ترجمة وتحرير: نون بوست
مضى عقد على الانتفاضات العربية ضد النظام النيوليبرالي الذي ترعاه الولايات المتحدة وأوروبا وضد الديكتاتوريين العرب الذين خدموا المصالح الرأسمالية وقمعوا الحقوق الاقتصادية والسياسية والمدنية لشعوبهم. وقد قتل مئات الآلاف من العرب، غالبيتهم العظمى في سوريا واليمن.
بينما أطاحت الانتفاضات بزين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر وعلي عبد الله صالح اليمني – على الرغم من الدعم الغربي الهائل الذي تلقاه ثلاثتهم- لم تتمكن الانتفاضات من خلع المستبدين البحرينيين والسعوديين والأردنيين والمغاربة والعمانيين، كما وقع تغييب تلك الانتفاضات في الصحافة الغربية.
بذلت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون الصغار كل ما في وسعهم لإطاحة الحكام المستبدين السوريين والليبيين، الذين رفضوا الخضوع الكامل للإملاءات الإمبريالية، على الرغم من أنهم كانوا يتحركون بشكل متزايد في هذا الاتجاه. وجاء التدخل الأمريكي مصحوبا بالأسلحة التي لا تقل كلفتها عن مليار دولار والتي وقع ضخها إلى سوريا من قبل إدارة أوباما، حيث انتهى بعضها في أيدي المتمردين المرتبطين بتنظيم القاعدة.
المذابح والضحايا
نجحت القوى الغربية في نهاية المطاف في الإطاحة بمعمر القذافي وسلب ثروات البلاد وتدمير ليبيا في حرب لا نهاية لها، والتي شهدت السرقة المستمرة للنفط الليبي. وعلى الرغم من فشلها في الإطاحة ببشار الأسد، إلا أنها تمكنت من تدمير سوريا وإغراقها في مذبحة مستمرة، مع سقوط مئات الآلاف من الضحايا.
تلعب الأيادي الغربية دورا في كل بلد عربي، كما هو الحال في جميع أنحاء العالم – وكان لها دور حاسم في إظهار نتيجة بعض أو كل الانتفاضات العربية، هذا إن لم تكن العامل الذي تسبب في بدايتها. لكن دورها لم يكن هو الدور الحاسم الوحيد. يجب أن تركز مسألة نتيجة الانتفاضات العربية على أولئك الذين زعموا أنهم قادوا التظاهرات والذين جاءوا للتحدث باسمها وتحديد اتجاهها.
لدينا هنا خصمان متنافسان، نيوليبراليان اقتصاديا وليبراليان سياسيا، وهما: الليبراليون والعلمانيون والمفكرون والناشطون من الطبقة الوسطى وبعض حلفائهم من رجال الأعمال، والمفكرين والناشطين الإسلاميين والليبراليين من الطبقة الوسطى وحلفائهم من رجال الأعمال.
كان خطاب المجموعتين المتنافستين حول حقوق الإنسان والحقوق السياسية يتميز بلغة غربية ليبرالية. لكن كلاهما ابتعد عن القضية الأساسية للحقوق الاقتصادية، باستثناء الدعوة إلى حلول علاجية معتدلة للتخفيف من الآثار الأكثر تطرفا لعملية الإفقار التي تسببت فيها النيوليبرالية.
على عكس الليبراليين العلمانيين، الذين لم يقدموا سوى خطابا فارغا، قدم الليبراليون الإسلاميون جمعياتهم الخيرية وكذلك بنوكهم ومدارسهم ومستشفياتهم
على سبيل المثال، لم تتحدث المجموعتان أبدا عن إعادة توزيع الأراضي (بينما أعيد توزيع الأراضي في مصر في الخمسينات، والتي عادت تدريجيا إلى الأغنياء منذ استعادة الرأسمالية في السبعينات) وتأميم البنوك والمصانع والقيود الرئيسية على هروب رؤوس الأموال وزيادة هائلة في الضرائب على الأغنياء أو حتى التوسع الكبير في الخدمات الاجتماعية الحكومية. ومثل نظرائهم الغربيين، اعتقد الراديكاليون من المجموعتين أن الدعوة إلى حد أدنى للأجور هي أكثر القضايا الاشتراكية خطورة.
على عكس الليبراليين العلمانيين، الذين لم يقدموا سوى خطابا فارغا، قدم الليبراليون الإسلاميون جمعياتهم الخيرية وكذلك بنوكهم ومدارسهم ومستشفياتهم “الإسلامية” النيوليبرالية للتخفيف من آثار الفقر الذي خلقته النيوليبرالية. لكن وجهي العملة نفسها كان لهما رعاة أجانب مختلفون.
