يموج عالم السياسة كل يوم بأحداث جديدة، قد لا يحظى بعضها بتغطيةٍ تحليلية ملائمة، رغم أهميتها، تلك الأهمية التي، وباستعارة فيزيائية، يقرها خبراء العلاقات الدولية مضمونًا وإن اختلفوا في تسميتها، تشبه أثر الفراشة أو لعبة البازل التي لن تكتمل إلا بعد الكثير من الخطوات الصغيرة البطيئة، وهو نفس الأمر الذي قد ينطبق على الحدث الذي نناقشه، وهو: إعلان إسلام آباد الأخير.. ما هذا الإعلان؟ وما سياقه؟ وكيف يمكن أن يؤثر على وسط آسيا والشرق الأوسط؟ هذا ما سنحاول معرفته في هذه المادة.
ميثاق سياسي
يوم الأربعاء الماضي، عقد اجتماعٌ وزاريٌ ثلاثي، على مستوى حاملي حقائب الخارجية، في كل من تركيا وباكستان وأذربيجان، تحت عنوانٍ وجدول أعمالٍ واضح هو: أن العلاقات بين هذه الدول ليست على المستوى المنشود، وأن هناك إمكانات أرحب يمكن العمل عليها معًا.
في ضوء هذا المبدأ، وبعد انتهاء المباحثات التي استضافتها العاصمة الباكستانية، إسلام آباد، أعلن وزراء الخارجية الثلاث عما يمكن تسميته “ميثاقًا سياسيًا“، أو خريطة عمل مستقبلية، تبرز تعاضدهم معًا في وجه الشواغل المحلية التي تمثل هاجسًا لكل دولة على حدة، وتكرس لموقف موحد من القضايا التي تهم المسلمين عالميًا.
انطلق الإعلان من كون هذا التعاون المنتظر في كل المجالات، السياسة والاقتصاد والسلام والأمن والعلوم والتكنولوجيا، مؤسسًا في بادئ الأمر على الروابط التاريخية والدينية والجغرافية والأخوية والثقافية والاحترام والثقة المتبادلة ومخرجات القمة الثلاثية الأولى في باكو نوفمبر/تشرين الثاني 2017، وهي العوامل التي ترسخ عنوان وشعار هذه القمة: هناك الكثير لتحقيقه، وأن ما يراد تحقيقه ممكن.
أهم الخطوط العريضة التي شدد عليها الإعلان، إسلاميًا، هي ضرورة التصدي للتهديدات التي تواجه المجتمعات المسلمة، كالعمليات الإرهابية التي ترعاها جهات أجنبية والهجمات الإلكترونية وأشكال الحرب الهجينة وحملات التضليل الإعلامي والميول المتزايدة للإسلام فوبيا والتعبير عن القلق البالغ حيال الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان ضد بعض المجتمعات الإسلامية والتمييز والعنصرية والقمع الذي يمارس ضد المسلمين على الساحتين الدولية والإقليمية.
الحل الأمثل لوقف تحركات الهند المهددة لأمن المنطقة، هو ضرورة التسوية السلمية للنزاع بدلًا من الحرب
وفيما يخص الشواغل الداخلية لكل دولة، أكد كل وزير على مصالح الدولتين الأخريين، حيث أكد وزيرا الخارجية الأذربيجاني والباكستاني على دعم تركيا في ضرورة حل مشاكلها الطاقوية في بحر إيجة وشرق المتوسط حلولًا عادلة ومستدامة وواقعية متفقًا عليها بشكل متبادل، مع الإشارة لأهمية إدراك وجود شعبين في جزيرة قبرص، وهو نفس الدعم الخطابي الذي تلقته باكو في الإعلان من إسلام آباد وأنقرة لإنهاء النزاع مع أرمينيا، وعودة العلاقات على أساس السيادة وسلامة الأراضي والحدود الجديدة المعترف بها دوليًا، بما في ذلك استعداد الشريكين التركي والباكستاني للمساهمة في إعادة إعمار المناطق المحررة من أرمينيا.
وبصفتها البلد المستضيف وصاحبة المشكلة الأعقد والأكثر تجددًا في وجه واحدة من أكبر دول العالم (الهند)، شدد الإعلان أيضًا على التعبير عن المخاوف المشتركة من الإجراء الأحادي المتخذ من نيودلهي بشأن إلغاء الحكم الذاتي في “جامو – كشمير”، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان هناك، تماشيًا مع قرارات مجلس الأمن الدولي بشأن الانتهاكات والمحاولات المبذولة لتغيير التركيبة الديموغرافية للإقليم، مع اعتبار أن الحل الأمثل لوقف تحركات الهند المهددة لأمن المنطقة، هو ضرورة التسوية السلمية للنزاع بدلًا من الحرب، في الوقت ذاته، الذي أشار فيه الإعلان إلى دعم عملية السلام والازدهار والاستقرار في أفغانستان، وبالأخص ضمن نطاق “قلب آسيا – عملية إسطنبول”.
