فرضت حرب الأسد على السوريين صعوبات لم تكن في الحسبان ولا الخاطر، لكن عقلية النمو والتطوير الذاتي التي يمتلكونها ساعدتهم على تخطي هذه العراقيل والتكيف مع الأوضاع الجديدة، فرغم ظروف هجرتهم المريرة، فإن جزءًا كبيرًا منهم لم يكن عالة على المجتمعات المستضيفة لهم وإنما اجتهدوا في تحويل محنتهم إلى فرصة ومنحة في كثير من الأحيان، من خلال تأسيس مشاريع سرعان ما اتسع نطاقها وذاع صيتها، وتحديدًا في تركيا.
هذه الاستثمارات خففت من وطأة اللجوء وأمنت تقريبًا معظم متطلبات الجالية السورية في تركيا، فلا تكاد تخلو ولاية تركية من شارع أو حي صار معروفًا بأنه “شارع السوريين”، ولعل أبرز مثال على ذلك منطقة الفاتح في إسطنبول التي تضم أسواقها مئات المحلات السورية فتشعر كأنك تتجول في دمشق.
سوريون منتجون
يتميز السوريون بأنهم تجار وصناعيين أصحاب مهارات عالية، ويعرفون كيف يجنون المال من كدهم وعرقهم، ومنهم من نقلوا أعمالهم السابقة ومنهم من أسسوا أعمالًا جديدةً معتمدين في الدرجة الأولى على التسهيلات القانونية التي وفرتها الحكومة التركية للاجئين السوريين، وعلى طبيعة الاقتصاد التركي المنفتح والمتاح للجميع، إضافة إلى ميزة أخرى تكمن في شبكة العلاقات التجارية الواسعة التي يمتلكها رجال الأعمال السوريين في شتى بلدان الشرق الأوسط وأوروبا.
يمكن قياس نجاح الجهود السورية في السوق التركية بلغة الأرقام، فقد بلغ عدد الشركات التي أسسها السوريون في تركيا منذ عام 2011 ما يزيد على 13880 شركة متنوعة بين شركات المساهمة المحدودة والشركات التجارية الشخصية، تتوزع نشاطاتها في مجالات اقتصادية مختلفة، يأتي على رأسها الإنشاءات وتجارة الجملة والمواد الغذائية وصناعة الملابس، وتبلغ قيمة استثمار هذه الشركات ما يزيد على 3 مليارات و913 مليون ليرة تركية، وفقًا لتصريحات روهصار بكجان وزيرة التجارة التركية.
وبحسب دراسة أعدها مركز حرمون للدراسات المعاصرة بعنوان “الأثر الاقتصادي للجوء السوري في تركيا”، فإن 59.4% من الشركات السورية في تركيا ناجحة وتمارس عملها كمثيلاتها التركية، وتقدر مساهمتها في الاقتصاد التركي بنحو نصف مليار دولار، وذلك بالإضافة إلى توفيرها فرص عمل لنحو 44 ألف سوري مقيم في تركيا.
التجمعات الاقتصادية السورية في تركيا
مع النمو المتزايد والمتصاعد للمشاريع السورية وحجم استثماراتها في تركيا، أصبح من الملح ظهور منظمات وتجمعات اقتصادية سورية تسعى إلى تمثيل الاقتصاديين السوريين وتعزيز أواصر الترابط فيما بينهم وتأمين صلة الوصل بينهم وبين الحكومة التركية سعيًا لحل مشاكلهم بما يضمن حقوقهم ومستقبل مشاريعهم.
تبرز في هذا المجال بتركيا جمعيتان أساسيتان وهما: “جمعية الأعمال السورية الدولية” و”جمعية رجال الأعمال السوريين في تركيا”.
جمعية الأعمال السورية الدولية (SIBA TURK)
تأسست جمعية الأعمال السورية الدولية (SIBA TURK) رسميًا في شهر يوليو/تموز 2018 في تركيا استجابةً للحاجة المؤسسية لتنسيق وتوطيد جهود ومصالح قطاع الأعمال القادم من سوريا، وهذه الحاجة متنامية ومتزايدة بشكل مستمر في هذا البلد، إذ تضم الجمعية سيدات ورجال أعمال سوريين منهم من قدم من سوريا ومنهم من جاء من دول أخرى سعيًا للتمتع بالبيئة الاستثمارية الآمنة في تركيا، وفقًا لمصطفى بارودي نائب مدير جمعية صبا ترك في حديثه لـ”نون بوست”.
