أولت الدولة العثمانية منذ نشأتها الأولى اهتمامًا فائقًا بالأسطول البحري الذي بات أحد أهم ركائز الدولة على مدار ستة قرون كاملة، فقد استطاع العثمانيون سيادة الكون بحرًا، وبات هذا الأسطول أحد أقوى الأساطيل في العالم خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلادي.
رغم أن الإمبراطورية العثمانية في نطفتها الأولى كانت برية في المقام الأول، ولكن خلال عقود بسيطة فرضت نفسها كقوة بحرية عالمية بعدما أحكمت قبضتها على عشرات الموانئ في آسيا ووسط أوروبا وشمال إفريقيا، فكان أسطولها القوة التي لا تغيب عنها الشمس.
وتعود النجاحات التي حققها العثمانيون الأوائل إلى قوة هذا الأسطول الذي ساعد السلطان محمد الفاتح في تعزيز سطوته على البحر الأسود والمتوسط وفتح القسطنطينية، ثم فتح مصر، ومن بعدها الانتصار في عشرات المعارك الأخرى التي وسعت نفوذ الدولة العثمانية.
في ملف “أمراء البحار” نلقي الضوء على أهم محطات البحرية العثمانية وأبرز القادة العثمانيين الذين سجلوا أسمائهم في تاريخ العمل البحري على مر العصور. وبدايةً، نتحدث عن أبرز مراحل نشأة الأسطول البحري العثماني، بدءًا من ولادته عقب إنشاء أول سفينة عثمانية حربية عام 1327، مرورًا بمرحلة النهضة التي وصلت شهرته فيها إلى العالمية، وصولًا إلى إدماجه في البحرية التركية عقب الحرب العالمية الثانية.
أسباب الاهتمام بالأسطول البحري
اهتمام العثمانيين بالقوات البحرية لم يكن من باب الرفاهية غير الضرورية أو استعراض القوة غير المبررة، حيث ظلت الدولة في بدايتها الأولى لا تولي أي اهتمام لهذا السلاح كونها لم تكن في حاجة إليه، لكن رويدًا رويدًا فرض نفسه كأحد أدوات توسيع الدولة لنفوذها.
ورغم تعدد أسباب الاهتمام الكبير للدولة العثمانية بالأسطول البحري، فإن هناك 3 دوافع رئيسية جامعة وراء هذا التوجه، على رأسها الموقع الإستراتيجي للدولة، حيث كانت تربط بين أوروبا وآسيا، وهذا يتطلب قوةً بحريةً قويةً مؤهلةً للدفاع عن الدولة وتأمين حدودها.
أما السبب الثاني فيعود إلى طموحات الدولة في التوسع والسيطرة على المواقع الإستراتيجية المهمة لتعزيز نفوذها العالمي، إذ كانت بعض الفتوحات تتطلب أسطولًا بحريًا كبيرًا للقيام بها، كما هو حال القسطنطينية التي ظلّت لفترة مستعصية على المسلمين، ولم يستطع السلطان محمد الفاتح فك حصارها إلا بعد تجهيز أسطول بحري قوي.
فيما يرجع السبب الثالث إلى الأجواء المتوترة حول الدولة العثمانية، فجيرانها آنذاك كانوا يمتلكون قوات بحرية قادرة على تحقيق الفارق، حيث كانت محاطة بأسطول بحري قوي للبيزنطيين شرقًا والبندقيين جنوبًا، الأمر الذي تطلب من العثمانيين أن يكونوا على أهبة الاستعداد من خلال أسطول بحري مواز قادر على التصدي لأي اعتداءات من الجيران.
الحاجة أم الاختراع
انطلاقًا من الدافع الثالث لاهتمام العثمانيين بالأسطول البحري يمكن القول إنه لولا وجود الإمبراطورية البيزنطية والقوى البحرية الجنوبية الأخرى التي فرضت الاحتكاك المباشر مع الدولة العثمانية ما كان يمكن للعثمانيين أن يكونوا أسياد البحار لمدة قرنين كاملين.
