ترجمة وتحرير نون بوست
اُطلق منذ سنة تقريبًا سراح المواطن التركي هارون سيليك من سجن ألباني ونُقل إلى المطار. وبعد ساعات عاد إلى الأراضي التركية، حيث تفاخرت وسائل الإعلام الحكومية بإعادته في عملية نفذتها المخابرات التركية.
في تموز/ يوليو 2019، اعتقلت السلطات الألبانية سيليك الذي يعمل مدرسًا، بتهمة محاولة دخول البلاد بتأشيرة مزورة، ناهيك أنه كان مطلوبًا للعدالة التركية بتهمة الانتساب إلى جماعة غولن التي يزعم أنها العقل المدبر للمخطط الانقلابي لتموز/ يوليو 2016.
إنّ رحلته التي يكتنفها الغموض – والتي تذكرنا بعمليات الترحيل الاستثنائي المثيرة للجدل التي أجرتها وكالة المخابرات المركزية في أعقاب هجمات 11 أيلول/ سبتمبر الإرهابية – تعتبر من أحدث عمليات ترحيل المواطنين الأتراك عبر البلقان ودول أخرى تعتمد على أنقرة للحصول على الدعم المالي والسياسي أو المساعدات الإنسانية.
رجل يقف وبيده دمية تجسد رجل الدين التركي المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولن، في إسطنبول.
تعدّ هذه العمليات جزءًا من سياسة خارجية حازمة ومتشددة في بعض الأحيان يعتمدها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، التي دعمت جهاز المخابرات التركي وأثارت توجّس الحلفاء الغربيين التقليديين للبلاد. وترى تركيا والقوى الاستبدادية الأخرى، على غرار روسيا والصين، أنّ البلقان منطقة استراتيجية بسبب قربها من الاتحاد الأوروبي.
حسب منظمة “فريدوم هاوس” التي يقع مقرها في الولايات المتحدة والتي تنشط في مجال مراقبة الديمقراطية، فإن تركيا شاركت في ما لا يقل عن 60 عملية تسليم سري من 17 دولة مختلفة على مدى السنوات الثلاث والنصف الماضية. ويشمل ذلك كلاً من عمليات الاختطاف التي تقوم بها المخابرات التركية وعمليات الترحيل في إطار إجراءات قانونية ضعيفة جدا أو منعدمة. وصرّح وزير العدل التركي في سنة 2019 بأن 107 من أتباع غولن المزعومين قد أعيدوا إلى تركيا من الخارج.
صرح نيت شينكان، مدير الأبحاث الخاصة في فريدوم هاوس: “لقد نفذت تركيا – أكثر من أي دولة أخرى في العالم – عمليات تسليم غير قانونية من عدد من الدول في السنوات الست الماضية. ولن ينتهي ذلك أبدًا، ما دام أردوغان في السلطة… إنهم يعطون هذا الأمر أولوية قصوى لدرجة أنهم سوف يضحون بأهداف السياسة الخارجية الأخرى”.
في حين نفت الحكومة الألبانية علنًا أي تورط لها في إقالة سيليك، صرّح العديد من المسؤولين الحاليين والسابقين من جميع أنحاء البلقان لصحيفة “فاينانشيال تايمز” بأنهم واجهوا ضغوطًا “مستمرة” من تركيا للامتثال للحملة التي شُنت على مدبري الانقلاب المزعومين أو تحمل العواقب الوخيمة لعدم الإذعان. وتعتبر تركيا شريكًا تجاريًا رئيسيًا وهي طرف فاعل في مشاريع البنية التحتية الكبرى في جميع أنحاء البلقان، حيث مولت بناء بعض أكبر المساجد في المنطقة.
وفقا لأصلي آيدينتاشباش من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: “اختارت تركيا البلقان كساحة معركة للقتال ضد حركة غولن. فهذه المنطقة مهمة للغاية من الناحية الرمزية، نظرًا لأن جزءًا كبيرًا منها كان يتلقى أوامره من إسطنبول خلال الإمبراطورية العثمانية، ناهيك أن لهم القدرة على القيام بذلك”.
هناك إجماع في تركيا على أن أتباع فتح الله غولن، البالغ من العمر 79 سنة، كانوا وراء انقلاب 15 تموز/ يوليو 2016 الذي خلف 251 قتيلًا. ولكنّ غولن، الذي يعيش في المنفى في جبال بنسلفانيا، ينفي إصداره أوامر بتنظيم انقلاب.
رجل الدين التركي المقيم في الولايات المتحدة فتح الله yولن في منزله في سايلورسبورغ، بنسلفانيا.
كافحت أنقرة لإقناع الشركاء الدوليين لمساعدتها على ملاحقة أتباع حركة غولن المزعومين، على الرغم من أن الكثيرين منهم ينتقدون بشدة حملة القمع التي أعقبت الانقلاب والتي شهدت اعتقال عشرات الآلاف وفقدان ما لا يقل عن 130 ألفًا لوظائفهم. في المملكة المتحدة، رفضت محكمة في لندن طلبًا تركيًا بتسليم رجل أعمال منفي. وقد أظهرت الولايات المتحدة، بتعلة نقص الأدلة، ترددها في بدء إجراءات تسليم غولن نفسه.
