تشهد العاصمة الأمريكية واشنطن حالة من التأهب الأمني غير المسبوق استعدادًا لحفل تنصيب الرئيس الديمقراطي الفائز في الانتخابات الأخيرة، جو بايدن، الأربعاء المقبل، وسط مخاوف من تكرار سيناريو اقتحام أنصار الرئيس المهزوم دونالد ترامب لمبنى الكونغرس في الـ6 من يناير/كانون الثاني الحاليّ.
وعلى عكس المظاهر الاحتفالية المصاحبة لحفلات التنصيب خلال العقود الماضية في ظل إستراتيجية الانتقال السلمي السلس للسلطة، تأتي الأجواء هذه المرة مغايرة بشكل كبير، فصور الجنود الذين يفترشون مداخل ومخارج الكابيتول والميادين الرئيسية بالعاصمة وبعض الولايات المجاورة، فضلًا عن حالة القلق التي تخيم على المشهد في مجمله، تجعل هذا اليوم عبئًا ثقيلًا يتمنى الأمريكيون أن ينتهي سريعًا.
مكتب التحقيقات الفيدرالي حذر من احتمال وجود عبوات ناسفة في أثناء المسيرات الخاصة بالتنصيب، تزامنًا مع مساعي وكالات الأمن الأمريكية رصد أي إشارات بشأن عزم جماعات يمينية متطرفة من أنصار ترامب شن أي هجمات أو عمليات عنف في أثناء الاحتفال.
واستجابة لتلك التحذيرات التي باتت حديث الساعة في الشارع الأمريكي اليوم، أعلنت وزارة الدفاع (البنتاغون) عن موافقتها على نشر 25 ألف جندي لتأمين حفل التنصيب، هذا بخلاف الانتشار الكثيف لعناصر أفراد الحرس الوطني في مختلف الولايات، 950 منهم في واشنطن فقط.
واشنطن في قبضة الأمن
أصبحت العاصمة الأمريكية تحت قبضة الأمن بصورة شبه كاملة، لا سيما بعد تردد أنباء عن تقديم جهات أجنبية دعمًا ماديًا لاقتحام الكابيتول، في مشهد ربما لم يره الأمركيون حتى في أثناء هجمات 11 من سبتمبر/أيلول 2001، وفق وصف مراسل الجزيرة في واشنطن، ناصر الحسيني.
وقد أغلقت قوات الأمن من الشرطة والحرس الوطني الشوارع الرئيسية في العاصمة بالشاحنات الكبيرة، ومنعوا السير فيها، فيما انتشرت القوات المدججة بالسلاح في المناطق المحيطة بالبيت الأبيض ووزارة الخارجية وفي محيط الكونغرس حيث مقر حفل التنصيب.
الانتشار الأمني المكثف والتأهب المتواصل على مدار الساعة سيجعل من تسلل أنصار ترامب لواشنطن مسألة صعبة، حتى إن تمكنوا من ذلك فمن الصعب التحرك بأريحية داخل العاصمة بعدما أصبحت ثكنة عسكرية، خالية من المارة إلا أفراد الشرطة بزيهم الرسمي.
وسعت شركات الطيران الأمريكية نطاق حظر حمْل المسافرين أسلحة نارية على متن طائراتها المتوجهة إلى منطقة واشنطن العاصمة قبل الحفل
وكانت شبكة إن بي سي (NBC) نقلًا عن مصدرين مطلعين أفادت بأن مكتب التحقيقات الفيدرالي “إف بي آي” (FBI) يحقق في مسألة تلقي عناصر من اليمين المتطرف في أمريكا دعمًا من جهات أجنبية لإحداث الفوضى وشن هجمات متزامنة مع حفل التنصيب.
الشبكة نقلت عن مسؤول آخر اتهامًا يتعلق بدفع مواطن فرنسي 500 ألف دولار لشخصيات يمينية أمريكية قبيل الهجوم على الكابيتول في الـ6 من يناير/كانون الثاني الحاليّ، وكان تقييم مشترك صادر عن وكالات فيدرالية أمريكية قد أشار إلى احتمالية استغلال جهات صينية وروسية وإيرانية لهذه الحالة لإثارة الفوضى من أجل تحقيق مصالحها الخاصة.
لم تكن واشنطن وحدها المطوقة بالسياق الأمني والاستعدادات غير المسبوقة، فقد رافقتها العديد من الولايات الأخرى ذات الحيثية السياسية أبرزها ولاية فرجينيا التي أعلنت انها ستغلق 4 جسور رئيسة تربط الولاية بواشنطن، فضلًا عن ميشيغان وويسكونسن وبنسلفانيا، في حين أغلقت تكساس مبنى كونغرس الولاية بدءًا من الأمس وحتى يوم التنصيب.
وسائل إعلام محلية أفادت بتأجيل التدريبات على المراسم باستخدام الأسلحة بسبب المخاوف الأمنية، فيما وسعت شركات الطيران الأمريكية نطاقَ حظر حمْل المسافرين أسلحة نارية على متن طائراتها المتوجهة إلى منطقة واشنطن العاصمة قبل الحفل.
الجمهوريون على صفيح ساخن
المخاوف من نشوب أعمال عنف قبيل وفي أثناء التنصيب لم تتعلق فقط بالتهديدات الخارجية المحتملة، لكن النزاع داخل الحزب الجمهوري حيال ما حدث في الكابيتول ربما يكون هو الآخر تهديدًا من نوع آخر، فالانقسام بين التوجهات قد يشعل الأجواء لدى التيار اليميني المتطرف.