تعرف الجمعية نفسها بأنها “منظمة مستقلة غير ربحية وغير سياسية تجمع بين أصحاب المال والأعمال السوريين والمهتمين بالشأن الاقتصادي السوري من أفراد وهيئات، بهدف تعزيز التعاون بينهم وتحقيق مصالحهم”، وتتكون الجمعية من مجلس إدارة رسمي منتخب ومجلس إداري بديل، بالإضافة إلى مجلس الرقابة والمجلس البديل عنه.
تتمثل رؤية الجمعية في أن تكون قوة مؤثرة في صناعة القرار الاقتصادي بتركيا وذات إسهام فاعل في عملية التنمية، وتهدف إلى إنشاء كيان موثوق يمثل قطاع الأعمال السوري من سيدات ورجال في تركيا وخارجها وتوليد صورة إيجابية عن هذا المجتمع، بالإضافة إلى بناء مناخ أعمال عادل ومحفز يدفع الأعمال التجارية للنمو والازدهار، وتعزيز فرص الأعمال والاستثمار من خلال التنسيق بين جهات حكومية وغير حكومية ومنظمات دولية.
يقول البارودي في تصريحاته: “تعمل الجمعية من خلال نشاطاتها وفعالياتها على المحافظة على حقوق أعضائها ومؤسساتهم التجارية والصناعية وتأمين متطلباتهم والمساعدة في حل مشاكلهم القانونية خلال اللقاءات التي تعقدها الجمعية مع صناع القرار داخل تركيا”.
ويضيف “تعمل الجمعية أيضًا على تنظيم لقاءات دورية بين أعضائها وأعضاء الجمعيات الاقتصادية الأخرى داخل تركيا وخارجها بهدف تبادل المعلومات عن فرص الأعمال والاستثمارات ومصادر تأمين القدرات وشركاء الأعمال المحتملين بالمستقبل، بالإضافة إلى بناء علاقات مع جهات فاعلة من الجمعيات الاقتصادية التركية بهدف مساعدة الشركات التجارية السورية على الاندماج بالاقتصاد التركي، وإيمانًا من القائمين على جمعية الأعمال السورية الدولية بدور الشباب الفاعل في تحريك عجلة الاقتصاد، أنشأت الجمعية لجنة الشباب بهدف متابعة أمور الشباب المنتسبين إلى الجمعية سواءً ممن يملك مشروعه الخاص أم يملك فكرة ويعمل على تحويلها إلى واقع”، وفقًا للبارودي.
مشيرًا إلى أن الجمعية “لا تقدم التمويل المباشر لهؤلاء الرواد وإنما تعمل على ربطهم مع المؤسسات المالية والجهات المانحة التي من الممكن أن توفر لهم الدعم اللازم”، بالإضافة إلى توفير منصة تجمع بين هؤلاء الشباب مما يتيح فرص المشاركة والتشارك فيما بينهم بالأفكار والخبرات، ودعمًا لهؤلاء الرواد خفضت الجمعية رسوم الاشتراك السنوي لهم بنسبة 50% كنوع من التمييز الإيجابي بين أعضاء الجمعية، كما عبر الباردوي.
ويتابع البارودي قوله إن الدعم التي تقدمه الجمعية للأعضاء المنتسبين إليها ومؤسساتهم يساعدهم في توسيع أعمالهم وزيادة نموها، وبالتالي فإن هذا النمو سينعكس على العاملين فيها من الشباب السوريين ويساعدهم في رفع إنتاجيتهم وتحسين أوضاع عوائلهم المادية والمساهمة في رفع المستوى الاقتصادي للمجتمع السوري في تركيا بالعموم.
جمعية رجال الأعمال السوريين (سورياد)
تأسست جمعية رجال الأعمال السوريين (سورياد) رسميًا في مارس/آذار 2019 على يد مجموعة من كبار رجال الأعمال السوريين في تركيا، من أجل تجميع رجال الأعمال السوريين الموجودين على الأراضي التركية لمواجهة التحديات والمخاطر المتنوعة التي تهدد مشاريعهم واستثمارتهم، كما تحدث عمر غازي أوغلو عضو مجلس الإدارة في الجمعية ورئيس المكتب الإعلامي والتشبيك لـ”نون بوست”.
تعرف جمعية رجال الأعمال السوريين نفسها بأنها “منظمة غير ربحية تهدف إلى تأسيس منصة تواصل وتعاون بين الصناعيين ورجال الأعمال السوريين في تركيا لتقديم أفضل الخدمات لأعضاء الجمعية، وتعزيز التعاون والتنمية الاقتصادية في البلدين سوريا وتركيا”.