تمجيد من قبل وسائل الإعلام الغربية
لم يقع تمجيد الليبراليين العلمانيين، الذين زعموا أن الانتفاضات كانت من صنعهم وأن الليبراليين الإسلاميين كانوا متطفلين، من قبل وسائل الإعلام الغربية والمنظمات غير الحكومية فحسب، بل وأيضا من قبل القادة الأمريكيين؛ من وزيرة الخارجية الإمبريالية السابقة هيلاري كلينتون (الذي عبر تصريحها “جئنا ورأينا، لقد مات” عن سعادتها بتدمير ليبيا) إلى رؤساء جامعات الولايات المتحدة التابعة لرابطة اللبلاب والمناهضين للفلسطينيين، الذين رحب بعضهم بالأهداف الليبرالية “للربيع العربي”.
كان الليبراليون الإسلاميون مدعومين بشكل أساسي من قطر التي اعتبرت أن الإخوان المسلمين سيكونون البديل الأكثر أمانا للديكتاتوريات القائمة خارج منطقة الخليج. وافترضت قطر أن جماعة الإخوان المسلمين ستهدأ المحتجين بخطابها السياسي الليبرالي والديني دون المساس بالنظام الرأسمالي النيوليبرالي.
نظرا لأن مشروع كلا المجموعتين كان احتواء وتوجيه الاحتجاجات إلى أهداف سياسية واقتصادية صديقة للإمبريالية، لم يكن هناك تناقض في التحالفات التي شكلاها. في الواقع، سعى كلاهما للحصول على مؤيدين إمبرياليين للديكتاتوريات المحلية كحلفاء.
أنصار جماعة الإخوان المسلمين في مصر يتظاهرون في القاهرة سنة 2012
بصرف النظر عن الديكتاتوريين العرب المستهدفين ورعاتهم الأمريكيين والأوروبيين، وقعت المهمة الرئيسية المتمثلة في الثورة المضادة على عاتق المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. لقد شاركا قطر هدف حماية عروشهم، ولكن على عكسها، لم يثقا بأي جهد ثوري. في الواقع، أصر السعوديون والإماراتيون على حماية الديكتاتوريات المحلية بأي ثمن خوفا من تأثير الدومينو الذي سينهي حكمهم.
بما أن اهتماماتها تقتصر على استثماراتها الاقتصادية والسياسية، اختارت الولايات المتحدة والدول الأوروبية الاستقرار. إذا أدى الحفاظ على دكتاتور عميل إلى زعزعة استقرار بلد ما، فإن القوى الإمبريالية ستدعم مرشحا جديدًا – إذا تم اعتباره مؤهلا لاستعادة الاستقرار. عدا ذلك، فإنها ستصر على إعادة إرساء أنظمة ديكتاتورية. أما إذا فشلت في ذلك، فلن تتردد في الزج بالبلاد في حالة من الفوضى، كما فعلت في اليمن.
التحالف الأوتوقراطي
في مصر، ضم تحالف قوى الحكم الاستبدادي الليبراليين العلمانيين، الذين أصروا على أنهم إذا خسروا المنافسة الديمقراطية مع الإسلاميين، فإنهم سيدعمون عودة الديكتاتورية. لذلك، بعد الانتصار الانتخابي الذي حققته جماعة الإخوان المسلمين سنة 2012، واجهت الحكومة الجديدة تشكيلة واسعة من الأعداء النافذين، المحليين والأجانب، وفشلت في تحقيق الاستقرار في البلاد؛ مما أجبر الولايات المتحدة وأوروبا على التخلي عنها ودعم عودة الحكم الاستبدادي.
أما في تونس، لم تكن سياسات الليبراليين العلمانيين بعيدة عن تلك التي انتهجها الليبراليون الإسلاميون (الممثلين بحزب النهضة)، لكن الإسلاميين فهموا درسا مهما من الخيانة الليبرالية العلمانية في مصر، وتجنبوا لفت الأنظار. ساهم ذلك في الحفاظ على استقرار نسبي لم يؤد حتى الآن إلى دعم غربي صريح لعودة الحكم الاستبدادي في تونس.
في ليبيا وسوريا، أدرك الاستعماريون الغرب جيدًا أن إيجاد بديل لتحقيق الاستقرار للأنظمة القائمة لم يكن سوى وهم غير واقعي، وقرروا إغراق البلدين في بحار من الدماء، ما قد يسمح بسرقة الغرب للنفط الليبي، وإضعاف التحالف التكتيكي للنظام السوري مع أولئك الذين يقاومون الإملاءات الأمريكية في المنطقة. ومع أن جهودهم نجحت في ليبيا، كانت النتائج متضاربة في سوريا.
في اليمن، يُزعم أن الولايات المتحدة شنت حربًا ضد تنظيم القاعدة، إلا أنها لاحقًا عمدت إلى تكليف السعوديين والإماراتيين بها، الذين شرعوا بدورهم في التدمير الشامل للشعب اليمني. لقد كانت خطوة ذات مخاطر غير محسوبة، مازالت محاولات السيطرة عليها قائمة.