لكن بالنسبة لبعض الدول الأخرى، كان من الصعب مقاومة الذراع الطويلة لأجهزة الاستخبارات التركية، المعروفة بـ “تشكيلات الاستخبارات الملّية (التي حلت محلها “خدمة الأمن الوطني”).
في قضية سيليك، تأتي الحادثة بعد سنوات من الضغط الدبلوماسي على تيرانا لتسليم أتباع غولن المزعومين وإغلاق أو تغيير ملكية المدارس والجامعات التي يديرها غولن. وقال مسؤول ألباني مرموق سابق لصحيفة “فاينانشيال تايمز” إن أنقرة أرسلت قائمة بمئات الأسماء من مؤيدي غولن المزعومين لإعادتهم إلى تركيا.
أفاد مسؤول حكومي ألباني بأن تيرانا حاولت مقاومة المطالب التركية، إلا أن توقيت إقالة سيليك كان مرتبطًا بوعد تركي بتقديم ملايين المساعدات بعد الزلزال المدمر الذي ضرب ألبانيا في تشرين الثاني/ نوفمبر 2019. ويوضّح هذا المسؤول “هذه دبلوماسية المعاملات”. من جهتها، لم تردّ الحكومة التركية على طلب التعليق على هذه المزاعم. وفي آذار/ مارس، أرسل خمسة من كبار مسؤولي الأمم المتحدة رسالة إلى الحكومة الألبانية يعربون فيها عن قلقهم بشأن ترحيل سيليك.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يلتقي برئيس الوزراء الألباني إيدي راما في أنقرة.
رفض رئيس الوزراء الألباني إيدي راما، الذي أجرى الأسبوع الماضي زيارة استغرقت يومين لأنقرة، الاحتجاج على تسليم سليك. وصرح في مقابلة مع صحيفة “فاينانشيال تايمز” العام الماضي: “لم نتعرض لضغوط من تركيا، وقد تم تسييس هذا التسليم بشكل يفوق الخيال من أولئك الذين يريدون محاربة تركيا”. لكنه لم يقدم أي تفسير لطريقة الإفراج عن سيليك من سجن تديره الحكومة، وكيف انتهى به الأمر على متن طائرة تابعة لشركة طيران ألبانيا متجهة إلى إسطنبول.
وفي حديثه خلال زيارة راما الأسبوع الماضي، قال أردوغان إن البلدين “لديهما رأي واحد” بشأن التهديد الذي يشكله أتباع غولن. كما وجدت دول البلقان الأخرى نفسها محاصرة في تداعيات الانقلاب الفاشل.
في سنة 2018، قام رئيس الوزراء الكوسوفي آنذاك، راموش هاراديناج، بإقالة مسؤولين بعد نقل ستة مواطنين أتراك إلى تركيا في عملية قال أردوغان إن جهاز الاستخبارات التركية أجراها “بالتنسيق مع استخبارات كوسوفو”. ولكن هاراديناج أكد أن ذلك حدث دون علمه.
تعد تركيا واحدة من أكبر ثلاثة مستثمرين في كوسوفو، حيث تمتلك مطار كوسوفو الرئيسي بالإضافة إلى شركة الكهرباء. وفي تقرير نُشر في أيلول/ سبتمبر، قال مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة إن وكالة استخبارات كوسوفو “اختطفت بالفعل الرجال الستة” وأحيلت القضية إلى المقرر الخاص للأمم المتحدة لمزيد التعمق في التحقيق.
في عملية نُفِّذت بين وكالة الاستخبارات الوطنية التركية وأجهزة التجسس في كوسوفو، أعيد ستة أعضاء رفيعي المستوى من حركة غولن إلى تركيا على متن طائرة خاصة.
في سنة 2018 أيضًا، سلمت مولدوفا سبعة مواطنين أتراك يدرسون في مدارس خاصة تابعة لحركة غولن. بعد شهرين، وقّع البلدان اتفاقية لتعزيز التجارة ووافقا على تمويل قدره 10 ملايين يورو للقصر الرئاسي في كيشيناو. وقضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في وقت لاحق بأن عمليات الترحيل انتهكت حقوق الإنسان.
يرى شينكان أن مثل هذه الأحكام لا تعني الكثير لأنقرة، موضحا أن “الرسالة التي وقع تمريرها هي أن تركيا تضع قواعدها الخاصة، وسوف تحظى بمكانتها الخاصة، وفقًا لتفضيلاتها، بغض النظر عما قد تقوله الأعراف أو القوانين الدولية – تمامًا مثلما تفعل القوى العظمى”.
أمضى سيليك الأشهر الاثني عشر الماضية في سجن سيليفري مشدد الحراسة الواقع غربي إسطنبول. وفي مطلع كانون الأول/ ديسمبر، حُكم على هذا الرجل البالغ من العمر 42 عامًا بالسجن لثماني سنوات بعد إدانته بالانتماء إلى منظمة إرهابية. وقد صرح أحد أفراد الأسرة، طالبا التكتم عن اسمه: “قالت وسائل الإعلام التركية إنه طُرد وأعيد إلى تركيا. إنه ليس هدية تقدم من بلد إلى بلد آخر”.
المصدر: فاينانشال تايمز