وبحسب الثلاثي، فإن التعاون سيركز المرحلة القادمة على مجالات الدفاع والأمن والتدريبات المشتركة والتقنيات الجديدة وزيادة التجارة الحرة والاستثمار وإزالة الحواجز الجمركية وتخفيض تكاليف النقل وحماية الاستثمارات والطاقة والتعليم والسياحة والاتصال الثقافي وتكنولوجيا المعلومات.
تحالفات جديدة
إذًا، نحن بصدد دستور مكتوب، يدفع وينظم التحالف السياسي بين الدول الثلاثة، أساسه: كثرة الروابط المشتركة وتشابه التحديات الحدودية ووضوح نزعته الإسلامية، وهو ما يذكرنا، بحسب مراقبين، بحدث مشابه مر عليه نحو عام تقريبًا، وهي قمة كوالالمبور التي عقدت نهاية 2019، بحضور الرباعي الإسلامي: تركيا وماليزيا وقطر وإيران، لمناقشة تردي أوضاع الأمة الإسلامية بعد علو وكيفية مواجهة التهم المعلبة ضدها كالتخلف والعنف.
ومن زاويةٍ مشابهة تخص فكرة التكتل نفسها، فإن هذا التحالف الثلاثي النامي يعد امتدادًا، وبناءً، على عدد من التحالفات الصغيرة المشابهة، من جهة النظرة الحضارية للإسلام ومحاولة كسر الجمود الاقتصادي الذي قد يكون مفروضًا على بعض الدول الإسلامية من الخارج، وبحث إمكانات التكامل في آفاق جغرافية أرحب، كآسيا الوسطى، التي طالما كانت تركيا جزءًا منها.
في الربع الأخير من 2019، وبعد زيارة مهاتير محمد لأنقرة، وقبل انعقاد قمة كوالالمبور، ظهرت بوادر حلف ثلاثي، بين تركيا وباكستان، لكن ضلعه الثالث، وربما الأهم، كان ماليزيا هذه المرة، حيث رأت الدول الثلاثة أنها تشترك، ولو نظريًا، في الإيمان بقيم الصحافة الحرة والديمقراطية وحقوق الإنسان مع الرغبة في العمل معًا من أجل إحياء ما سمي وقتها “النهضة الإسلامية”، استغلالًا لما تمتلكه هذه الدول من كتلة سكانية وقاعدة صناعية متقدمة، مدنيًا وعسكريًا في تركيا وماليزيا، وعسكريًا في باكستان، مع فرص اقتصادية واعدة خاصة لتركيا وماليزيا، وحماية نووية من إسلام آباد، وفرص جيوسياسية ممكنة لكسر الهيمنة الغربية مع الصين (طريق الحرير)، ومؤشرات على الولاء المتبادل، كما فعلت ماليزيا وباكستان عندما وقفتا مع تركيا ضد الانقلابيين، حيث يتجاوز عدد سكان الثلاثي 300 مليون نسمة، وحجم الاقتصاد حاجز 3 تريليونات دولار.
يتشابه إعلان إسلام آباد مع قمة كوالالمبور في النزعة الإسلامية والتكتلات غير التقليدية، لكنه يختلف عنها في طبيعة الدور الباكستاني
وفي مطلع نفس العام، ظهرت أيضًا بوادر تحالف ثلاثي آخر، ضلعه المختلف هذه المرة كان قطر التي سعت مع تركيا وماليزيا، لتدشين منصة مركزية لتداول المنتجات المالية الإسلامية، للاستفادة من كون الدوحة ثالث أكبر مساهم في هذا القطاع عالميًا، واستحواذ ماليزيا على أكثر من 34% من سوق الصكوك الإسلامية في العالم، وبلوغ الأصول البنكية الإسلامية في تركيا ما يصل لـ45 مليار دولار، بما يعني أننا أمام تحالف متفرع عن التحالف السابق بشكل ما، لكن في مجال محدد هو: الاقتصاد الإسلامي، مع استهداف 3 مناطق هي أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، وقد طرحت قطر بالفعل، مارس/ آذار 2019، منصة إلكترونية إسلامية لتبادل العملات الرقمية المحمية بالذهب بالتعاون مع ماليزيا تحت اسم “آي دينار”.
