قبل ست سنوات، دارَ حوارٌ صاخبٌ على تويتر بين وزير الخارجية الأمريكي جون كيري وسياسي ألماني، بعد أن اتهمَ الأخير السياسة الأمريكية بدعم داعش والنصرة عبرَ إضعاف بشار الأسد بتمويل خليجي!، ورغمَ أن هذا السياسي الألماني أكّد في تصريحات صحفية عدة بأن بشار الأسد “ديكتاتور” لكنهُ يرى بأن تدخلات الغرب في الشرق الأوسط جلبت مضارًا أكثر من المنافع، وأن الأسد هو “حامي الأقليات لأن جميع الطوائف كانت تمارس طقوسها الدينية بكل حرية خلال سنوات حكمه”، على حد وصفه.
هذا السياسي الألماني المعجب بالديكتاتور السوري هو “آرمين لاشيت” الليبرالي الذي يوصف بالمعتدل (يمين الوسط)، وقد اختير زعيمًا لحزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي، وهو الآن في وضع جيد في السباق لخلافة ميركل عندما تتنحي عن منصب المستشارة الألمانية في سبتمبر/أيلول المقبل بعد 16 عامًا في المنصب.
ذو العينين الضاحكتين
ورغم الارتياح في الأوساط السياسية الألمانية بعد انتخاب المعتدل أرمين لاشيت المؤيد لاستمرار السياسة الوسطية لأنجيلا ميركل رئيسًا لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بعد حصوله على أغلبية 521 صوتًا من أصل 1001 مندوب تمت دعوتهم للتصويت. لكن هذا الارتياح ليس موجودًا بالقدر نفسه في أوساط المهاجرين عمومًا واللاجئين السوريين خصوصًا، لاسيما بعدَ القرار الأخير الذي أقره وزراء داخلية الولايات الـ 16 وبدأ تطبيقهُ مطلع العام الجاري، المتضمن رفع القيود عن ترحيل اللاجئين إلى سوريا.
ويومَ إعلان فوزه قالت وكالة الصحافة الفرنسية: “ذو العينين الضاحكتين خلف نظارته الرقيقة بشكل خاص سياسة استقبال اللاجئين في 2015”. لكن الأمور تغيّرت كثيرًا منذ ذلك الحين، في ظل ارتفاع منسوب خطاب شعبوي معادٍ للاجئين في عموم أوروبا، كما أن “ذو العينين الضاحكتين” لايؤمن بأن بشار الأسد هو المسؤول عن قتل هذا العدد الضخم من الشعب السوري، ولا يؤيد فكرة وجود معارضة معتدلة، وإن وُجدوا فهؤلاء قلّة قليلة جدًا.
وتتداول وسائل الإعلام الألمانية قصة اللاجئ السوري كيفورك ألماسيان المدافع بشراسة عن نظام الأسد الذي يعمل لدى برلماني يميني في ألمانيا، وهو مهدد بالترحيل إلى سوريا حاليًا بعد سحب حق اللجوء منه. يُخشى أن يكون “لاشيت” أكثر تعاطفًا مع مؤيدي الأسد بالمقارنة مع تصريحاته المعلنة.
عندما واجهت ميركل معارضة شديدة من أطياف من حزبها في مواجهة وصول مئات الآلاف من اللاجئين وطالبي اللجوء إلى ألمانيا منذ عام 2015 ظل لاشيت حليفًا مخلصا لها
لكن في ذات الوقت، وقبل أيام قليلة فقط من التصويت لتحديد زعيم حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي قال لاشيت إنه يتطلع إلى “جعل عشرينيات القرن الحادي والعشرين عقدًا من التحديث لألمانيا.. ديناميكية اقتصادية جديدة، وأمن شامل، وفرص تعليمية من الدرجة الأولى وعادلة، وإنشاء وزارة رقمية على المستوى الفيدرالي، وإظهار عدم التسامح مطلقًا مع الإجرام والتطرف”.
قد ترسمُ تلك الخطوط العريضة ملامح السياسة المقبلة لخليفة ميركل تجاه اللاجئين، لاسيما أن “لاشيت” صحافي سابق ويهتم عادةً بالتفاصيل، لكن بالمقابل، يعتبرُ من أبرز المناهضين لخطر نمو اليمين المتطرف الألماني، وعندما اندلعت أعمال شغب يمينية متطرفة في شوارع مدينة كيمنتس الشرقية العام الماضي، صرّح السياسي المحافظ البارز لصحيفة نيويورك تايمز بالقول: “لم تواجه جمهوريتنا قط منذ إنشائها قدرًا كبيرًا من الضغط من جانب اليمين المُتطرّف مثل الذي تواجهه الآن”.
آرمين التركي
من جانب آخر يُوصف لاشيت بالانفتاح، ويُعرف عنه دعمه لسياسة المستشارة أنجيلا ميركل المتعلقة بفتح ألمانيا أمام اللاجئين، حتى أن الألمان يطلقون عليه لقب “أرمين التركي”، في إشارة إلى الجالية التركية، أكبر جالية مهاجرة في ألمانيا. وفي خطه السياسي الداخلي، عرف لاشيت بآرائه الليبرالية وعلاقاته القوية بالجاليات المهاجرة، كما أنه يوصف بالمدافع الشرس عن سياسات الهجرة التي تبنتها المستشارة ميركل خلال أزمة اللجوء.
