ترجمة وتحرير نون بوست
لقد بان لي الانحدار الذي يلوح في أفق الولايات المتحدة قبل خمس سنوات في تشرين الثاني/ نوفمبر في محطة شاحنات في أوزبكستان. كنت بصدد التمتع بقيلولة بعد يوم طويل من التنزه بالقرب من مدينة قوقند التجارية القديمة عندما اندلع شجار. تعالى الصياح بين أشخاص يبدو أنهم كانوا مخمورين واندلعت مشادات باليد وهُشمت نافذة. أطلّت نادلة قلقة برأسها على حجرة الطعام الخاصة بي لمعرفة ما إذا كان لدي أي سكر في حقيبتي لاستخدامه في صنع ضمادة منزلية لإيقاف جرح عميل كان قد تعرض للطعن.
وسط هذا الضجيج، كدت أفوت أخبار اليوم المهمة التي كانت تبثّ على تلفزيون مثبت على الحائط. كان مذيع روسي يعلن بلهفة عن انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة. بالعودة إلى الوراء، قد يبدو من السخرية تقريبًا أن ننظر إلى تلك الظهيرة القاتمة في آسيا الوسطى على أنها نذير شؤم لعصر الولايات المتحدة القادم من الاستقطاب السام والحركة الشعبية والتراجع العالمي. لكن كان من الصعب عليّ التخلص من هذا الانطباع. ربما لأنني حاولت طيلة سنوات إدارة ترامب تجاوز مخلفات تجربة أخرى في تعددية الأطراف كانت ديناميكية ولكنها انهارت: ألا وهي طريق الحرير.
لقد زرت الكثير من الدول. فمنذ سنة 2013، كنت أتعقب سيرا على الأقدام مسارات أول إنسان عاقل تجول خارج أفريقيا خلال العصر الحجري. غالبا ما أكتب عما أراه باستخدام الماضي العميق لفهم الأحداث الجارية. في الآونة الأخيرة، كان من المثير للحيرة أن أتقدم على طول طريق الحرير، وهي رابطة تجارية أسطورية عمرها ألفيْ سنة تربط أسواق وعقول آسيا وأوروبا وأفريقيا من خلال شبكة معقدة من المسارات التجارية، بينما تشهد الولايات المتحدة – تحت قيادة زعيمها الأكثر استقطابا عبر الأجيال – استقطابا شديدا حول العرق والهوية وصعودا لميليشيات تفوق البيض ورئيسا استبداديا يهاجم المؤسسات الوطنية حتى الأيام الأخيرة في منصبه.
بالنظر إلى بلدي الأم من بعيد، يظهر أن مكانته ليست آخذة في التقلص فقط، بل تعود إلى وضع البداية. لقد عدت بالذاكرة إلى سهول آسيا الوسطى التي غمرتها الأمطار الغزيرة عندما أدارت واشنطن ظهرها لاتفاقية باريس بشأن تغير المناخ. كان الرئيس ترامب يقود حروب التعريفة الجمركية ضد الصين من خلال تغريداته بينما كنت أتفادى حوادث القتل على طريق غراند ترانك الذي يبلغ عمره 2500 سنة في الهند – الذي يعد أقدم طريق تجاري بري لا يزال قيد الاستخدام.
لأكثر من ستة آلاف ميل، تتبعت خطى التجار متعددي اللغات والرهبان المسيحيين النسطوريين والحجاج البوذيين والعلماء الفرس المسلمين الذين جعلوا طريق الحرير قناة للابتكار البشري، بينما ترتفع نسخة فولاذية من سور الصين العظيم على حدود الولايات المتحدة والمكسيك.