صحيفة New York Times الأمريكية، في تقرير لها أمس السبت 16 من يناير/كانون الثاني 2021، قالت إن زعماء الحزب الجمهوري يتجهون إلى مواجهة داخلية عنيفة، ففريق يسعى لإحباط تأثير ولاية ترامب على مستقبل الحزب، فيما يتطلع فريق آخر إلى معاقبة المنقلبين على الرئيس من المشرعين الجمهوريين الذي صوتوا ضد الرئيس الجمهوري سواء على نتيجة الانتخابات أم الإقرار بإجراءات العزل (10 جمهوريين صوتوا على العزل برفقة جميع الديمقراطيين).
التقرير أشار إلى الخلاف بين الولايات الداعمة لترامب بشأن موقفها من التحريض على اقتحام الكابيتول، وتداعيات هذا الخلاف على مستقبل الحزب نفسه، ففي أريزونا على سبيل المثال يسعى الجمهوريون هناك إلى توجيه اللوم لحاكم الولاية الجمهورية لأنه لم يدعم ترامب بالشكل الكاف، فيما يبحثون عن مرشح آخر لولاية جديدة، الأمر نفسه في ولاية جورجيا حيث يتبنى فريق يميني متطرف هزيمة الحاكم الحاليّ في أول انتخابات قادمة.
الأوامر التنفيذية المتوقع اتخاذها خلال الساعات المقبلة تتنوع بين الداخل والخارج، منها رفع الحظر عن دخول مواطني الدول ذات الأغلبية المسلمة الذي كان ترامب قد فرض حظرًا عليها قبل ذلك
وفي واشنطن يشعر القطاع العريض من الجمهوريين بالقلق إزاء ترشح أعضاء من اليمين المتطرف لمجلس الشيوخ، ما قد يشوه صورة الحزب لدى الشارع، وما لذلك من تأثير سلبي على مستقبل الحزب السياسي، فيما يحاول البعض تدشين حملة واسعة النطاق لعدم وصول هؤلاء إلى البرلمان.
النزاع بين تيارات الحزب الداخلية ربما ينعكس على أنصاره في الشارع، ولعل استجابة المئات لدعوات ترامب التحريضية قبل عشرة أيام من الممكن أن تتكرر مرة أخرى خاصة بعدما فقد الرئيس الجمهوري آخر آماله في التشبث بالبقاء في البيت الأبيض عبر ثنائية التشكيك وإثارة الفوضى.
بادين وتصحيح المسار
وفي تلك الأجواء المتوترة حرص الرئيس الفائز جو بايدن على مغازلة الشارع الأمريكي عبر حزمة من الإجراءات والقرارات التي يسعى من خلالها إلى تصحيح مسار السياسة الخارجية لبلاده التي تأثرت بشكل كبير خلال سنوات ترامب الأربعة الماضية.
ووفق المذكرة التي تناولتها وسائل إعلام أمريكية عن رون كلين المرشح لمنصب كبير الموظفين بالبيت الأبيض في إدارة بايدن، فإن الأوامر التنفيذية المتوقع اتخاذها خلال الساعات المقبلة تتنوع بين الداخل والخارج، منها رفع الحظر عن دخول مواطني الدول ذات الأغلبية المسلمة الذي كان ترامب قد فرض حظرًا عليها قبل ذلك، كذلك العودة إلى اتفاق باريس للمناخ الذي انسحبت الإدارة السابقة منه.
وعن القرارات الداخلية فمن المتوقع أن تشمل تمديد فترة السماح الخاصة بقروض الطلبة وفرض ارتداء الكمامات في المباني الفيدرالية وعند السفر بين الولايات، إضافة إلى منع إجلاء المستأجرين غير القادرين على دفع الإيجار، علاوة على الاستجابة للـ5 ضرورات التي أعلنها بايدن قبل ذلك (جائحة كورونا وبناء الاقتصاد ومواجهة أزمة المناخ وريادة الولايات المتحدة في التكنولوجيا، وضمان الثقة المستدامة بالعلم).
وكان بايدن قد استقر على التشكيل شبه النهائي لفريق السياسة الخارجية لبلاده، الذي حرص من خلاله على ترميم الشروخات التي أحدثتها إدارة ترامب خلال سنوات ولايته، وهو ما يمكن قراءته في دلالات الأسماء المختارة، إذ عين الدبلوماسية المخضرمة ويندي شيرمان (قادت الوفد الأمريكي المفاوض بشأن الاتفاق النووي مع إيران في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما) لتولي منصب نائب وزير الخارجية، إضافة إلى اختياره فيكتوريا نولاند لمنصب وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية، وهي التي عملت مساعدةً لوزير الخارجية للشؤون الأوروبية الآسيوية في إدارة أوباما، بجانب اختياره أنتوني بلينكن وزيرًا للخارجية.
وفي الأخير فإن التأهب الأمني غير المسبوق على قدر ما يبعث على الأمن والطمأنينة بشأن عدم تكرار ما حدث في الـ6 من يناير/كانون الثاني إلا أنه في الوقت ذاته مثار قلق وخوف، بعدما باتت كل السيناريوهات قائمة في ظل حالة الفوضى التي تخيم على المشهد منذ خسارة ترامب في الانتخابات، لتبقى الساعات الـ72 القادمة هي الأكثر ترقبًا للشارع الأمريكي الذي أصبح أمله الآن أن يمر يوم التنصيب بسلاسة وسلام.