خاضت البحرية العثمانية على مدار أكثر من أربعة قرون عشرات المعارك، كان النصر حليفها في معظمها، فيما خسرت بعضها، لكنها حتى في الخسارة لم تفقد تأثيرها الإقليمي، لتستعيد توازنها سريعًا وتعاود الانخراط في ساحة المواجهات حماية لترابها وتوسعة لدائرة فتوحاتها الإسلامية.
نستعرض في هذا التقرير أبرز المعارك التي شهدها الأسطول الحربي العثماني، وتأثير نتائجها على خريطة العالم الجيوسياسية في وقت حشدت فيه أوروبا بأكملها كل طاقاتها وقدراتها من أجل التصدي للهيمنة العثمانية على البحر المتوسط الذي ظل تحت إمرة العثمانيين وبحريتهم لعقود طويلة.
فتح القسطنطينية
كان الأسطول العثماني كلمة الفصل وعامل تغليب الكفة الأرجح خلال فتح القسطنطينية منتصف القرن الخامس عشر (1453م) إذ أيقن السلطان محمد الفاتح بعد سنوات طويلة من الخبرة أن هذا الفتح لن يكون إلا بجيش جرار من السفن والمؤن البحرية.
وعليه طور الفاتح الأسطول البحري للإمبراطورية العثمانية حتى بات الأكبر والأقوى في العالم في هذا الوقت، ليصل حجمه عند حصار القسطنطينية إلى أكثر من 350 سفينة بجانب عشرات القوارب الصغيرة، وهو ما كان له أبلغ الأثر في الدخول إلى المدينة بعد سنوات طويلة من المحاولات دون أي تقدم يذكر.
جاء هذا الفتح ليعلن مرحلة جديدة من نفوذ العثمانيين، وينهي المحاولات المستميتة لضم هذه المدينة لدولة الخلافة الإسلامية، بدءًا من أوائل العهد الأموري خلال ولاية معاوية بن أبي سفيان، مرورًا بالعهد العباسي وصولًا إلى العهد العثماني الذي كتب الفصل الأخير في مسلسل أسلمة القسطنطينية.
الدور الذي أداه الأسطول البحري في حسم تلك المعركة كان حديث أوروبا كلها، التي اعتبرت أن سقوط تلك المدينة بعد 1500 عام من المحاولات، بمثابة نهاية الإمبراطورية البيزنطية بشكل رسمي، هذا بجانب ما شكله هذ الفتح من ضربة موجعة للعالم المسيحي ولدولة البابوية الكاثوليكية في أوروبا.
معركة زونكيو
لدى معركة زونكيو التي وقعت في أغسطس/آب 1499 خصوصية مختلفة نسبيًا عن بقية المعارك، فبجانب أنها إحدى المواجهات الساخنة خلال الحرب البندقية العثمانية التي امتدت من 1499-1503، فهي أول معركة بحرية استخدم فيها الأسطول البحري المسلم المدافع على السفن.
الأسطول العثماني بقيادة الربان الفذ كمال ريس استطاع خلال الأيام الأربع التي شهدتها تلك المعركة تغيير معايير القوى في الأسطول البحري للجيوش، مع الوضع في الاعتبار حجم القوة التي كانت تتمتع بها البحرية البندقية التي كانت في هذا الوقت أحد معالم البحرية في العالم.
أثارت الفتوحات الإسلامية على أيدي العثمانيين في البحر المتوسط وأوروبا غضب البندقيين الذين قلقوا من سحب بساط الريادة البحرية من تحت أقدامهم، ما دفعهم للتحرش بالأسطول البحري العثماني بين الحين والآخر، الأمر الذي كان إيذانًا بالاصطدام بين القوتين.
في بداية 1499، استولت سفن البنادقة على العديد من الجزر الخاضعة للسيطرة العثمانية، كما أحرقوا بعض السفن العثمانية بها، ولما وصلت تلك الأخبار إلى الأستانة، كان الرد فوريًا وحاسمًا، حيث أمر السلطان بايزيد الثاني بإرسال أسطول بحري عظيم مزود بالمدافع لأول مرة منذ نشأته.
وبالتوازي مع أسطول ياريس كان الصدر الأعظم داوود باشا قد جهز هو الآخر أسطولًا جديدًا، وبعد انضمام الأسطولين بات القوام الإجمالي للقوات البحرية العثمانية 67 قابسًا و220 سفينة أخرى، محملين بالعتاد العسكري والتسليحي والمؤن اللازمة للإبحار والقتال.
وقد انتهت تلك المعركة بهزيمة ساحقة للبندقيين، فيما غرقت إحدى سفنهم التي كانت تقل أفراد من الأسرة الحاكمة، بجانب اعتقال قائد الأسطول البندقي أنطونيو جريمانى، فيما تم أسر العشرات من السفن الحربية التابعة للأسطول البندقي، لتضع تلك المعركة البحرية العثمانية تحت أضواء الاهتمام الأوروبي.
