تتفاقم الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان منذ وقت بعيد، التي اشتدت قبل نحو عامين بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام من ناحية من دون تأمين الواردات اللازمة لها، وبعد تخلف الحكومة عن دفع المستحقات المتوجبة عليها للدول الدائنة من ناحية ثانية.
وقد اشتدت هذه الأزمة أكثر مع الأزمتين الصحية التي تمثلت بوباء كورونا الذي أجبر الحكومة أكثر من مرة على اتخاذ قرار بإقفال البلد بشكل تام، وكان آخرها يوم الخميس 14 من يناير/كانون الثاني2021 حتى يوم الإثنين 25 من يناير/كانون الثاني 2021 وما يترافق مع ذلك من تأثير كبير على حياة المواطنين وعلى مفاقمة أزمتهم الاقتصادية.
والأزمة السياسية التي تتمثل بالفشل في تشكيل حكومة جديدة بعد استقالة حكومة حسان دياب بعد انفجار مرفأ بيروت في الـ4 من أغسطس/آب 2020، بسبب منطق المحاصصة السائد بين القوى السياسية، ومحاولة كل جهة سياسية الاستئثار بالقرار اللبناني دونما اعتبار لحجم الكارثة الصحية والاقتصادية التي يعيشها البلد. وتعد الأزمة السياسية أساس أزمات البلد، فمنها يبدأ الحل وفيها ومنها تتفاقم الأزمات.
وبالعودة إلى الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان، فقد تفاقم حجم الدين العام في الميزانية العامة للحكومة بحيث ارتفع إجمالي الدين العام في لبنان إلى 92.2 مليار دولار في نهاية أبريل/نيسان 2020، وأظهرت بيانات نشرتها وزارة المالية اللبنانية، بلوغ إجمالي ديون لبنان 92.9 مليار دولار في نهاية أبريل/نيسان 2020، بارتفاع نسبته 0.9% عن المستوى المسجل في نهاية 2019، وهو بكل تأكيد قد ارتفع إلى نسبة أعلى مع دخول العام الجديد (2021) في ظل غياب المعالجات وتفاقم الأزمات والفشل في إيجاد الحلول.
على صعيد آخر فاقمت الأزمة الاقتصادية حجم المشكلات التي عانت منها الشركات وأدت إلى صرف الكثير من العمال والأجراء، فضلًا عن لجوء مئات الشركات إلى الإقفال، وفي هذا السياق كشفت “الدولية” للمعلومات، وهي شركة دراسات وأبحاث وإحصاءات علمية، في دراسة نشرتها قبل نحو سبعة أشهر أن كل المؤشرات والأوضاع الاقتصادية التي يعيشها لبنان تشير إلى إمكانية ارتفاع أعداد العاطلين عن العمل في الأشهر المقبلة، إلى نحو مليون عاطل أي بنسبة 65%.
إلى ذلك أدى تخلف لبنان عن دفع الديون التي كانت مستحقة عليه لبعض الدول الدائنة أو للبنك الدولي (تخلف لبنان ثلاث مرات في ربيع وصيف 2020 عن دفع ديونه) إلى فقدان الثقة بالحكومة اللبنانية، وبالتالي إلى شروط معينة من صندوق النقد الدولي تتضمن إصلاحات إدارية ومالية وحتى سياسية من أجل إقراض لبنان نسبته التي يستحقها من صندوق النقد، وهي بالمناسبة لا تتخطى ثلاثة مليارات دولار في أحسن الحالات، في حين أن لبنان يحتاج إلى أكثر من 15 مليار دولار من أجل بدء مسيرة التعافي، وقد توقفت المفاوضات بين الحكومة اللبنانية ووفد صندوق النقد منذ بضعة أشهر، وبعد بضعة جلسات، لأن الحكومة اللبنانية لم تتمكن من التعهد بأي التنزام لناحية الإصلاحات المطلوبة.
فيما يتعلق بأسباب الأزمة الاقتصادية التي وصل إليها لبنان وآفاق المستقبل الذي ينتظره اقتصاديًا، فتتفق وجهات النظر في بعض الأسباب وتختلف في أخرى، كما في مسألة الحلول المطروحة
هذا الواقع الاقتصادي المتردي أدى إلى انهيار سعر العملة اللبنانية (الليرة) أمام العملات الأخرى، حيث تخطى سعر صرف الدولار الأمريكي في لبنان خلال الأيام الماضية عتبة التسعة آلاف ليرة مقابل كل دولار واحد، في وقت كان يؤدي المصرف المركزي دورًا رئيسيًا في الحفاظ على سعر الصرف عندما كان يتدخل بالسوق لضبط سعر الليرة أمام الدولار.
