تعيش محافظة إدلب شمال غرب سوريا، أي “منطقة خفض التصعيد الرابعة”، حالة من الهدوء والترقب الحذر يتخللها قصف مدفعي من قوات النظام على المناطق القريبة من خطوط التماس وتسللات ليلية تقوم بها عناصر النظام مستهدفةً نقاط المعارضة المتمركزة على خطوط النار الأولى، ورد المعارضة الذي يبدو ضعيفًا على مصادر القصف.
يبرهن القصف الذي تشنه قوات الأسد على مساعي النظام في قضم مناطق جديدة على حساب المعارضة بشتى الوسائل، في حين أنه بات جزءًا لا يتجزأ من تكوينة عريضة تضم مليشيات إيرانية وروسية ولا يملك وحده قرار التقدم أو التراجع، لأن المنطقة بات يحكمها طرفان دوليان مسؤولان عن الخطوط التي يسمح اجتيازها، المتمثلان بتركيا وروسيا، وثالثهما إيران.
يبدو أن الحدود التي وصلت إليها المعارك التي تقدم فيها النظام وحلفاؤه على حساب المعارضة العام الفائت في طريق الـm5 قد تستمر لفترة طويلة يتخللها الهدوء النسبي لمرحلة جديدة تحاول أنقرة وموسكو التفاوض عليها، وهذا ما تشير إليه تحركات فصائل المعارضة من جهة والنظام من جهة أخرى.
إخلاء النقاط التركية المحاصرة
في وقت سابق أنهى الجيش التركي إخلاء كل نقاط المراقبة التي كانت بحكم المحاصرة من النظام في محيط إدلب السورية، وذلك بعد أشهر من إخلاء أول نقطة مراقبة، في حين لم يصدر حتى الآن أي إعلان رسمي من الجيش التركي يؤكد إنهاء عمليات الإخلاء، ومعلومات الانتهاء من عمليات الإخلاء التي بدأها الجيش التركي في نوفمبر/تشرين الأول 2020 أكدتها مواقع إعلامية موالية للنظام وأخرى تابعة للمعارضة ومصادر عسكرية معارضة.
نقاط المراقبة التركية في سوريا
يرى الصحفي محمد رشيد، في حديث لـ”نون بوست”: “أن وجود نقاط مراقبة داخل مناطق النظام يشكل تهديدًا وضغطًا على الجانب التركي، ما يمنعه من إجراء أي مبادرة جديدة تجاه مناطق النظام أو الحفاظ على المنطقة المتبقية تحت سيطرتها، لكن إخلاء هذه النقاط المحاصرة هو العملية الأولى لإنهاء مخاوفه من خسارة جنوده المحاصرين”، وتحاول تركيا التخلص من أي تهديد يعرضها للخطر مجددًا في المنطقة أو التعرض لأي خطر لاحق ربما يصيب جنودها الموجودين في النقاط العسكرية المحاصرة.
وبحسب مصادر عسكرية معارضة فقد انسحبت نقطة المراقبة الأخيرة من شمال مدينة سراقب على الطريق الدولي حلب – دمشق، وهو ما أثار تساؤلات عن تأثير هذه الخطوة على مستقبل التفاهمات التركية الروسية ومصير المنطقة المتنازع عليها. فهل تتنازل تركيا عن نقاطها الموجودة في عمق النظام لكسب مناطق جديدة في عين عيسى؟ وهو مستبعد كما يراه محللون سوريون؟ وهل ستشهد المنطقة هدوءًا مستمرًا في انتظار حل سياسي أم أنها أمام تفاهم روسي تركي جديد لم يتم الكشف عنه؟
تعزيزات وإعادة انتشار للجيش التركي
أرسل الجيش التركي تعزيزات عسكرية وصفت بالضخمة إلى محافظة إدلب شمال غرب سوريا، خلال الأسابيع القليلة الماضية، حيث شكلت القوات التركية طوقًا أمنيًا معززًا بنقاطها، في محاولة منها لإعادة الانتشار مجددًا من ريف اللاذقية وجبل الزاوية جنوبي طريق الـm4 حتى محيط مدينة سراقب شمالًا، لمنع أي محاولة تقدم للنظام إلى المنطقة.
الجيش التركي يعيد انتشار قواته في إدلب
ويتفق مع هذا الصحفي محمد رشيد، الذي قال لـ”نون بوست”: “تركيا متمسكة بالمناطق المتبقية تحت سيطرتها في إدلب، لا سيما أنها ترسل تعزيزات عسكرية كبيرة جدًا، إلى جانب النقاط التي تنشرها قرب خطوط التماس مع قوات النظام”.
مضيفًا: “المعارضة كذلك تحاول الحفاظ على مناطقها ومنع النظام من قضم أي منطقة جديدة، حيث تقوم عناصر المعارضة بتدريبات عسكرية متنوعة ترفع من قدرة مقاتليها العسكرية لمنع أي عملية هجوم لاحقة من النظام، وبمعنى آخر إنها بصدد تقوية دفاعاتها”.
