للموسيقى دورٌ مهمٌ في تأصيل هوية الأفراد والمجتمعات، وهي أيضًا انعكاس للواقع من حيث الزمن والحالة بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا البعد الشامل جعل منها شكلًا فنيًا لا تقيده حدود اللغة والتعبير أو الإيديولوجيا.
هذا الإنتاج البشري مثل في جانبه التاريخي سردًا لقصص السكان الأصليين في جميع أنحاء العالم مع الاحتلال وغطرسته، وعرضًا يحكي معاناتهم وقهرهم ويؤصل لوجودهم الإنساني والثقافي، فالموسيقى والأغاني استخدمت للتعبير عن رفض الأوضاع السياسية أو الاقتصادية، ولمقاومة الاستعمار والشحذ الثوري، وذلك لما لهما من قوة كبيرة وقدرة على توحيد الجماهير.
في هذا التقرير سنحاول تقديم نبذة موجزة عن فنون المقاومة المغاربية، في ثلاثة من أقطارها الكبرى وهي المغرب وتونس والجزائر، نظرًا لوحدة جنسية الاستعمار الذي كابدته (الاحتلال الفرنسي)، وكذلك للروابط الحضارية والثقافية والجغرافية والنضالية الكبيرة التي جمعت شعوبها ضده.
فن ثوري
يحتوي أرشيف الأغنية والشعر الشعبي المغاربي على مخزون وموروث فني كبير خلّد بطولات المجاهدين ووثق انتصاراتهم وانكساراتهم على حد سواء، ودون المعارك وتاريخ المقاومة المسلحة وحث على التجنيد لدعم جيوش التحرير الوطني ومساندتها في التصدي لكل مخططات فرنسا الرامية إلى طمس كل مقومات الهوية التاريخية والدينية.
يمكن القول إن الموروث الثوري المغاربي بما يمثله من وعاء شامل لأغلب الفنون المحلية (شعر وغناء وقصة)، يؤرخ لمرحلة حاسمة من تاريخ تلك الأمم التي امتزجت فيها العديد من المشاعر الوطنية بين تعميق الشعور بالانتماء للأرض والهوية وتكريس الحماسة للانتقام من المستعمر، فكانت الأغاني التي تخرج من حناجرهم خناجر غرست في جسد المحتل، فحتى هزائم المناضلين جعلت منها نصرًا لشد العزائم الصلبة أمام جنازر المستعمر.
وللشعراء والمغنيين كما المقاومين نصيبهم من القمع والتنكيل، فكم من واحد منهم تعرض للسجن والتعذيب والقتل، أما الذين كتب لهم النجاة فشردوا وأبعدوا وتم نفيهم عن أوطانهم، ولم تبق من ذكراهم إلا كلمات تغذيها عذابة حناجر النساء اللاتي يتغنين ببطولات الرجال ومناقبهم، فكانت هذه الأغاني مدونات لملاحم وأحداث تناقلتها الشعوب شفهيًا إلى يومنا هذا.
الجزائر.. المنفى
قولوا لأمي ما تبكيش يا منفى
ولدك ربنا ما يخليهش يا منفى
كي دوني لدريبنال يا منفى
جادرمية صغار وكبار يا منفى
والسلسلة توزن قنطار يا منفى
داربوني بعام ونهار يا منفى
كلنا يعرفها بصوت رشيد طه والشاب خالد وفوضيل حين غنوها في فرنسا، لكن في الأصل هي الأغنية التاريخية التي تروي مأساة عدد كبير من المقاومين الجزائريين الذين تم ترحيلهم بين الأعوام 1864 و1921، ومعاناة الأسرى من لحظة محاكتهم غير العادلة وصولًا إلى سجون المنافي، ومدى القهر والظلم الذي يتعرضون إليه عقب انفصالهم الجسدي والعاطفي عن الأهل والوطن.
تشكل أغنية “يا المنفى” جزءًا كبيرًا من الذاكرة الجماعية الجزائرية المرتبطة بتاريخ الدولة وبحقبة الاستعمار الفرنسي، حيث يعود تاريخها إلى العام 1871 تقريبًا، كتبها أحد أسرى “ثورة المقراني” الذين تم نفيهم إلى جزيرة كاليدونيا.