عندما كنت أحث الخطى تحت أشعة الشمس الحارقة وتفوح رائحة دخان المعسكر من ثيابي إلى حدود قيرغيزستان، صرخ أحد الجنود “ترامب!”. رمقني بغمزة ورفع إبهامه لأعلى كعلام على الموافقة. مثل معظم أفراد الأمن الذين قابلتهم في مسيرتي، فمن الطبيعي أن يعجبوا بوجود شخص قومي للنخاع في البيت الأبيض. لكن رأيه هذا جعله سخيفًا. ثم دخلت قيرغيزستان. على النقيض من ذلك، أدرِج القرغيز المساكين ضمن قائمة “حظر المسلمين” التي فرضها ترامب، والذي فرض قيودا شديدة على السفر إلى الولايات المتحدة لمواطني عدة دول.
لقد ربط طريق الحرير بين رغبات الإمبراطوريتين الرومانية والصينية القديمة منذ أكثر من ألفي سنة. سمى الجغرافي الألماني في القرن التاسع عشر، فرديناند فون ريشتهوفن، الطريق التجاري على اسم سلعته الأكثر شهرة “الحرير”. ولكن هذا الأمر يتجاوز تجارة الحرير. في الواقع، نشر طريق الحرير، الذي أصبح يرمز إلى التبادل الحر بين الثقافات، الفن اليوناني القديم شرقا في آسيا الوسطى البوذية. وسافر الورق الصيني – وهو اختراع مهم مثل أجهزة الكمبيوتر، لنقل المعرفة بسرعة وبمقابل رخيص- غربا إلى شبه الجزيرة العربية وأوروبا في العصور الوسطى.
اصطدمت تعاليم أرسطو والمفهوم الهندي الرياضي للصفر مع قوافل الجمال المغبرة. وبحلول سنة 1000 ميلادي، حوّل هذا البازار الحضاري الثري حراس طريق الحرير، دول المدن الإسلامية في آسيا الوسطى، إلى مراكز تعليمية مزدهرة ومتعددة الثقافات. كتب المؤرخ بيتر فرانكوبان في كتابه “طرق الحرير: تاريخ جديد للعالم“: “لقرون قبل بداية العصر الحديث، لم تكن المراكز الفكرية للتميز في العالم، مثل أوكسفورد وكامبريدج وهارفارد وييل، موجودة في أوروبا أو الغرب، وإنما في بغداد وبلخ وبخارا وسمرقند”.
في صيف 2016، أطلق شريكي الكازاخستاني في المشي رصاصات فارغة من مسدسه لإبعاد الذئاب الفضوليّة ليلا أثناء عبورنا هضبة أوستجورت، وهي صحراء مشتركة بين تركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان. كنا في طريقنا إلى إحدى اللآلئ في المنطقة: واحة خيوة.
الصحراء الطينية الشاسعة في هضبة أوستجورت، كازاخستان.
تعتبر خيوة، التي تمثل خليطا من الساحات والمآذن والمساجد، انتصارا للعمارة في آسيا الوسطى. تتجه الشرفات ذات الأسقف العالية لقصورها إلى الشمال، حيث تلتقط رياح الصحراء الباردة في الصيف، بينما تحافظ غرف المعيشة الصغيرة على دفء السكان في الشتاء. كان تصميمها الحضري تحفة من الديناميكا الحرارية. عمل العلماء في أكاديمية ملكية بين القرنين العاشر والثاني عشر، حيث قاموا بترجمة النصوص اليونانية الكلاسيكية إلى العربية وتبني الابتكارات التكنولوجية الصينية وتطوير الرياضيات الفارسية والهندية. لقد كانت بوتقة تنصهر فيها المعرفة المعولمة.
قالت إينيسا يوفاكييفا، المرشدة الثقافية في المدينة القديمة المحاطة بالأسوار: “منذ ألف سنة كان لدينا علماء فلك ورياضيات من الطراز العالمي والعديد من العلماء الآخرين هنا. كنا أكثر تقدما من أوروبا”. إن العصر الإسلامي الذهبي للعلوم والفن الذي سبق النهضة الإيطالية بحوالي 400 سنة أضاءه مفكرون أتراك وفرس من الحافة الشرقية للخلافة العباسية، في ما يعرف اليوم بآسيا الوسطى وغرب الصين وأجزاء من إيران.
