شهدت السنوات الأخيرة ظاهرة التظاهر العمالي داخل العديد من شركات القطاع العام المصري على رأسها شركات الغزل والنسيج لا سيما في المحلة الكبرى التي بات تظاهر آلاف العاملين بها ظاهرة مألوفة تظهر بين الحين والآخر للمطالبة بصرف الرواتب المتأخرة فضلًا عن العلاوات والأرباح.
ورغم الضغوط السلطوية المفروضة، سواء على إدارات الشركات أم العمال، لوقف هذه الظاهرة المقلقة للسلطات بصورة كبيرة، فإنها باءت بالفشل في ظل تفاقم الأوضاع داخل تلك الكيانات التي تعززت مع جائحة كورونا، الأمر الذي دفع العديد من العمال للمطالبة بحقوقهم المهضومة، التي تأرجحت بين فصل من العمل وتقليص الرواتب وتأخر الصرف.
حالة من القلق تخيم على أوساط المهتمين بقطاع الغزل والنسيج في مصر من تفاقم الوضع بصورة تهدد مستقبل تلك الصناعة التي تحقق فيها مصر الريادة منذ عقود طويلة، بفضل ما تمتلكه من مصانع مؤهلة ومدعمة بأحدث الماكينات بجانب توافر المواد الخام من القطن طويل التيلة، الذي تراجعت القاهرة في معدلات إنتاجه ومستوى جودته خلال السنوات الماضية.
يتعزز هذا القلق مع تزايد مخاوف تكرار مصير الحديد والصلب، تلك الصناعة التي دفعت ثمن الإهمال المتعمد الذي أوصل إلى تصفية شركة الحديد والصلب المصرية، بعد 67 عامًا من العطاء والتنمية، ما نجم عن ذلك بجانب فقد الريادة المصرية في هذا المجال تشريد عشرات الآلاف من أسر العاملين بسبب هذا القرار.
وكانت الجمعية العمومية للشركة قد قررت تصفيتها خلال اجتماعها الذي عقد في 12 من يناير/كانون الثاني الحاليّ، مرجعة هذه الخطوة إلى ارتفاع خسائرها خلال الآونة الأخيرة، حيث وصلت إلى 8.2 مليار جنيه في 30 من يونيو/حزيران 2020، أي ما نسبته 547% من حقوق المساهمين، الأمر الذي لم تستطع معه الشركة الإيفاء بأجور العمال.
يذكر أن القطاع العام في مصر شهد سقوطًا مدويًا خلال العقود الماضية منذ انطلاق قاطرة الخصخصة في عهد حسني مبارك، غير أنه في الآونة الأخيرة تعرض لهزة عنيفة تهدد مستقبله بالكلية، ففي عام واحد فقط 2020/2021 تم تصفية 29 شركة حكومية من إجمالي 118 شركة موزعة على 8 شركات قابضة، فيما تم دمج عشرات الشركات الأخرى في مجالات القطن والغزل والنسيج والسماد.
الغزل والنسيح.. وضع متدنٍ
تعد صناعة الغزل والنسيج من الصناعات الثقيلة في مساراتها العمالية والهيكلية، والبطيئة نسبيًا في مردودها المباشر، إذ يعمل بها 1.2 مليون عامل يشكلون 27% من حجم العمالة في القطاع الصناعي، فيما تضم 13 ألف منشأة صناعية، بحسب مدير عام جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة اللواء مصطفى أمين.
المادة الخام للصناعية النسيجية (القطن) الذي كانت مصر تحتل الريادة فيه عربيًا وشرق أوسطيًا، تعرض هو الآخر لضربات موجعة، أفقدته قيمته ودوره في إنعاش تلك الصناعة، ما انعكس بطبيعة الحال على مردودها، وهو ما تترجمه الأرقام الخاصة بمساحات الأراضي المزوعة بالقطن.
وفقًا لحديث مدير عام جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بالقوات المسلحة فإن الأرض المزروعة بالقطن تقلصت من مليون فدان بداية تسعينيات القرن الماضي إلى 330 ألف فدان حاليًّا، ما يعني أنها فقدت ثلثي مساحتها الإجمالية، وعليه انخفض الإنتاج من عشرة ملايين قنطار سنويًا فى الثمانينيات، إلى أقل من مليونى قنطار نهاية عام 2018.