وقد أعلن حاكم المصرف المركزي، رياض سلامة، قبل أسبوع أن “عصر تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأمريكي انتهى ونتجه نحو سعر صرف معوم يحدده السوق”، وهذا يعني أن الليرة اللبنانية قد تكون عرضة لمزيد من الانهيار والتراجع، وهو بحد ذاته سيضاعف حجم الأزمة الاقتصادية أمام المواطنين، لأن رواتب القطاعين العام والخاص فقدت الكثير من قيمتها وقدرتها الشرائية بعد تراجع سعر صرف الليرة.
وقد أشارت أرقام الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي إلى أن 37.5% من الأجراء المصرح بهم للضمان يعملون بأقل من مليون ليرة (نحو 661 دولارًا)، أي أقل من خط الفقر الأعلى المحدد بنحو 1.5 مليون ليرة (نحو 991 دولارًا)، في حين يعمل 86% بأقل من 3 ملايين ليرة (1983 دولارًا) وهذا كان عندما كانت قيمة الليرة مقابل الدولار 1500 ليرة لبنانية لكل دولار، وهو السعر الرسمي الذي ما زال معتمدًا نظريًا في لبنان، في حين أن هناك سعرين آخرين للدولار الأمريكي، سعر منصة في المصارف التي لا تعطي للزبائن أي دولار من حسابتهم إنما تلجأ إلى إعطائهم قيمة هذه الدولارات بالليرة اللبنانية لكن على حساب المنصة التي حددها مصرف لبنان بـ3900 ليرة لكل دولار، وهناك سعر السوق الموازي أو السوداء التي يتم فيها صرف الدولار الأمريكي بـ8500 ليرة وما فوق بحسب العرض والطلب.
في سياق آخر لوح المصرف المركزي بوقف دعمه للسلع الأساسية التي تتمثل بالمحروقات والقمح والدواء، التي يتم شراؤها بالدولار الأمريكي من الخارج ويتولى المصرف المركزي دفع الفرق بين الدولار الرسمي والدولار المتداول في الأسواق، وفي حال تم هذا الإجراء (رفع الدعم) فإن ذلك سيفاقم حجم الأزمة الحياتية للمواطنين، وسيكون إجراءً قاسيًا من الناحية الاقتصادية.
أما فيما يتعلق بأسباب الأزمة الاقتصادية التي وصل إليها لبنان وآفاق المستقبل الذي ينتظره اقتصاديًا، فتتفق وجهات النظر في بعض الأسباب وتختلف في أخرى، كما في مسألة الحلول المطروحة.
فالخبير الاقتصادي الدكتور سمير الشاعر يعتبر أن سبب الأزمة الاقتصادية بشكل أساسي يرجع إلى حجم الفساد المستحكم في الإدارة اللبنانية، إضافة إلى أن الطبقة السياسية الحاكمة ليست من أهل الاختصاص في هذا الجانب، ناهيك بأن القائمين على الأمر لا يحسنون اقتناص واستثمار الفرص، ويقلل الدكتور الشاعر من حجم تأثير العقوبات الأمريكية على تفاقم الأزمة الاقتصادية، معتبرًا أن العقوبات كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير.
من جهته يتفق الخبير الاقتصادي الدكتور محمد موسى مع الدكتور الشاعر في مسؤولية الفساد عن الأزمة الاقتصادية وكذلك مسألة الاختصاص والكفاءة، لكنه يزيد على ذلك ما سماه “الصدمات السياسية القاتلة من جهة، وأزمات الإقليم ولبنان في قلب أزماته من جهة أخرى، مضافًا إليها التمادي في السياسات الاقتصادية والمالية البعيدة عن الواقع، وعلى سبيل المثال الهندسات المالية والتخلف عن الإصلاحات وفي مقدمتها إصلاح الكهرباء أمْ الهدر، إضافة الى التقاعس عن محاربة الفساد كما يجب مما أدى إلى عدم وصول منح مؤتمر سيدر وصولًا إلى الفشل الحكومي من الداخل عبر سياسة المماحكات والمناكفة غير المجدية التي شكلت مجتمعة طريق الانهيار القادم للأسف”.