وتشترك الدول الثلاثة الموقعة على إعلان إسلام آباد أيضًا في تحالف اقتصادي واسع تأسس عام 1985، يضم عددًا كبيرًا من الدول الناطقة بالتركية، التي تحظى بوجود عرقي تركي مسلم في وسط آسيا، هي تركمانستان وطاجيكستان وقرغيزستان وأوزباكستان وكازاخستان، بالإضافة إلى إيران وأفغانستان، بمجموع سكان يصل إلى 400 مليون نسمة، ومساحة نحو 8 ملايين كيلومتر مربع، وفي قلب كل هذه التحالفات تحتفظ تركيا لنفسها بشراكة إستراتيجية مع كل دولة على حدة أيضًا، حيث المشترك اللغوي والجغرافي والاقتصادي والديني والعرقي والرغبة التركية في الزعامة، إلى جانب حاجة كثير من هذه الدول للحماية من طرف يتشابه نسبيًا في ظروفه معهم.
باكستان
يتشابه إعلان إسلام آباد مع قمة كوالالمبور في النزعة الإسلامية والتكتلات غير التقليدية، لكنه يختلف عنها في طبيعة الدور الباكستاني، فبينما لبت إسلام آباد طلب الرياض المحرج بعدم حضور قمة ماليزيا، تحت ترهيب وترغيب، يبدو أن الموقف الباكستاني من مراعاة مشاعر حكام السعودية لم يعد كما كان في الماضي.
في مقالٍ استشرافي نشره أكاديميان من باكستان في الجزيرة الإنجليزية منذ عدة أشهر، رجح الباحثان أن تشهد العلاقات الباكستانية الخليجية، وبالأخص مع السعودية، فتورًا غير مسبوق، بسبب السلوك السعودي المهين لباكستان، فبحسب الباحثين، رفضت السعودية مطالب باكستان المتكررة لعقد قمة وزارية عاجلة لبحث تجاوزات الهند في كشمير، وسحبت قرضًا بمليار دولار من المركزي الباكستاني، وأوقفت إمدادات نفطية ميسرة بعد انتهاء مدتها الأولى، ورفضت استقبال مسؤول عسكري رفيع المستوى من باكستان، في الوقت الذي تباشر خلاله ضخ 100 مليار دولار استثمارات اقتصادية في الهند، مما جعل الباحثين يرجحون اتجاه إسلام آباد نحو أنقرة وطهران وبكين، ردًا على السلوك السعودي.
هناك تحالف جديد من عدة دول مسلمة، هي تركيا وقطر وماليزيا وباكستان، بدأ يظهر، وقد يؤدي مستقبلًا إلى تغيير منطقة الشرق الأوسط
في ضوء هذا التحليل، قد يمكن قراءة الحفاوة الباكستانية في استقبال وزير الخارجية التركي، على مستوى رئيس الوزراء عمران خان، والرئيس الباكستاني عارف علوي، مع بشارات تركية بزيادة الدعم السياسي المقدم لباكستان في قضية كشمير، والدعم الثقافي المقدم عبر “وقف المعارف” وفتح قنصلية جديدة في كراتشي والتحضير للاجتماع الإستراتيجي السابع بين البلدين لدعم المسارات العسكرية.
كما يأتي التقارب بين أنقرة وإسلام آباد في وقتٍ نجحت خلاله الأولى في إثبات جدارتها كحليفٍ مؤتمن بعد نجاحها في دعم الطرف الثالث بالإعلان، أذربيجان، لتحرير أراضيه المحتلة منذ نحو ثلاثة عقود، وتوسعة الوجود الاقتصادي الطاقوي في القوقاز بشكل تشاركي، بالإضافة إلى دعم قطر أمام الحصار السياسي والاقتصادي وتهديدات الاجتياح العسكري، التي لوحت بها دول خليجية خلال السنوات الأخيرة، حتى نهاية الحصار، دون أن تقدم الدوحة أي تنازلات تذكر حتى الآن.
يلخص جوناثان إسباير، أكاديمي وخبير بالشرق الأوسط، الفرصة أمام هذه التكتلات في مقال مؤخرًا قائلًا:”هناك تحالف جديد من عدة دول مسلمة، هي تركيا وقطر وماليزيا وباكستان، بدأ يظهر، وقد يؤدي مستقبلًا إلى تغيير منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يشعر بعض الدول الخليجية بعدم الارتياح”، وبحسب الثلاثي الوزاري، فإن البلدان الثلاث اتفقوا على تضييق الفجوة بين كل قمة لتصبح عامًا واحدًا بدلًا من ثلاثة أعوام، حيث ينتظر أن يكون اللقاء القادم في أنقرة 2022.