أمام تلك التحذيرات التي قادها خبراء اقتصاديون وصناعيون وأكاديميون متخصصون في تلك الصناعة، بدأت الحكومة في وضع خطة لإعادة هيكلة القطاع بأكمله
وكانت نتيجة لهذا التراجع أن منيت شركات الغزل والنسيج بخسائر فادحة وصلت إلى 33 مليار جنيه، وتراكمت ديونها لتصل إلى 86 مليار جنيه، الأمر الذي وضعها على طاولة البحث وإعادة التقييم مرة أخرى، لمناقشة تصفيتها وخصخصتها كما حدث مع شركة الحديد والصلب أو دعمها وفق إستراتيجيات ممنهجة.
وبعيدًا عن مسؤولية غياب التخطيط الإداري الجيد والتجاهل الرسمي من أجهزة الدولة، هناك أسباب إضافية وراء تراجع الصناعة النسيجية في مصر، منها ارتفاع كلفة المواد الخام المستوردة من الخارج التي قفزت بمستويات هائلة خاصة بعد قرار تعويم العملة المحلية (الجنيه) في 2016.
علاوة على تآكل معظم خطوط الإنتاج التي تعتمد على ماكينات وأجهزة قديمة ومتهالكة ولا تناسب تطورات العصر ومقتضياته في ظل المنافسة الشديدة مع الشركات والمصانع الأخرى في الدول المجاورة، ما أدى إلى تراجع مكانة وترتيب المنتج المصري في قائمة أولويات المستهلك.
محاولة إنقاذ
تعالت العديد من الأصوات المحذرة من انهيار صناعة الغزل والنسيج في مصر، والمنددة بالتجاهل الرسمي الحكومي حيال ما تواجهه تلك الصناعة من أزمات توشك أن تقضي على ما تبقى عليها في ظل تحديات المنافسة التي تواجهها في الداخل والخارج.
وأمام تلك التحذيرات التي قادها خبراء اقتصاديون وصناعيون وأكاديميون متخصصون في تلك الصناعة، بدأت الحكومة في وضع خطة لإعادة هيكلة القطاع بأكمله، بكلفة إجمالية تتخطى حاجز الـ21 مليار جنيه (1.2 مليار دولار أمريكي)، تهدف إلى تطوير الصناعة بأحدث الماكينات والمعدات من كبرى الشركات العالمية.
هذا بجانب تطوير البنية التحتية للمصانع والشركات بما يتلاءم مع تطورات العصر، وتأهيل الموارد البشرية والأيدي العاملة في تلك الصناعة الدقيقة، في محاولة للخروج بأفضل المنتجات من حيث الجودة والسعر من أجل القدرة على التنافسية وتعويض الخسائر التي تتعرض لها.
بين الوضع المتدني للصناعات النسيجية وتصاعد أزمات العاملين بها في ظل تراجع مستوياتهم المعيشية من جانب، وتعهدات السلطة بالعمل على إنقاذ تلك الصناعة قدر الإمكان من جانب آخر، يظل سيناريو الحديد والصلب شبحًا يطارد أكثر من مليون عامل
وزير قطاع الأعمال المصري، هشام توفيق، خلال جولة تفقدية له لمصنع الغزل والنسيج في المحلة الكبرى بالغربية، في سبتمبر/أيلول 2019 كشف عن بعض ملامح تلك الخطة وأبرزها “الاحتفاظ ببعض الماكينات القابلة للتشغيل مع رفع كفاءتها، إلى جانب توريد 800 ألف مردن (معدة تستخدم في الغزل) بأحدث التقنيات الأوروبية”.
علاوة على تحديد 3 مراكز أساسية للتصدير، الأول بمحافظة الغربية، والثاني بمحافظة البحيرة، والثالث بإحدى محافظات بالدلتا، بجانب رفع جودة المنتجات وتحسين أساليب البيع والتسويق، فيما تعهد الوزير وقتها بدراسة إنشاء أكبر مصنع للغزل في العالم على إحدى قطع الأرض التابع لشركة المحلة الكبرى، على أن يتم الانتهاء منه في 2022 وفق الخطة الزمنية التي أعلنها الوزير المصري.
وبين الوضع المتدني للصناعات النسيجية وتصاعد أزمات العاملين بها في ظل تراجع مستوياتهم المعيشية من جانب، وتعهدات السلطة بالعمل على إنقاذ تلك الصناعة قدر الإمكان من جانب آخر، يظل سيناريو الحديد والصلب شبحًا يطارد أكثر من مليون عامل في تلك الصناعة لحين إشعار آخر.