بعد الدور العظيم الذي أداه الأمير الغازي أرطغرل، لنصرة الأمير علاء الدين كيقباد الأول (616-634 هـ / 1219-1237م) سلطان قونية، إحدى الإمارات السلجوقية، كافأه الأخير بأن أعطاه أرضًا تقع بين الروم البيزنطيين وإمارة قونية السلجوقية، لتكون النواة الأولى لبناء الدولة العثمانية.
كانت الإمارة العثماية آنذاك إمارة برية في عهد السلاجقة، لكنها توسعت على يد عثمان الأول، نجل أرطغرل، الذي اتخذ مدينة يني شهير عاصمة للإمارة عام 1301م، ثم زادت التوسعات مع تولي الأمير سليمان بن أورخان الذي فتح بروسا “بورصة” 1317م التي تقع على الساحل الجنوبي الشرقي لبحر مرمرة، واتخذها عاصمة للدولة، لتصبح أول عاصمة بحرية للعثمانيين، لتمتد بعدها سواحل الدولة العثمانية من سواحل بحر مرمرة إلى البحر الأسود عام 1626م.
بدأ العثمانيون في بناء أسطولهم البحري، وكان قليل العدد والمؤن، وغير مؤهل بعد لأداء المهام المطلوبة، لكنه رغم ذلك استخدم في فتح بعض الأحياء البحرية المتاخمة لإسطنبول، ويمكن القول إن عام 1334 شهد أول استخدام للأسطول العثماني في مهمة عسكرية رسمية حين فتحوا منطقتي كارامجا وبنديك.
ومع مرور الوقت توسع نفوذ العثمانيين الساحلي، فيما بقي الأسطول على وضعيته غير المؤهلة، فكان البحث عن إمدادات بحرية هدفًا إستراتيجيًا لقادة الدولة، وبالفعل في عام 1357م عبر الأمير سليمان ومعه أربعين رجلًا من المقربين منه مضيق الدردنيل، حيث استولوا على بعض سفن روما الراسية هناك.
وخلال ساعات معدودة نجح الأمير وفريقه الأربعيني في العودة بتلك السفن شرقًا، لتبدأ أول التحركات العسكرية الكبيرة داخل أوروبا، حيث حملت تلك السفن آلاف الجنود العثمانيين إلى الطرف الأوروبي وفتحوا قلعة “تزنب” و”أبسالا” و”غاليبولي” و”رودستو”.
ومع تلك الفتوحات زادت قوة الأسطول البحري العثماني جراء السفن التي حصلوا عليها خلال فتحهم لتلك المدن والموانئ، ما كان له أبلغ الأثر في تقوية البحرية العثمانية، فقد انتصروا بالعديد من المعارك الأخرى التي خاضوها وعلى رأسها أدرنة التي فتحها العثمانيون عام 1361م واتخذوها عاصمة لهم.
عصر النهضة
بعد فتح أدرنة واتخاذها عاصمة للدولة العثمانية بات من الضروري تقوية الأسطول البحري للربط بين شطري الدولة الممتدة من آسيا إلى قلب أوروبا لا سيما بعد فتح بلغاريا وصربيا في معركة “قوص أوه” (كوسوفو) التي استشهد فيها السلطان مراد الأول عام 1398م.
بعض المؤرخين يميلون إلى أن مرحلة النهضة في مسيرة الأسطول البحري العثماني بدأت في عهد أورخان خان بن عثمان الأول بن أرطغرل (1281-1360م) الذي ضم عشرات السفن المجهزة إلى أسطول بلاده، وشكلت حينها مصدر قلق للدول المجاورة.
وبعد وفاة أورخان خلفه ولده يلدرم بايزيد الذي حقق انتصارات ساحقة على الروم في آسيا وأوروبا، فطهر بحر إيجه الآسيوي وسيطر على أعظم موانيه، أيدن ومنتشة، هذا بخلاف المعارك الأخرى التي خاضها وكبد فيها الروميين خسائر فادحة بفضل الأسطول العظيم المكون وقتها من 60 قطعة بحرية متعددة الاستخدامات.