ذكرت يوفاكييفا بعض أسماء الأشخاص المحليين الذين يقارنون بآينشتاين، مثل محمد الخوارزمي، عبقري القرن التاسع الذي ساعد في صياغة مبادئ الجبر، والذي أعار اسمه إلى كلمة “خوارزمية”. وبعد قرن من الزمان، كتب العالم الرائع أبو الريحان محمد البيروني أكثر من 140 مخطوطة عن كل شيء، من الأدوية إلى الأنثروبولوجيا في الهند. (عنوان نموذجي للبيروني: “أطروحة شاملة عن الظلال”).
ربما كان أبو علي الحسين ابن سينا أشهر حكيم في طريق الحرير على الإطلاق، والذي جمع في القرن الحادي عشر موسوعة للشفاء كانت لا تزال مستخدمة من قبل الأطباء الأوروبيين حتى القرن الثامن عشر. شخّصت موسوعة “القانون في الطب” لابن سينا مرض السكري بدقة من خلال تذوق الحلاوة في البول. وصنف كتاب الأدوية الخاص به أكثر من 800 علاج. منذ ألف سنة، دعا ابن سينا إلى الحجر الصحي للسيطرة على الأوبئة. جعلني ذلك أتساءل: ما الذي سيفعله الجهل المتعمد لمناهضي الأقنعة اليوم بالولايات المتحدة؟
إن التنقل بين القارات مشيا هو أفضل تمرين لتعلم التواضع. فأنت مقيد بحدود خطواتك اليومية، بينما تنتقل من ظل شجرة إلى التالي ثم إلى الأفق القادم. في المقابل، تمنح المسيرة نوعا من الاتزان. أطلق عليها اسم “الرؤية الطويلة”. سرعان ما أصبح طريق الحرير يمثل كل طريق. ومثلما تغرق بعض الدول في أحلامها على طول طريقك، فقد يبقى البعض الآخر متيقظًا.
لنأخذ مثلا أوزبكستان، التي تمثل مفترق طرق على طريق الحرير القديم، والتي انتقلت من الجمهورية السوفيتية السابقة غير الساحلية ومن دولة بوليسية إلى دولة الإصلاح المتواضع. تاجرت المنطقة، التي حكمتها الممالك الإيرانية والتركية قبل ألف سنة، بشكل مربح مع الصين وبلاد فارس والهند، مما أثرى مدنا مثل بُخارا وسمرقند. ودفعت أكثر من ستة عقود من الشيوعية في ظل الاتحاد السوفيتي إلى توطين البدو وقمع الدين وزعزعة التسلسلات الهرمية الإقطاعية القديمة. بحلول أواخر التسعينات، اندلعت ردة فعل أصولية قادتها الحركة الإسلامية في أوزبكستان، فقط ليقع قمعها بلا رحمة.
عندما كنت أسير في أنحاء البلاد، رأيت اللوحات الإعلانية التي تحث المواطنين على “توخي الحذر!”. استهدفت هذه الملاحظات الأورويلية ظاهريًا التشدد الإسلامي. لكن من الناحية العملية، فقد قامت بإثارة الشكوك حول أي شخص “آخر”، بما في ذلك شركائي الأوزبك الذين يشاركونني المسير وقافلتين من الحمير وأنا. سيطر الخوف المرضي من الغرباء على القرى الموحلة على طول نهر آمو داريا، نهر الإسكندر الأكبر المسمى نهر جيحون. كان المزارعون المحليون يخبرون الشرطة عنا باستمرار، وهم يسترقون النظر من خلف ستائر الدانتيل والهواتف المحمولة ملتصقة بآذانهم. ونتيجة لذلك، احتجزتنا قوات الأمن الأوزبكية لاستجواب 34 مرة.
قال أحد أفراد الشرطة السرية في نقطة استيطانية صحراوية تسمى جاسليك، حيث أقام النظام سجنا سياسيا سيئ السمعة: “أسد لي معروفا. واترك المدينة في الحال. هناك خمسة أو ستة أجهزة أمنية هنا. وكلنا نتجسس على بعضنا البعض. وأنت تقدم لنا عملا إضافيا”.