في الوقت ذاته تسعى روسيا دائمًا إلى اقتطاع مناطق جديدة، وكذلك الميليشيات الإيرانية التي تحاول إثبات نفسها بالمنطقة عبر خلق الفوضى من خلال التقدم إلى منطقة سهل الغاب الواقعة تحت سيطرة المعارضة، وأيضًا قصف المناطق السكنية القريبة من خطوط النار، التي كان آخرها استهداف المدنيين في مدينة أريحا، ما يشكل ضغطًا على المعارضة للرد على خروقات النظام.
ويرى مراقبون أن إعادة انتشار القوات التركية في المناطق المتاخمة لخطوط التماس مع قوات النظام سيمنحها مزيدًا من الوقت لترتيب أوراقها داخل مناطق المعارضة مجددًا وحل عقد جذرية بخصوص المجموعات المصنفة على قوائم الإرهاب.
ومن خلال ذلك ستسعى للتفاوض مع روسيا ومنع الأخيرة من ضم مناطق جديدة، لأن في ظل هذا الانتشار التركي لن تستطيع التقدم في المنطقة لأنها ستكون أمام اشتباك مباشر مع القوات التركية التي تسعى إلى بناء طوق أمني يحافظ على المنطقة، وهذا ما تخشاه روسيا التي تدفع بالميليشيات الإيرانية وميليشيا النظام لإحداث فوضى في المنطقة.
قال النقيب في الجيش السوري الحر عبد السلام عبد الرزاق لـ”نون بوست”: “اضطرت تركيا لسحب قواتها من نقاط المراقبة المحاصرة، في مناطق النظام، لأنها بدأت بتعزيز خطوط دفاع جديدة قرب المناطق المتاخمة لحدود التماس مع قوات النظام، حيث نشرت وحدات من القوات الخاصة ووحدات التأمين، كي تمنع فرض أي موقف جديد كأمر واقع تسعى إليه روسيا مجددًا، وبذلك تحافظ تركيا على مصالحها في إدلب”.
وأضاف “إعادة انتشار الجيش التركي في مناطق المعارضة للدفاع عن المنطقة ولا أتوقع أن يكون هناك عملية عسكرية هجومية على مناطق النظام، وهذا سيكون بخلاف التفاهمات الروسية التركية، لكن ربما تكون هذه القوات للرد على هجمات النظام والميليشيات الإيرانية في المنطقة ومنعها من التقدم”.
ويشكل الهجوم العسكري الذي يتوقعه السوريون من تركيا على مناطق النظام خطوة في صالح تركيا، لأنها ستكون أمام اصطدام مباشر مع القوات الروسية والإيرانية في المنطقة ولذلك هذا الأمر مستبعد جدًا.
هدوء وحذر
يبدو الهدوء سيد الموقف في المنطقة، لكن الحذر واجب، وهذا ما تتبناه المعارضة السورية من خلال وجودها على خطوط التماس وتعزيز دفاعاتها في المنطقة، لكن يسود ميل مختلف فصائل المعارضة إلى هدوء نسبي قد يحافظ على ما تبقى من المناطق الخاضعة لسيطرتهم، وترتيب صفوفهم مجددًا.
النقيب عبد السلام عبد الرزاق خلال حديثه لـ”نون بوست” قال: “وضع الفصائل العسكرية المقاتلة في إدلب، يميل إلى الهدوء وهذا ما يسود في المحافظة، وأرى أنه لن يشهد أي تغيير في خريطة السيطرة لاحقًا”، مضيفًا “أصبح الوضع العسكري متوازنًا والظروف السياسية لا تخدم أي عمل عسكري لكلا الطرفين المعارضة والنظام وداعميهما، لا سيما أن روسيا تحاول تمرير انتخابات هادئة تضمن بقاء نظام الأسد في السلطة في وقت تنهار به أجهزته الإدارية والاقتصادية”.
وأوضح أنه لن يكون هناك أي تغيير جذري في شمال غرب سوريا إلا من خلال عملية سياسية شامل لسوريا والوضع الحاليّ الراهن مستمر حتى ذاك الوقت، أي حتى وصول طرفي المفاوضات أنقرة وموسكو إلى نتيجة تبرهن على أرض الواقع.
يبدو أن التفاهمات الروسية التركية غير المعلنة ستزيد تساؤلات وتكهنات السوريين، لكن تبقى كلها افتراضية ورؤى مبنية على توقعات إذا لم يعلن ما سيجري لاحقًا في المنطقة المتنازع عليها، ويخشى السوريون في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية شمال غرب سوريا من عودة المعارك مجددًا إلى المنطقة لا سيما أنها تأوي آلاف النازحين والمشردين من قراهم وبلداتهم التي فروا منها مع الحملة العسكرية التي شهدها العام الفائت.