش وتوجهت بكلمة في ذكرى الثورة، خاطرك (لأنك) لا شاركت فيها ولا كنت يوم من الأيام مناضل ضد الديكتاتورية.. كنت خدام حزام وعندك شهرية مسمار في حيط (موظف).. وما كنتش لا صاحب موقف ضد النظام ولا كنت هامك وضع الشعب وقتها”.
ضرب الحكومة
يبدو أن اهتمام الرئيس منكب حاليًّا على صراعه مع رئيسي الحكومة هشام المشيشي والبرلمان راشد الغنوشي، فكل همه تسجيل نقاط جديدة ضد الحكومة والبرلمان، ومؤخرًا قال وزير الخارجية التونسي، عثمان الجرندي، المحسوب على سعيد إن الجزائر وافقت على تقاسم حصتها من اللقاحات الخاصة بفيروس كورونا مع بلاده، وذلك على إثر انتقاد العديد من التونسيين “تقصير” الحكومة في الحصول على لقاح كورونا.
لكن تبين فيما بعد أن تصريح الوزير مجرد كلام للاستهلاك الداخلي وتسجيل النقاط، إذ صرح وزير الصحة الجزائري عبد الرحمان بن بوزيد بأن “طلب تونس بشأن اقتسام اللقاح سيدرس من الحكومة، ولما يكون عندنا اللقاح من الممكن اقتسامه معها”، أي أنهم لم يتطرقوا لهذا الموضوع بعد.
هذه الأزمة بين رئيس الدولة والحكومة، يبدو أنها ما زالت متواصلة وتنبئ بتطورات كثيرة في القريب العاجل خاصة في ظل إصرار قيس سعيد على تجاوز صلاحياته
منذ بداية شهر سبتمبر/أيلول الماضي تعرف العلاقة بين سعيد والمشيشي توترًا كبيرًا رغم أن الرئيس قيس سعيد هو من اقترح هشام المشيشي لتولي رئاسة الحكومة خلفًا لإلياس فخفاخ الذي استقال نتيجة اتهامه بقضايا فساد.
اختار سعيد المشيشي، رئيسًا للحكومة بعد عملية “كاستينغ” شملت شخصيات عديدة واختاره ليكون وزيرًا أولًا بالنظر لضعف تاريخه السياسي وفقدانه للحزام السياسي الداعم له، لكن لم يكن المشيشي مثلما توقعه رئيس الجمهورية، حيث بادر منذ البداية بربط الصلة مع الأحزاب علنًا وسرًا، ما أثار حفيظة سعيد.
ويسعى سعيد إلى أخذ زمام الأمور، في الوقت الذي يستعد فيه رئيس الوزراء للإعلان عن تعديل وزاري قد يطيح بالوزراء المحسوبين على سعيد، وتشهد الحكومة الحاليّة شغور ثلاث حقائب وزارية هي: وزارة الثقافة ووزارة الشؤون المحلية والبيئة ووزارة الداخلية.
يفهم من هذا أن قيس سعيد يسعى إلى الهيمنة والإمساك بزمام السلطة التنفيذية في البلاد، وهو ما يراه المشيشي تعديًا على صلاحياته التي يمنحها له الدستور، في غياب المحكمة الدستورية التي تعتبر وسيلةً حيويةً للحفاظ على توازن مؤسسات النظام.
يبدو أن سعيد الذي قال ذات مرة بلغته العربية الفصحى التي لا تفارق خطاباته، بأنه يشعر أحيانًا بأنه “من كوكب آخر”، يعيش حقًا في عالم مختلف عن عالم شعبه، ففي الوقت الذي يجب أن يكون فيه رئيسًا لكل التونسيين ورمز وحدتهم اختار أن يكون سببًا للانقسام وتراجع أداء مؤسسات الدولة.
صراع الرئيس مع الحكومة والبرلمان، أثر في البلاد سلبًا، فقد زاد من درجة الاستقطاب والانقسام السياسي بعد 10 سنوات من الثورة، ما جعل الديمقراطية الناشئة في تونس، تواجه تحديات غير مسبوقة ومخاطر كثيرة قد توقف قطار الانتقال الديمقراطي.
هذه الأزمة بين رئيس الدولة والحكومة، يبدو أنها ما زالت متواصلة، خاصة في ظل إصرار قيس سعيد على تجاوز صلاحياته والتمسك بكل السلطات حتى التي لا يخولها له الدستور، صراع ستكون له تداعيات سلبية كثيرة على الوضع العام في تونس.
وصل قيس سعيد إلى قصر الرئاسة في قرطاج اعتمادًا على أصوات فئات واسعة من الشباب وشرائح اجتماعية كثيرة صوتت له رغبة منها في تحقيق أهداف الثورة التي نادى بها الشباب عشية 14 من يناير 2011، إلا أنه لم يحقق شيئًا منها بعد سنة من توليه الحكم بل على العكس زاد من حدة الصراع السياسي.