كما رأى الدكتور موسى أن العقوبات الأمريكية من قيصر إلى ماغنتسكي كانت مؤذية للبنان، حيث قلصت التعاملات الاقتصادية وضربت حالة الثقة بين المنظومة السياسية القائمة، وهذا بدوره أدى إلى الفشل في تشكيل حكومة إنقاذ.
رفع الدعم عن السلع الأساسية سيكون كارثيًا على الطبقات الفقيرة التي بحسب البنك الدولي أصبحت 55% من الشعب إضافة إلى 23% دون خط الفقر وتاليًا قد تشكل أي خطوة بهذا الاتجاه مفتاح ثورة اجتماعية حقيقية، فالناس باتوا أمواتًا وهم أحياء
وفي هذا السياق ترى أطراف سياسية داخلية أن العقوبات الأمريكية وتهريب بعض المسؤولين أموالهم إلى الخارج بعد سحبها من المصارف أدى وساهم بشكل كبير في تفاقم الأزمة الاقتصادية لا سيما انهيار سعر صرف الليرة وتراجع قدرة اللبنانيين الشرائية.
وعن فرص خروج لبنان وتعافيه من هذه الأزمة يرى الدكتور موسى أن هناك أملًا بالخروج من عنق الزجاجة عبر التوافق السياسي المفقود بين الرئاسات، وتأليف حكومة أكفاء اختصاصيين مستقلين أو حزبين لكن يمتلكون الرؤية والشفافية اللازمة، والتزام المبادرة الفرنسية التي تشكل طوق النجاة الاقتصادي مع العمل على كسب ثقة المجتمع الدولي بخطوات جدية عنوانها الإصلاح الذي يعتبر كلمة السر، إلى ذلك لا بد من كسب ثقة الأشقاء العرب المنكفئين عن لبنان والعمل جديًا على رؤية جديدة لتحويل الاقتصاد من الريعية المطلقة إلى البحث الحقيقي للوصول إلى اقتصاد منتج وإن بالحد الأدنى.
كما يعتبر الدكتور موسى أن الاستدانة لا بد منها للتعافي والخروج من الأزمة، لكن يجب أن تصاحبها الإصلاحات الجوهرية في إدارة الكهرباء التي استنفدت 40 مليار دولار، وتخفيف عدد الإدارة اللبنانية الرسمية، فأعدادها هائلة، إضافة إلى تقليص الفوائد الهائلة على قروض الدولة وسنداتها بل محاولة تصفيرها إذا أمكن.
ويتفق الدكتور الشاعر مع الدكتور موسى على أن التعافي يحتاج إلى استدانة من الخارج، لكنه يضيف “الخروج من الأزمة اقتصاديًا يتطلب استجداء الثقة وموافقة صندوق النقد الدولي حتى تستلم منه القرض لتوظيفه وفق ما هو متفق عليه معه، ثم الثقة الدولية.
ويضاف إلى ذلك حسن إدارة واستثمار هذه القروض من القائمين على الأمر في البلد، كما يؤكد الدكتور الشاعر أن الخروج من الأزمة يتطلب على المستوى الاقتصادي تحرير سعر صرف الليرة، وكذلك رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، فهذا أمر لا بد منه على المستوى الاقتصادي غير أنه مؤذٍ ومؤلم على المستوى الاجتماعي، مشيرًا إلى أن الطبقة التي تتولى الشأن السياسي لا تفقه شيئًا من أمور الاقتصاد.
من ناحيته يرى الدكتور موسى أن رفع الدعم عن السلع الأساسية سيكون كارثيًا على الطبقات الفقيرة التي بحسب البنك الدولي أصبحت 55% من الشعب إضافة إلى 23% دون خط الفقر وتاليًا قد تشكل أي خطوة بهذا الاتجاه مفتاح ثورة اجتماعية حقيقية، فالناس باتوا أمواتًا وهم أحياء.
كما رأى الدكتور موسى أن تحرير سعر الصرف خطوة ستأتي عاجلًا أم آجلًا، لكنه تساءل: “ما قيمتها إذا لم يصاحبها إصلاحات واتفاق مع صندوق النقد الدولي لخطة إصلاحية حقيقية لانتشال الاقتصاد من مصائبه الكبرى”، مضيفًا “التحرير بلا خطة سيوصل الليرة إلى الحضيض لا أدل على ذلك من الأرجنتين”.