معركة فورمنتيرا
في منتصف 1529م أرسل ملك إسبانيا، الإمبراطور الروماني شارلكان أو تشارلز الخامس الهابسبورغي، أسطولًا بحريًا مكونًا من 8 سفن عملاقة، بقيادة الربان المعروف آنذاك، رودريغو بورتوندو، بهدف القضاء على الأسطول الجزائري الذي كان يهاجم شواطئ فالنسيا وينقل المورسكيين (المسلمون الذين بقوا في الأندلس تحت الحكم المسيحي بعد سقوط الحكم الإسلامي للأندلس وأجبروا على اعتناق المسيحية) من أوروبا إلى الجزائر.
في هذه الأثناء صدرت التعليمات إلى أيدين رايس لقيادة أسطول عثماني هائل للدفاع عن السفن الجزائرية ووقف التحرش به بحريًا، والدفع بالأسطول الإسباني خارج جزيرة فورمينتيرا القريبة من إيبيزا، وبعد محاولات تحذيرية عدة لم يستجب الإسبان لمناشدات العثمانيين.
وفي 28 من أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام اندلعت المعركة بين القوتين، العثمانية والإسبانية، وسميت بـ”معركة البليار” التي حقق فيها العثمانيون انتصارًا ساحقًا على الأسطول الإسباني الذي قُتل قائده في المواجهات، فيما اغتنم جيش العثمانيين سبع سفن من الثماني التي شاركت في المعركة، وأسر بعض الجنود الإسبان وتم نقلهم إلى الجزائر.
معركة الدردنيل
كان سقوط جزيرة كريت في أيدي العثمانيين عام 1646 بعد صراع عسكري دار بين قواتهم وجمهورية البندقية خنجرًا في ظهر البندقيين، الأمر الذي دفعهم للإعداد لمعركة أخرى يستردوا فيها تلك الجزيرة التي كانت تمثل ثقلًا إستراتيجيًا كبيرًا للإمبراطورية البندقية.
وبعد 8 سنوات كاملة من سقوط كريت خاض البندقيون معركة بحرية كبرى ضد أسطول الدولة العثمانية في الـ16 من مايو/أيار 1654، سميت بـ”معركة الدردنيل” (نسبة إلى مضيق الدردنيل شمال غرب تركيا الآن) وكانت تهدف في المقام الأول إلى إجبار العثمانيين على التخلي عن الجزيرة والانسحاب منها بصورة كاملة.
فرض البندقيون حصارًا بحريًا على المضيق الذي كان خاضعًا للسيطرة العثمانية كما قطعوا الإمدادات عن الأسطول الإسلامي المتمركز في كريت الذي كان قوامه وقتها 79 سفينةً، وحين وصلت الأنباء إلى الأستانة بشأن هذا الحصار تم تعزيز القوات البحرية العثمانية بـ36 سفينةً جديدةً: 22 قادمين من بحر إيجة و12 من الساحل البربري.
التفوق العددي كان لصالح العثمانيين بطبيعة الحال، إذ كان الأسطول البندقي لا يتجاوز 26 سفينةً، وعليه كان الانتصار الحاسم للعثمانيين الذين أجبروا السفن البندقية على الانسحاب من المضيق ومغادرة الجزيرة بشكل كامل، إلا أن الأسطول العثماني تكبد خسائر كبيرة في الوقت ذاته، وهو ما اعتبره البندقيون وقتها انتصارًا معنويًا لهم.
معركة بروزة
في منتصف القرن السادس عشر أصبح الأسطول البحري العثماني الأهم والأكثر رهبةً في دول حوض البحر المتوسط كاملةً، فيما تكبدت أوروبا في عهد السلطان العثماني سليمان القانوني العديد من الخسائر التي أثارت الهلع في نفوس الأوروبيين.
ومن أبرز تلك المعارك التي أظهرت قوة البحرية العثمانية في عهد القانوني معركة بروزة التي وقعت في 4 من جمادى الأول 945هـ الموافق 28 من سبتمبر/أيلول 1538م في خليج أكتيوم (بالقرب من ميناء بريفيزا غربي اليونان) حيث لقن الجيش الإسلامي نظيره الصليبي دروسًا عدة في فنون القتال البحري.
في تلك المعركة حشدت أوروبا كامل قواتها تحت شعارات “الحرب الصليبية المقدسة”، حيث جيشت أسطولًا مكونًا من 600 قطعة بحرية، تحمل 60 ألف جندي من إسبانيا والنمسا والبندقية، تحت قيادة أحد أعظم قادة البحر في أوروبا هو أندريا دوريا، فيما كان الأسطول العثماني لا يتجاوز 122 سفينةً تحمل 20 ألف جندي بقيادة العظيم خير الدين بربروس.
الفارق الكبير بين القوتين كان دافعًا لأن تكون المعركة غير تقليدية، وهو ما دفع بربروس للتفكير في خطة مواجهة تضمن له الصمود أمام هذا الجيش الجرار، وهنا ارتأى القائد المسلم الهجوم المباغت على أسطول أوروبا لإفقاده التوازن قبل أن يُتم استعداده للحرب.