ملصق ممزق للشاعر الأردي الكبير محمد إقبال على شارع جراند ترانك، في البنجاب، بباكستان.
توفي إسلام كريموف، الدكتاتور الذي كان يحكم أوزبكستان، بينما كنت أجوب البلاد المعزولة في شهر أيلول/ سبتمبر 2016. (كان كيموف يحب أن يقول لشعبه “قدركم هو قدري، وسعادتكم هي سعادتي”.) لقد تحسنت حياة الأوزبكيين قليلا منذ وفاته، وأُغلقت معسكرات العمل وتحرر الاقتصاد.
بمجرد تخفيف القيود الوبائية، لن يعود السياح الراغبون في زيارة موطن فلاسفة طريق الحرير مثل أبو الريحان البيروني، بحاجة إلى حمل – كما فعلت أنا من قبل – 11 صفحة من التصاريح الأمنية للنوم ببساطة خارج فندق خاضع للجزاءات الرسمية.
بالعودة إلى الولايات المتحدة، يبدو أن البلاد قد أصبحت نسخة أكثر تماسكًا من أوزبكستان. فقد أقامت الحكومة إعلاناتها الخاصة التي استخدمت فيها أسلوب الترهيب، حيث تضمنت اللوحات الإعلانية لوكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك في ولاية بنسلفانيا لقطات مجهولة لمهاجرين غير مسجلين متهمين بارتكاب جرائم. كما استجوب عملاء فيدراليون مواطنين أمريكيين لتحدثهم باللغة الإسبانية في مونتانا. كما ورد في بعض التقارير أن الرئيس قوي الشخصية المنتهية ولايته اقترح إطلاق النار على المهاجرين في أرجلهم في ريو غراندي. إن تعميم ترامب للعنصرية وكراهية الأجانب وإنكار العلم لا يبدو انتقاليا للغاية. فقد أيده أكثر من 74 مليون ناخب أمريكي، حتى أن البعض استجابوا لدعوته إلى التمرد.
شكّل طريق الحرير عالمنا. فقبل عشرة قرون، كانت مجتمعات نصف الكرة الأرضية متنوعة بشكل لا يصدق ومنفتحة – وهذا صحيح بما فيه الكفاية بالنسبة المجتمعات التي تحتكر عملة التجارة – ولم تكن منغلقة. لقد زاد حب الاستطلاع لدى البشرية، بقدر نمو الإنجاز الفكري والانفتاح لفترة من الوقت. لكن كل ذلك تلاشى بحلول القرن السابع عشر.
حلل المؤرخ إس. فريدريك ستار بعناية تدهور طريق الحرير في كتابه بعنوان “التنوير المفقود: العصر الذهبي لآسيا الوسطى من الفتح العربي إلى تيمورلنك”. وقد ألقى باللوم على غزوات المغول، ومحسوبية السلاطين الأثرياء، والمنافسة البحرية الأوروبية المتزايدة، وحتى تغير المناخ، باعتبارها من عوامل الانهيار. ولكنه أكد أيضًا على ظاهرة تبدو مأخوذة من منصات التواصل الاجتماعي اليوم: ألا وهي الاستقطاب المتطرف.
أشار ستار في كتابه إلى أن الخلافة العباسية القوية التي حكمت آسيا الوسطى من بغداد، والتي أضعفتها صراعات السلالات الحاكمة، بدأت في الانهيار تحت وطأة الخصومات الدينية بين الطائفتين السنية والشيعية. وظهرت حركة إسلامية مطهرة حَرفية تسمى الأشعرية كرد فعل على عقلانية العصر الذهبي للإسلام و”عناصره الخارجية” الفكرية.
حسب ستار “بحلول أواخر القرن الحادي عشر، اندلعت حرب ثقافية شاملة”. فقد اقتتل المسلمون فيما بينهم، مع “تأكد هيئات المراقبة السنية من عدم ضلال أي مفكر خارج الحدود الصارمة للتقاليد، واستجاب هيئات المراقبة الشيعية بالمثل”.
