بعد طول انتظار، أعلن رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي تعديلًا وزاريًا موسعًا شمل وزارات سيادية مثل العدل والداخلية، في ظل توترات سياسية كبيرة بينه وبين الرئيس قيس سعيد، لكن السؤال المطروح الآن: هل عادت السلطة التنفيذية حقًا إلى القصبة، خاصة أن المشيشي أقصى بمقتضى التعديل الجديد كل الوزراء المحسوبين على الرئيس قيس سعيد؟
11 وزيرًا جديدًا
المشيشي أعلن السبت، تعيين 11 وزيرًا جديدًا، وشمل التعديل سد الشغور في ثلاث وزارات هي الداخلية والبيئة والثقافة، وشملت التعديلات الأخرى ثماني وزارات وهي العدل وأملاك الدولة والشؤون العقارية والصحة والصناعة والطاقة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة والفلاحة والتكوين المهني والتشغيل والشباب والرياضة، كما قرر التخلي عن خطة كاتب الدولة للمالية، والتخلي عن وزارة الهيئات الدستورية والعلاقة مع المجتمع المدني.
يهدف هذا التعديل الوزاري، وفق هشام المشيشي، إلى تحقيق مزيد من النجاعة والانسجام في العمل الحكومي، ويستهدف تنفيذ خطط الحكومة بعد عملية تقييم شاملة لأداء الوزراء، مضيفًا في ندوة صحفية عقدها للغرض، أنه أبقى على حكومة مستقلة مدعومة من غطاء سياسي وذات أغلبية في البرلمان.
ومن المنتظر أن يعرض المشيشي في قادم الأيام، التعديل الوزاري على البرلمان لنيل الثقة، عملًا بالفصل 144 من نظامه الداخلي الذي ينص على وجوب ذلك، ويشترط لنيل الثقة موافقة الأغلبية المطلقة من النواب.
استجاب المشيشي لدعوات حلفائه واستبعد جميع الوزراء المحسوبين على الرئيس قيس سعيد لتكون بذلك حكومة هشام المشيشي بامتياز
جاء في هذا الفصل “إذا تقرر إدخال تحوير على الحكومة التي نالت ثقة المجلس إما بضم عضو جديد أو أكثر، أو بتكليف عضو بغير المهمة التي نال الثقة بخصوصها فإن ذلك يتطلب عرض الموضوع على المجلس لطلب نيل الثقة”.
يذكر أن الحكومة الحاليّة برئاسة المشيشي نالت ثقة البرلمان مطلع سبتمبر/أيلول الماضي، وكانت حتى هذا التعديل بدعم كل من حركة النهضة (54 نائبًا)، وحزب قلب تونس (29 نائبًا)، وائتلاف الكرامة (18 نائبًا)، وكتل برلمانية أخرى أصغر.
وكان الرئيس قيس سعيد قد كلف هشام المشيشي بتشكيل الحكومة، مستبعدًا الأسماء التي اقترحتها الأحزاب الرئيسية، والمشيشي رجل قانون وشغل منصب المستشار القانوني للرئيس بعد أن كان مسؤولًا في عدة وزارات، وعُين وزيرًا للداخلية في نهاية فبراير/شباط 2020 في حكومة إلياس الفخفاخ الذي قدم استقالته.
استجابة للاتلاف الحكومي
هذا التعديل الوزاري، جاء استجابة لدعوات الائتلاف الحاكم، حيث سبق أن أكد رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي أن “الحزام السياسي الداعم للحكومة يؤكد أهمية إجراء تحوير وزاري لرفع الكفاءة والأداء وتحسين الحوكمة”، وفق قوله.
أوضح الغنوشي أن أداء الفريق الحكومي الحاليّ متواضع، وبالتالي يجب إجراء تحوير من أجل تطوير الحكومة، مشيرًا إلى أنه ليس مهمًا أن يكون التحوير سياسيًا أو غير سياسي، بل الأهم رفع الأداء والكفاءة في الفريق الحكومي.