والجمعية هي أحد أعضاء منتدى الأعمال العالمي (IBF)، وتضم 85 عضوًا من رجال الأعمال وأصحاب الشركات الفاعلة والمنتجة في تركيا التي توفر أكثر من 5000 فرصة عمل في مؤسساتها بحسب عضو مجلس الإدارة.
ويضيف رئيس المكتب الإعلامي أن رؤية سورياد هي أن “تكون مؤسسة رائدة في مجال تعزيز التجارة والأعمال والاستثمار في البيئات الاقتصادية الحاضنة لأعضائها”، وتسعى الجمعية إلى تأسيس قاعدة بيانات للأعمال وأصحاب الفعاليات الاقتصادية وتأسيس منصة للتواصل بين أصحاب المشاريع لفتح أبواب استثمارية جديدة تهدف إلى تحقيق نتائج اقتصادية مؤثرة داخليًا وخارجيًا، بالإضافة إلى العمل على تشكيل منظومة احترافية للشركات التجارية والتحكم وحل النزاعات التجارية بطرق ودية، وتهدف أيضًا إلى تنظيم أعمال تدريبية وثقافية وتعليمية وإعلامية محلية ودولية.
رجال أعمال في جمعية سورياد
تنظم الجمعية ملتقى سورياد بشكل دوري لأعضائها بهدف تبادل الخبرات والتجارب والاستفادة من التجارب المختلفة للشركات في مختلف المجالات، إلى جانب فتح مجال التشارك والتعاون بين الأعضاء من أجل تطوير الاستثمارات والأعمال وإيجاد حلول وأفكار لموضوع التوسع والنمو داخل تركيا لرجل الأعمال السوري.
كما تعمل الجمعية على مشروع “منتدى سورياد” الذي يعمل على تنظيم لقاءات وفعاليات تدريبية للشركات من الأعضاء وغيرهم لتعريفهم بالأمور والإجراءات القانونية والمالية للاستثمار في تركيا بهدف تأمين الحماية القانونية للمشاريع وضمان نموها، بالإضافة إلى ذلك تقدم سورياد خدماتها لأصحاب المشاريع القائمة ورواد الأعمال الجدد وأصحاب الأموال الراغبين بالاستثمار في تركيا وتعرفهم بالقوانين والمخاطر المحتملة وفرص المنافسة بين الشركات التركية.
وسعيًا منها لتحقيق أهدافها أنشأت جمعية رجال الأعمال السوريين “لجنة تحكيم تجارية ودية” تقدم خدماتها للأعضاء وغير الأعضاء لحماية حقوقهم وتوفير منصة للجوء إليها في حال الخلاف، وبذلك أصبح اسم سورياد مصدر ثقة وأمان عند رجال الأعمال والمشاريع التجارية إذ إن اسمها يكتب في بعض عقود الشراكة والعمل تحت بند “في حال الخلاف يرجع الأمر إلى لجنة التحكيم الودية في سورياد”.
وكذلك وفرت الجمعية في التحديث الأخير لموقعها الإلكتروني منصةً توفر لكل شركة من أعضائها حسابًا خاصًا تستطيع من خلاله عرض نشاطاتها وخدماتها وتتيح الفرصة للتعرف على أعضاء “سورياد”، وفقًا لما صرح به عمر غازي أوغلو.
وتعمل أيضًا من خلال مشروع “دعم الشباب” على قبول المشاريع الجديدة لرواد الأعمال الناشئين من خلال دراستها وتقديم التوصيات لأصحابها ثم عرضها على الأعضاء من رجال الأعمال الراغبين بالاستثمار في المشاريع الناشئة، كما تشرف على هذه المشاريع وتقدم الرعاية اللازمة لها حتى تنمو وتتوسع بالشكل السليم.
من خلال تصريحات ممثلي الجمعيتين، يتبين أن أهداف هذه الجمعيات وتحدياتها الصعبة تكمن بالأساس في تذليل العراقيل التي تواجه رواد الأعمال ومساعدتهم في تنفيذ مشاريعهم، أما فيما يتعلق برسالتها على المدى البعيد، فإن هناك حملًا كبيرًا يقع على عاتقها للحفاظ على الفكر الريادي في عقول الجيل الجديد، لكي يساهم في بناء بلاده فيما بعد، على أمل أن لا تتكرر تجربة نظام الأسد الذي لم يترك لريادة الأعمال معنى ولم يفتح آفاق تنمية المشاريع الناشئة والنقابات والجمعيات الداعمة، فهل ستكون هذه الجمعيات على قدر المسؤولية أمام جيل ينتظر الدعم والتطوير؟