وبالفعل أوقعت الصدمة الهول في نفوس الأوروبيين، حيث تفرقت السفن يمينًا ويسارًا، فيما هرب القائد دوريا من ميدان المعركة التي لم تستغرق أكثر من 5 ساعات فقط، دمر العثمانيون فيها 13 سفينة أوروبية وألحقوا الخسائر بـ110 أخرى، ليحقق المسلمون انتصارًا غير متوقع، ما كان له صداه الكبير في العواصم الأوروبية.
معركة جربة
تنامى شعور القلق الأوروبي لا سيما إسبانيا والبندقية من البحرية العثمانية التي اتسع نفوذها بشكل كبير حتى وصل شمال إفريقيا وبات يمثل خطرًا على الخاصرة الجنوبية لأوروبا، وتعاظم هذا القلق بعد استيلاء بيالي باشا على جزر البليار عام 1558.
وبعد 22 عامًا من معركة بروزة التي يبدو أنها حفرت جروحًا غائرةً في جسد القارة العجوز، حتى دفعتها للمعاودة مرة أخرى للثأر، فأرسلت أسطولًا مؤلفًا من سفن إسبانية ونابولية وصقلية ومالطية، ليواجه الأسطول العثماني قبالة جزيرة جربة قرب السواحل التونسية في معركة استمرت خلال الفترة بين 9 و14 من مايو/أيار 1560م.
استطاع أسطول الدولة العثمانية، بقيادة بيالي باشا ودرغوث باشا، حسم المعركة في غضون ساعات معدودة، إذ أغرق نصف السفن الأوروبية تقريبًا، في حين تباينت الروايات بشأن الخسائر البشرية، ففريق ذهب إلى أن العدد الإجمالي للقتلى بلغ 180 ألف مجند في حين أشار آخر إلى 90 ألف فقط.
معركة ليبانتو
كان الانتصار في معركتي بروزة وجربة ذروة الهيمنة البحرية العثمانية في البحر الأبيض المتوسط، حتى أصبح الوجود العثماني خانقًا لكل ممالك أوروبا، الأمر تعاظم أكثر مع تنصيب السلطان سليم الثاني – ابن السلطان القانوني – في عام 1566، الذي باتت فتوحاته تهدد وبشكل كبير المعاقل المسيحية الأوروبية.
وفي عام 1570 أعلن العثمانيون فتح قبرص – في إطار الحرب مع البندقية – كمحطة مهمة للتجارة في المتوسط الذي بات مهيمنًا عليه عثمانيًا بشكل كبير، وهنا قرر زعماء أوروبا تنحية خلافاتهم المذهبية والسياسية والتوحد من أجل التصدي للنفوذ العثماني، موحدين جهودهم العسكرية في صورة “عصبةٍ مقدسة”.
وفي منتصف 1571 خرج الصليبيون بأسطول بحري جرار يضم أكثر من 200 سفينة و40 ألف بحار و20 ألف جندي، بقيادة الأخ غير الشقيق لفيليب الثاني دون خوان النمساوي، في محاولة لرفع الحصار عن قبرص، لتبدأ المعركة الكبرى مع الأسطول العثماني الذي كان يتكون من 300 سفينة، في جزيرة ليبانتو.
وتعد تلك المعركة “ليبانتو” واحدة من أضخم المعارك البحرية في التاريخ، حيث بلغ إجمالي السفن المشتركة فيها 500 سفينة و100 ألف مقاتل من الجانبين، غير أن العثمانيين تكبدوا فيها خسائر كبيرة، حسب بعض التقديرات نحو 200 سفينة إلى جانب 15 ألف جندي وبحار.
مثلت هذه المواجهة معركة فاصلة في تاريخ أوروبا، إذ كانت الانتصار الأول الأبرز للبحرية الأوروبية على الأسطول العثماني الذي لا يقهر في ذلك الوقت، وهو الانتصار الذي هللت له أوروبا، متوهمة أنه بداية أفول الإمبراطورية البحرية العثمانية، لكن الأمور لم تكن كما كان يتوقع أبناء القارة العجوز.
وبينما ذهب بعض المؤرخين إلى بداية تراجع النفوذ العثماني في المتوسط بعد تلك المعركة، إلا أنه لم يمر سوى عامين فقط، حتى استعاد الأسطول البحري عافيته مرة أخرى، بفضل الدعم الكبير الذي أولاه السلطان محمد صقللي باشا لهذا الأمر لدرجة أنه خصص حديقة قصره لبناء 8 سفن ضخمة.
وبخلاف تلك المعارك الشهيرة فهناك مواجهات أخرى حققت فيها البحرية العثمانية العديد من الانتصارات منها معركة “أندروس” التي وقعت في الفترة من 17 إلى 18 من مايو/أيار 1790 بين الجيش العثماني والإمبراطورية الروسية التي تلقت هزيمة كبيرة وخسرت الكثير من أسطولها، كذلك معركة “أولسيني” عام 1880 بالقرب من كلليزنا (الجبل الأسود الأن) بين الدولة العثمانية والألبان المتمردين وانتهت بانتصار ساحق للعثمانيين وتسليم أولسيتي للجبل الأسود.