الأمر نفسه بالنسبة إلى حزب قلب تونس، الذي أكد في أكثر من مرة ضرورة إجراء تعديل حكومي، يستجيب لتطلعات الحزام البرلماني لحكومة المشيشي، “ذلك أنه لا يمكن مواصلة العمل بهواة”، وفق قول رئيس كتلة قلب تونس أسامة الخليفي.
وساند “ائتلاف الكرامة” حليفيه في الحزام البرلماني، في الدعوة إلى التعجيل بإجراء تعديل حكومي، على أمل أن يتم استبعاد الوزراء الذين لم يثبتوا كفاءتهم وفشلوا في تنفيذ مهامهم على رأس الوزارات التي يقودونها.
كما سبق أن دعمت كتلة “الإصلاح الوطني” الداعمة للحكومة، إلى إقرار تعديلات ومراجعات على تركيبة الحكومة، وانتقد رئيسها حسونة الناصفي بعض وزراء حكومة المشيشي، بقوله “إنهم عجزوا عن حل بعض الملفات العالقة، ولم يتمكنوا من إدارة الأزمات، بل هناك من كان وراء تلك الأزمات”.
استبعاد وزراء سعيد
استجاب المشيشي لدعوات حلفائه واستبعد جميع الوزراء المحسوبين على الرئيس قيس سعيد لتكون بذلك حكومة هشام المشيشي بامتياز، خاصة بعد توتر العلاقات بين الرئاسة وعدد من الأحزاب الممثلة في البرلمان والداعمة لحكومة المشيشي.
وينص الفصل 92 من الدستور على أن رئيس الحكومة يختص بإحداث وتعديل وحذف الوزارات وكتابات الدولة وضبط اختصاصاتها وصلاحياتها، بعد مداولة مجلس الوزراء، وإقالة عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة، أو البت في استقالته، والتشاور مع رئيس الجمهورية إذا تعلق الأمر بوزير الخارجية أو وزير الدفاع.
ويرى الائتلاف الحكومي، أن وزراء سعيد كانوا معرقلين للعمل الحكومي، وولاؤهم كان للرئيس وليس لهشام المشيشي الذي يقود الحكومة، ما دفعهم للضغط على المشيشي حتى يستعجل التعديل الحكومي لفرض مزيد من الانسجام على تركيبتها.
عودة الحكم للقصبة
يرى العديد من المتابعين للشأن العام في تونس أن هذا التعديل الوزاري الأخير، أعاد الحكم للقصبة (مقر التجمع الحكومي)، بعد محاولات كثيفة من قرطاج (مقر رئاسة الجمهورية) للسيطرة عليه وتوجيه الحكومة وفق هواه.
بإعلان هذا التعديل الوزاري، أعلن المشيشي فك الارتباط نهائيًا مع قيس سعيد الذي سبق أن كلفه بالمنصب الذي يشغله حاليًّا، وانضمامه إلى الأغلبية البرلمانية (حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة وحركة الإصلاح).
منذ تعيين المشيشي على رأس الحكومة، حاول سعيد القفز فوق صلاحيات رئيس الحكومة وتوسيع صلاحياته، على عكس ما ينص عليه دستور البلاد، حتى إنه أصبح يعامل المشيشي كوزير أول لا كرئيس حكومة وفقًا للنظام السياسي القديم المعمول به في البلاد قبل الثورة.
الملاحظ أنه خلال هذه الاحتجاجات العنيفة لم ترفع شعارات سياسية أو مطالب اجتماعية، رغم أنها تأتي في ظل توترات سياسية
سبق أن وجه العديد من السياسيين لومهم إلى الحكومة، نتيجة فشلها في تحقيق مطالب التونسيين وتطلعاتهم، وأرجع الحزام البرلماني للحكومة هذا الفشل إلى عدم وجود انسجام واستقرار في العمل الحكومي وولاء العديد من الوزراء للرئيس سعيد وعدم تنسيقهم مع المشيشي.