كانت النهاية قاسية. فعندما عاد المستعمرون الأوروبيون إلى مواجهة آسيا الوسطى المتهاوية مرة أخرى في القرن التاسع عشر، تحولت محطات طريق الحرير العريقة إلى مناطق نائية مثيرة للفضول. عزل الطغاة المحليون شعوبهم عن العالم الخارجي. وأخضعت الإمبراطورية الروسية وبريطانيا بسهولة آخر المدن المحصنة. ونُقلت مكتبات التنوير الإسلامية المتعثرة إلى سانت بطرسبرغ ولندن.
باميريون من طاجيكستان في طريقهم إلى ممر واخان في أفغانستان، طريق الحرير القديم.
أثناء تجوالي في أفغانستان في سنة 2017، لاحظت كيف أن ازدراء العالم الخارجي لآسيا الوسطى منذ ذلك الحين لم يتغير كثيرًا. تسلقت 16 ألف قدم من جبال الثلج في ممر واخان، وهو طريق الحرير المختصر عبر سلسلة جبال هندوكوش. كانت القرى المحاصرة بالحجارة معلقة مثل أعشاش الدبابير على المنحدرات. قام متسلقو الجبال الإسماعيليون بتكديس قرون كباش برية فوق قبور موتاهم، كما فعلوا على الأرجح لآلاف السنين.
كان انعكاس وجهي المرهق في المرآة الدليل المرئي الوحيد الذي يؤكد أن الحرب التي شنتها الولايات المتحدة في أفغانستان، والتي بلغت تكلفتها تريليوني دولار أميركي، كانت دون فائدة. (كنت قد غطيت سقوط حركة طالبان وتداعياتها في شتاء 2001 و2002).
أسقط البنتاغون قنبلة تُعرف “بأم كل القنابل“، والتي يبلغ وزنها 20 ألف رطل، على تنظيم الدولة في ذلك الصيف. وهو ما ذكرني بفقرة عمرها 120 سنة من كتاب جوزيف كونراد بعنوان “قلب الظلام”، التي تصف سفينة حربية استعمارية تقصف ساحل غرب إفريقيا: “في الامتداد الشاسع الخاوي من الأرض والسماء والماء، كانت السفينة، بشكل غير مفهوم، تقصف القارة. تنطلق القنابل من مدافع يبلغ حجمها ستة بوصات، وتندفع شعلة صغيرة ثم تتلاشى، ويختفي بعض الدخان الأبيض، وتُصدر قذيفة صغيرة دويا خفيفا ــ ولكن لم يحدث أي شيء. لا شيء قد يحدث. لقد كان ذلك الإجراء ضربا للجنون”.
إن مقارنة انتحار خانات طريق الحرير بالسياسة الأمريكية الانتحارية يعدّ بمثابة ممارسة معيبة. بادئ ذي بدء، لم يمنح سكان وسط آسيا العتيقة حق التصويت. ولم يواجه سكان واشنطن العاصمة المشهد المروع الذي استفاق عليه سكان أكثر حضارات العالم تطورا في صباح العاشر من شباط/ فبراير من 1258، عندما قام الغزاة المغول باختراق جدران بغداد وذبحوا سكانها المدنيين ودنّسوا المؤلفات القيّمة التي جُمعت عبر القرون – حيث نُهبت آلاف المخطوطات التي لا تقدر بثمن من 36 مكتبة في المدينة – ورموها في نهر دجلة.
قيل إن هذا العمل التخريبي التاريخي قد صبغ تيارات النهر بلون الحبر الأسود. وهناك بعض العزاء في هذه القصة الكئيبة. فالتاريخ لا يسير أبدا على نفس المسارات مرتين.
أعلن الرئيس المنتخب جو بايدن بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، إلى جانب التعهّد بإعادة ضبط العالم بعد سنوات من انحسار القوة الأمريكية التي سبقت انعزالية الرئيس ترامب، أن “الولايات المتحدة عادت، ومستعدة لقيادة العالم، وليس التراجع عن القمة”.