على الرغم من التحالفات متعددة الطبقات التي اتسمت بها الانتفاضات، حيث تقاسم الفلاحون الفقراء، والعاطلون عن العمل وناقصو العمالة في المناطق الحضرية، المطالب ذاتها التي تضم أساسا الحقوق الاقتصادية، إلا أن تلك النضالات باءت بالفشل بسبب قيادة الطبقة الوسطى الليبرالية للانتفاضات، سواء أكانت علمانية أم إسلامية، التي طالبت من جهتها بالحقوق السياسية والمدنية فحسب، دون تلك الاقتصادية.
صراع طويل وشاق
بالمثل، شكلت تلك الظروف الاقتصادية ذاتها الدافع وراء الانتفاضات في الجزائر والعراق والسودان ولبنان في السنوات اللاحقة، لكن ولأن المتحدثين الليبراليين الذين نصبوا أنفسهم بأنفسهم لم يتعلموا شيئًا من إخفاقات العقد الماضي، أُجهضت هذه الانتفاضات أيضا، حيث مثلت التغييرات السياسية الظاهرية، كما في السودان والجزائر، أبرز إنجازاتها، دون أي تغيير في الواقع الاقتصادي القائم.
هذا ما أطلق عليه الغرب اسم “الربيع العربي”، والذي فصلّت تاريخه حينها في مقال لي على موقع الجزيرة باعتباره مصطلحا لحرب باردة أمريكية، وقع استعارته من “ربيع الأمم” الأوروبي في سنة 1848، إلا أنه غالبا ما ينسب إلى “ربيع براغ” في 1968. لقد أُطلق عليه اسم “الربيع العربي” كخدعة، وأيضا كإقرار إمبريالي غربي بأن قادته لا يطالبون إلا بالحقوق الليبرالية الصديقة للغرب.
لقد كانت خسائر الأرواح التي خلفها الدمار وقمع الانتفاضات العربية باهظة للغاية. وكان لتعاون الليبراليين العلمانيين الذين باتوا فاشيين مع الديكتاتوريات والقوى الإمبريالية في عدد من البلدان العربية دور أساسي في حسم النتائج. ومع ذلك، يصرّ الصوت الرئيسي للرأسمالية الغربية الليبرالية الجديدة، صحيفة الإيكونوميست، على لوم الجميع ما عدا الليبراليين العلمانيين.
في اليمن، يُزعم أن الولايات المتحدة شنت حربًا ضد تنظيم القاعدة، إلا أنها لاحقًا عمدت إلى تكليف السعوديين والإماراتيين بها
نشرت الصحيفة مؤخرا مقالا كتبت فيه التالي: “ليس هناك سبب واحد فقط لسريان الأمور على نحو خاطئ في البلدان الأخرى التي شاركت في الربيع العربي. يمكن إلقاء اللوم على القوى الأجنبية، من إيران وروسيا وحتى الغرب العاجز والمتفكك. كما تستطيع إلقاء اللوم على الإسلاميين، الذين كثيرا ما أججوا الانقسام أثناء مساعيهم لتعزيز سلطتهم. والأهم من ذلك كله، حمّل المسؤولية للرجال الذين حكموا الدول العربية بعد حصولهم على الاستقلال في القرن العشرين”.
باختصار، علينا إلقاء اللوم على الجميع باستثناء الليبراليين العرب العلمانيين الذين أثبتوا، بخلاف الديكتاتوريين ورعاتهم الإمبرياليين، أنهم كانوا وما زالوا أكثر القوى رجعية في معاداة الديمقراطية في السياسة العربية على مر العقود الثلاثة الماضية.
مع ذلك، يتمثل الدرس المستخلص من العقد الماضي في أن الطريقة الوحيدة لتحقيق الديمقراطية السياسية والاقتصادية هي أن تحرص الشعوب العربية في جهودها النضالية والتنظيمية، مثل جميع الشعوب في جميع أنحاء العالم، على الاستغناء عن الليبراليين العلمانيين المحليين المدعومين من منظمات غير حكومية غربية، لما يبذله هؤلاء من جهود بغاية الاستحواذ على أهداف النضالات والانتفاضات. كما يجب أن يتخلص العرب من النفاق الإمبراطوري لخطاب “حقوق الإنسان”. أما بالنسبة لليبراليين الإسلاميين – باستثناء الموجودين في تونس – فإنهم لا يعدون قوة سياسية كبرى بعد الآن بسبب القمع الهائل الذي تعرضوا له.
بدلاً من ذلك، يجب على الشعوب العربية أن تتسلح بقادة ولغة سياسية متسمين بالإصرار دون أسف على إنهاء الديكتاتورية السياسية والاقتصادية. لا شك أن الصراع سيكون طويلًا وشاقًا، ولكن لا بد من منع الليبراليين، مهما كان شكلهم، من تدميره كما دمروه فيما مضى.
المصدر: ميدل إيست آي