وسعى سعيد والمحيطون به إلى إضعاف مؤسسات الحكم في تونس، ونقل موازين القوى من القصبة إلى قرطاج الذي ظل لعقود مصدر السلطة الوحيد في تونس والمتحكم في كل صغيرة وكبيرة في البلاد، لكن المشيشي وضع حدًا لهذا من خلال التعديل الوزاري الأخير.
وكانت التركيبة الحكومية للمشيشي تضم شخصيات عديدة تحظى بثقة الرئيس قيس سعيد خاصة فيما يتعلق بالوزارات السيادية، التي عملت معه في قصر قرطاج كمستشارين له، أو عملوا معه خلال الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة.
ويظهر تدخل الرئيس التونسي في مجال صلاحيات رئيس الحكومة، في العديد من المناسبات من بينها عقده سلسلة من لقاءات مع وزراء (مثل وزراء العدل والخارجية والداخلية وأملاك الدولة)، لتوجيههم وفق تصوراته من دون التنسيق مع رئيس الحكومة ما دفع هذا الأخير إلى تذكير جميع وزرائه بضرورة التنسيق معه في كل خطواتهم.
يذكر أن السلطة التنفيذية في تونس تتكون من رأسين: رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، الأول منتخب مباشرة من الشعب، لكنه لا يتمتع بصلاحيات واسعة، وتقتصر على تعيين مفتي الجمهورية وإعفائه، والتعيينات والإعفاءات في الوظائف العليا برئاسة الجمهورية والمؤسسات التابعة لها، وتعيين محافظ البنك المركزي باقتراح من رئيس الحكومة، وبعد مصادقة الأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس نواب الشعب، والثاني منتخب من الأغلبية داخل البرلمان وله كل الصلاحيات.
تعميق الأزمة السياسية أم خطوة لا بد منها؟
صحيح أن المشيشي أعاد السلطة التنفيذية إلى مكانها الطبيعي في القصبة، لكن خطوته الأخيرة من شأنها أن تعمق الأزمة السياسية في البلاد وتطور الخلاف بين رأسي السلطة التنفيذية، المشيشي وسعيد، في وقت تشهد فيه تونس أزمات اقتصادية واجتماعية وصحية، وفق العديد من المتابعين.
مباشرة إثر الإعلان عن التعديل الوزاري، شهدت جهات عديدة احتجاجات ليلية وأعمال عنف وتخريب وصفت بـ”المفتعلة”، رغم فرض السلطات حظر تجوال ليلي وإغلاق شامل للحد من تفشي فيروس كورونا.
وفي وقت سابق اليوم، قالت وزارة الداخلية إن الهدوء عاد إلى كل أنحاء تونس بعد ليلة شهدت مواجهات بين قوات الأمن ومئات من الشبان، وأضافت أن قواتها اعتقلت 630 شخصًا “تورطوا في أعمال تخريب ومحاولات نهب الأملاك العامة” بمحافظات عدة خلال حظر التجول الليلي.
الملاحظ أنه خلال هذه الاحتجاجات العنيفة لم ترفع شعارات سياسية أو مطالب اجتماعية، رغم أنها تأتي في ظل توترات سياسية واجتماعية وأزمة اقتصادية رفعت نسبة البطالة بين الشباب إلى نحو 30%، وقد تخللها نهب بعض المحال التجارية ومحاولة اقتحام مقار بعض البنوك.
على عكس ذلك يرى آخرون أن التعديل الوزاري الذي أعلن عن رئيس الحكومة مؤخرًا، خطوة لا بد منها في سبيل تصحيح المسار وتطبيق فصول دستور الثورة، حتى لا يحصل تراجع في مكتسبات ثورة الحرية والكرامة التي كرست مبدأ الفصل بين السلطات.