هناك شكوك بشأن إمكانية حدوث هذا الأمر. فالأمريكيون الذين احتشدوا في مبنى الكابيتول خلف أعلام القتال الكونفدرالية أملا في قلب نتائج الانتخابات الديمقراطية، يعيشون في واقع إعلامي تغذّيه وسائل الإعلام المتحيزة، وهو مُنغلق مثل الطائفة. بعبارة أخرى، إن الانقسام في التصور يحكم على الإجماع بالهلاك. وقد أظهر استطلاع للرأي أجري خلال فصل الصيف أن ما يقرب من ثلث الناخبين الأمريكيين سيقبلون “زعيما قويا لا يبالي بالكونغرس والانتخابات”.
في غضون ذلك، يستمر العالم في التقدم. بينما تميل الأرض شرقا نحو عصر آسيوي. وعبر آسيا الوسطى، تجولت في المناظر الطبيعية التي تغيرت ملامحها من خلال الطرق السريعة الجديدة والسكك الحديدية وخطوط الأنابيب وشبكات الاتصالات. يرتبط جزء كبير من هذه البنية بمبادرة الصين للقرن الحادي والعشرين المتعلقة بطريق الحرير، وهي مبادرة الحزام والطريق التي تبلغ تكلفتها مليارات الدولارات، والتي وصفها الكثيرون بأنها أكثر مشاريع البنية التحتية طموحًا على هذا الكوكب حاليًا.
في كازاخستان، خرج عمال صينيون يرتدون معاطف نظيفة وهم يتثاءبون بينما كنت أقود الحصان الذي يحمل أمتعتي عبر حقل النفط الضخم. لابد أنني بدوت طيفا رث الثياب من الماضي البعيد، بعض السراب مستحضر من السهوب البرية. لذلك، شعرت وكأنني طيف. لقد أطعموني المثلجات.
راعي يراقب السهوب بحثا عن قطعان ماشيته في غرب كازاخستان.
مضيت عبر سلسلة جبال كاراكورام إلى باكستان. بدت لي أطلال الآثار البارزة، من سنوات مجد طريق الحرير، على قمة تلة تبعد نحو 60 ميلا جنوب شرق إسلام أباد. لا توجد آثار أو علامات تميز حصن ناندانا. فقد كان قلة من الناس يذهبون إلى هناك. وفي أوائل القرن الحادي عشر، كان العالم من آسيا الوسطى، البيروني، أول شخص يقيس بدقة مذهلة حجم الأرض، وذلك من خلال علم المثلثات، حيث قدر بحوالي 24,902 ميل.
تسلقت جدار حصن مكسور ونظرت نحو الشرق. وقبل 17 شهرا من رحلتي الطويلة في جميع أنحاء الهند، كانت هذه الديمقراطية تتجه نحو هاوية الشعبوية اليمينية. بركوب موجة القومية الهندوسية، كان هناك ولاية هندية واحدة تجرم الزيجات بين المواطنين الهندوس والمسلمين.
في نهاية الأفق الأزرق الممتد من رحتلي، يوجد الصين، الدولة مترامية الأطراف. وفقًا لأحد التقارير، بلغ ناتج الصين الاقتصادي في سنة 2019 ما يعادل 67 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة. وبدأت الفجوة بين الصين والولايات المتحدة تتقلص لأن الصين كانت الاقتصاد الرئيسي الوحيد المتوقع أن يسجل نموا اقتصاديا لسنة 2020 على الرغم من تفشي الوباء. وخلف مفترق طرق بعيد حيث تقف بعض الشاحنات يوجد الأفق أين يقع وطني المفقود.
سألت القرويين الذين قضوا حياتهم بأكملها تحت أسوار ناندانا المتداعية عما إذا كانوا قد سمعوا عن البيروني. فنفوا ذلك. وفي الحقيقة، لم يكن بوسع أي أحد معرفة اسم الأنقاض.
المصدر: نيويورك تايمز