أما أغنية الطائرة الصفراء (الطيارة الصفرا)، فتختزل كلماتها البسيطة ومعانيها الحزينة مشاهد الخوف والقهر وتروي قصة امرأة مفجوعة على أخيها الذي استشهد في قصف لطيران المستعمر الفرنسي، وجاءت كلماتها كما لحنها لتصور مشاهد أنين وعذابات الرجال والمجاهدين المتحصنين بالجبال لحظة تهاوي القنابل فوق رؤوسهم.
الطيارة الصفرا احبسي ما تضربيش
نسعى رأس خويا الميمة ماتظنيش
نطلع للجبل نموت نموت وما نرديش
الله الله ربي رحيم الشهداء رحيم الشهداء
الجندي لي جانا وطرحنالوا الفراش
سمع فرنسا جات القهوة ما شربهاش
الطيارة الصفرا هي أغنية ثورية جزائرية من تراث الشرق تروي خوف المدنيين العزل من الطائرة الحربية الفرنسية ذات اللون الأصفر التي كانت تحوم بحثًا عن المناضلين المرابطين في جبال قالمة وهضاب سطيف من أجل استهدافهم.
ومثل هذه الأغاني تؤكد أن المرأة الجزائرية كانت في عهد الاستعمار الفرنسي العنصر المهم في الثورة، حيث وقفت مع الرجال جنبًا إلى جنب لتحرير الأرض، كما تحملت مسؤولية الكفاح في المدينة والأرياف لكسر الحصار الذي كان يضربه المستعمر على المقاومين.
كان للأغنية الشعبية أيضًا دور فعال في دفع الناس إلى المقاومة عبر تحريك هممهـم وتذكيرهم بفريضة الجهاد نصرة للدين الإسلامي ومحاربة المستعمر الكافر من أجل إعادة الوطن المسلوب، ونيل الحرية والاستقلال، وذلك كما ورد في الأبيات التالية لقصيدة يطلب من خلالها أحد الشبان من والدته السماح له بالالتحاق بالمناضلين:
اسمحلي يا لميمة وسمحلي في اجهادي
اسماح أرباح الباب ولدي مرسولة من عند العالي
تونس.. المعركة المرة
في تونس أيضًا تحول المجاهدون والمقاومون إلى “فانتازم” أدبي كتب عنهم الشعراء وتغنى ببسالتهم الفنانون، فكانت ملحمة الدغباجي من أكثر الصور المعبرة عن دور الثوار وبطولاتهم في مقاومة المحتل وجاء في مطلعها:
“جو خمسة يقصوا في الجرة
وملك الموت يراجي
ولحقوا مولى العركة المرة
المشهور الدغباجي”
ويعد محمد الدغباجي أسطورةً حيةً في ذاكرة الشعبية التونسية، فهو المناضل الشرس الذي أرق مضجع الفرنسيين وألحق بهم الهزائم وألهم ببسالته وشجاعته الشبان للسير على دربه، ورغم إعدامه في إحدى الساحات العامة بالحامة (الجنوب) بعد أن ألقي القبض عليه في ليبيا وسجن، فإن الدغباجي أصبح أسطورة يتغنى بها التونسيون في جميع مناسباتهم وأفراحهم.
وفي سياق ذي صلة، فإن الخطاري (المعراك) يعد من أبرز أغراض الشعر الشعبي لما له من قدرة على وصف الملاحم وتصوير المعارك الحربية بتفصيلاتها الدقيقة، بالإضافة إلى أهميته الثقافية على اعتبار أنه مرجع تاريخي أساسي يؤرخ للأحداث وأسماء الأبطال الذين حضروا وشهدوا تلك الوقائع.
ويعد شعر الخْطاري عند التونسيين، أثرًا تاريخيًا ثابتًا لمرحلة طبعت تاريخ البلد، وكان فيها الشعراء صوت الشعب المكلوم، فكانوا ينظمون الأبيات سرًا خوفًا من رقابة المحتل الفرنسي وبطشه، ورغم ذلك وصل صدى كلماتهم أرجاء البلاد من الشمال إلى الجنوب.