فريق آخر أرخ عصر النهضة البحرية العثمانية لعهد السلطان محمد الفاتح الذي تولى الحكم خلال الفترة من 1451 وحتى 1481م، ففي تلك المرحلة سيطر الفاتح على كل من طرابزون وآمسره، كما خاض حرب الـ16 عامًا مع البندقيين بدءًا من العام 1463م.
ومن أبرز المعارك التي كان للأسطول البحري الكلمة الفصل فيها وأعادت كتابة التاريخ العثماني من جديد، فتح إسطنبول في التاسع والعشرين من مارس/أيار 1453م، حيث حوصرت تلك المدينة 29 مرةً قبل ذلك دون التمكن من فتحها الذي جاء بفضل حنكة السلطان وقوة البحرية العثمانية.
وبلغت عبقرية الفاتح أن سير السفن الحربية على اليابس عبر ألواح من الخشب الصنوبر المدهون بالشحم، لمسافات طويلة، من منطقة طولمة باغجة (بشكطاش بإسطنبول حاليًّا) إلى منطقة قاسم باشا، وذلك بعد أن تعذر إدخال السفن لميناء إسطنبول الذي كان مغلقًا بالسلاسل الحديدية ومزود بالمدفعيات والأسلحة، فتم هذا التحرك في ليلة واحدة حتى وصل إلى الميناء، ليستيقظ سكان المدينة على أسطول بحري مكتمل انتقل سرًا من الشاطئ إلى ميناء مدينتهم.
ومع تولي السلطان سليم الأول الحكم في 1512م، أدخل العديد من التطورات الفنية والتقنية في بنية الأسطول البحري الذي كان له دور مؤثر في الحرب مع الدولة المملوكية، ففتح مصر وأحكم قبضته على طريق التوابل بالبحر المتوسط، كما وسع الترسانة البحرية لتشمل السويس وروسه والبيرة (أورفة) وتبلغ طاقتها الاستيعابية 130 سفينة.
وعلى مدار قرنين كاملين، الخامس عشر والسادس عشر الميلادي، استطاع الأسطول العثماني الذي تجاوز عدد سفنه 350 سفينة مزودة بالقطع الحربية والمدافع، أن يحكم قبضته على مياه المتوسط وبحار أوروبا وبعض الممرات المائية في إفريقيا وآسيا، حتى بات أحد الأساطيل التي يعمل لها ألف حساب في العالم، وهو ما أثار قلق الصليبيين الذين خططوا لاستهداف تلك الإمبراطورية التي باتت مصدر قلق وتهديد لهم.
مرحلة الأفول
تعرضت الإمبراطورية العثمانية لمراحل ضعف بالغة في أيامها الأخيرة، كان لها انعكاساتها القوية على تأثير وحجم الأسطول البحري الذي تراجع دوره شيئًا فشيئًا بعد الهزائم التي تعرض لها على أيدي الروس والأوروبيين وغيرهم من القوات المناهضة للدولة العثمانية من بداية القرن السابع عشر وحتى العقد الثاني من القرن العشرين.
ورغم تلك الضربات الموجعة التي تلقاها الأسطول العثماني، فإنه استطاع أن يحافظ على نسبة من قوته واتزانه، ومن أجل ذلك تم تدشين الهيئات والكيانات المعنية بتطويره ودعمه، فأنشئ مجلس البحرية في عهد عبد المجيد الأول عام 1840 ثم أول وزارة للبحرية عام 1867م.
ومع هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى 1918 وتفكك إمبراطوريتها في نهاية المطاف 1924 تولت البحرية التركية التابعة للجمهورية التركية نصاب قيادة الأسطول العثماني، لتبدأ مرحلة جديدة من البناء والتنمية لهذا الأسطول الذي أصبح أحد الأركان الرئيسية لقوة الدولة التركية الحديثة.
وفي النهاية، فإن الأسطول البحري كان السلاح الأبرز في معركة الإمبراطورية العثمانية من أجل توسيع نفوذها داخل القارات الثلاثة، آسيا وإفريقيا وأوروبا، وستظل تلك الانتصارات التي تحققت على أيدي أباطرة البحر علامات مضيئة في تاريخ البحرية الإسلامية.