ويمكن القول إن أغنية علي الجرجار التي تروي واقعة أحداث الزلاج وإعدام أهم رموزها كالمنوبي بن علي الخضراوي (المعروف بالجرجار) والشاذلي بن عمر القطاري سنة 1912، حين دافع التونسيون عن أوقاف المسلمين، صورة معبرة على نضالات أصحاب الأرض ومقاومتهم للاستعمار الغاشم الذي قتل في هذه الحادثة 14 تونسيًا وسجن قرابة 800 شخص حكم بالإعدام على سبعة قيادات من بينهم المنوبي الجرجار بساحة باب سعدون بالمقصلة.
وتقول قصيدة علي الجرجار التي تحولت إلى أغنية وطنية شعبية:
بره وإيجا ما ترد أخبار
علي الجرجار يا عالم الأسرار
صبري لله عييت نمثل في وشامك
حطو الرمية فيك بين الكرومة والعنقر
بعينينا أحنا شفنا وأحنا صحنا
اللي غدرنا فيك ولد الحمدي واللي جرحنا فيك يجرح قلبه
من جهة أخرى، فإن الملزومات ذات طابع ثوري (المناضل عبد الرحمان الكافي) وشعر السجون أو “الزندالي” التونسي أثرت بشكل كبير في بلورة الوعي الوطني وتوحيد الصف الثوري، فتصوير معاناة المقاومين في زنازين المستعمر الوافد ورثاء الشهداء بشكل غنائي حزين أججت مشاعر الانتقام والكراهية:
“حشاد الحنين على شعبه تصاب مسكين
بين العينين وزاده في الراس الضربات
كثرت الأحزان يا حبابي كثرت الأحزان
كثرت الأحزان لقوه ملوح في نعسان”
المغرب.. العيطة
“العيطة” هو تراث شعري وموسيقي تقليدي مغربي، ولغويًا يقصد به الصراخ والبكاء والنداء، وبحسب المؤرخين المغاربة، فإن العيطة تعني مناداة المجذوب لأسلافه وإغاثته، وتتميز بكونها الأغنية الشعبية بدوية النشأة، وهي الكلام الحافل بالغناء الشعري وأنماطه وأشكال أدائه، يؤديها الذكور وتؤديها الإناث أيضًا، وعرفت انتشارًا في مناطق متنوعة كالشاوية ودكالة، والسهول الوسطى للساحل الأطلسي ومناطق أخرى كمنطقة الحوز وزعير.
والعيطة هي لسان حال القبائل وسكان الريف المهمشين وتاريخ مقاومتهم للظلم والاستعمار، وهي أيضًا لون غنائي يعتمد على الشفرات والترميز لا يفهمها إلا أصحاب الأرض، فأغنية العيطة كان يستعملها الفنانون المغاربة لإرسال إشارات للمقاومين أي أن تواصل سري موسيقي يهدف إلى نقل المعلومة مخابراتية عن مواقع وجود القوات الفرنسية وتحركاتها، لذلك عمل المستعمر على تضييق الخناق على هذا الفن.
لعبت الأغنية والموسيقى خلال ثورات التحرير المغاربية دورًا كبيرًا في تحفيز الجماهير على الانخراط فيها، فكانت الكلمة سلاحًا من نوع آخر لتجهيز المناضلين والمقاومين ثقافيًا وفنيًا، حيث ساهمت الملزومات في كسر حواجز الرهبة من المحتل، وأحيت فيهم روح الهوية والأصالة وحب الحرية والأرض، وأوقدت في نفوسهم شرارات الغضب والانتقام دفاعًا عن المقدسات، لذلك كثف المحتل من حملات اعتقالات شرسة واغتيالات التي استهدفت عددًا من شعراء ومطربي الثورات.
بالمجمل، تبقى الأغنية الثورية جزءًا أساسيًا من الذاكرة الوطنية والموروث الشعبي للمقاومة والنضال زمن الاستعمار الذي يجب الحفاظ عليه وتأصيله وعدم اقتصار إحيائه على المهرجانات السنوية واستعراضات الخيل والبارود وبعض إيقاعات القصبة والبندير، فالأغنية المقاومة المغاربية لها امتداد حضاري وثقافي وجغرافي ينحدر من أصول قديمة.