ورفض لاشيت مقترحات حظر لبس غطاء الوجه (النقاب)، ووصفها بأنها “نقاش زائف” وتشتيت الانتباه عن القضايا الأكثر إلحاحًا. لكن كل هذه مواقف قديمة نسبيًا، أما آراؤه في السنوات الأخيرة فكانت أكثر تشددًا تجاه اللاجئين، وقد يكون ذلك جزءًا من حملته الانتخابية لكسب أصوات الساسة الألمان من مختلف الاتجاهات (يمين، وسط، يسار). لكن يبقى موقفه الحقيقي تجاه اللاجئين لاسيما السوريين الذين يشكلون أكبر نسبة من أعداد اللاجئين في ألمانيا خلال السنوات الماضية، غامضًا محيرًا.
وعندما واجهت ميركل معارضة شديدة من أطياف من حزبها في مواجهة وصول مئات الآلاف من اللاجئين وطالبي اللجوء إلى ألمانيا منذ عام 2015 ظل لاشيت حليفًا مخلصا لها. وهو معروف بسياسته الليبرالية وشغفه بالاتحاد الأوروبي والقدرة على التواصل مع مجتمعات المهاجرين.
لكن هذا التناقض جزء من شخصية السياسي الألماني الذي سيبلغ الستين من عمره في 18 شباط/فبراير من العام الجاري، ففي خطاب الفوز، تعهد لاشيت بعمل كل شيء حتى يؤدي الحزب بشكل جيد في الانتخابات الإقليمية القادمة، وللاحتفاظ بمنصب المستشار. وقال لاشيت: “علاوة على ذلك، ما زالت تنتظرنا انتخابات أكثر أهمية”.
يعد فوز أرمين لاشيت المخلص لطريقة ميركل بمثابة وضع قدمه على أولى خطوات خلافة أنجيلا ميركل على رأس الحكومة الألمانية
القصير المرح
يحظى لاشيت بشعبية كبيرة وكثيرًا ما شوهد وهو يلقي بنفسه بحماسة في احتفالات الكرنفال التقليدية. ووصفته هيئة الإذاعة البريطانية BBC في تقرير لها بعد ساعات من فوزه بـ “القصير المرح”.
خلال حملته الانتخابية كان “القصير المرح” يصف نفسه دومًا بأنه “مرشح الاستمرارية” ولطالما وصفته وسائل الإعلام الألمانية بأنه “مرشح أنجيلا ميركل المفضل” وامتداد لنهجها. فقد كانت تعتمد عليه كنائب لها عندما كانت رئيسة الحزب حتى عام 2018.
ويقول لاشيت: “إنني مع النهج المتوازن وتجنب التطرف، وهذا موقف سياسي يتجه نحو الناس ولا يدير ظهره لهم ويحافظ على التماسك المجتمعي”.
بطاقة شخصية
ولد أرمين لاشيت في آخن بولاية شمال الراين وستفاليا، وهي الولاية الأكثر اكتظاظًا بالسكان في ألمانيا، في 18 فبراير/ شباط من عام 1961. وبعد حصوله على شهادة في القانون عمل بالمحاماة كما عمل بالصحافة أيضا قبل أن يتحول إلى السياسة.
من عام 1994 إلى عام 1998، كان عضوا في البرلمان الفيدرالي الألماني، ومن عام 1999 إلى عام 2005 كان نائبا في البرلمان الأوروبي. ومنذ عام 2010، عمل لاشيت في برلمان ولاية شمال الراين وستفاليا.
في عام 2017 فاز حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي في الانتخابات الإقليمية في الولاية وشكل حكومة ائتلافية مع الديمقراطيين الأحرار الإف دي بي. وتولى لاشيت، المرشح الرئيس للحزب المسيحي الديمقراطي، منصب رئيس وزراء ولاية شمال الراين وستفاليا منذ 27 يونيو/حزيران من عام 2017.
في 16 كانون الثاني 2021 تم انتخابه رئيسا لحزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي في جولة الإعادة ضد المرشح المحافظ فريدريش ميرز بأغلبية 521 صوتًا مقابل 466. وبذلك صارَ الأوفرَ حظًا لخلافة المستشارة أنجيلا ميركل.
لايزال “لاشيت” هو الأوفر حظًا، لكن المفاجآت قد تحدث، ومن المتوقع صدور قرار بشأن مرشح الحزب لمنصب المستشار في مارس/آذار المقبل.
الطريق نحو المستشارية
يعد فوز أرمين لاشيت المخلص لطريقة ميركل بمثابة وضع قدم على أولى خطوات خلافة أنجيلا ميركل على رأس الحكومة الألمانية، لكن ذلك غير مضمون أبدًا، فالانتخابات مفتوحة على جميع الاحتمالات، وشعبيته لم تنعكس بشكل واضح على الناخبين.
تقليديًا، يقود زعيم الحزب المسيحي الديمقراطي الحملة الانتخابية كمرشح لمنصب المستشارية عن الحزب وحليفه الشقيق في ولاية بافاريا الحزب المسيحي الاجتماعي. لكن هذا العام ظهر منافسون محتملون آخرون لقيادة التحالف المسيحي في الانتخابات
المرشح الآخر لمنصب المستشار هو فريدريك ميرز، الذي خسر قيادة الحزب أمام لاشيت بالرغم من توقعات بفوزه، ولكنه قد يحصد الأصوات خلال انتخابات سبتمبر. وهو مصرفي كبير يسعى لإعادة الحزب إلى أجندة أكثر تحفظًا وأكثر يمينية، ويحظى بشعبية في مجتمع رجال الأعمال والشركات، لكنه عانى في الحصول على دعم الليبراليين.
هناك أيضًا نوربرت روتغن، صاحب المركز الثالث في انتخابات الحزب، والذي اشتهر بقبضته على الشؤون الخارجية، لكنه قال إنه إذا تم انتخابه كزعيم، فإنه سيتبع أجندة أكثر مراعاة للبيئة والتغير المناخي، وهو ما قد يكون سبب هزيمته.
وهناك احتمال آخر قد يحصل وهو أنه يقوم الحزب الاتحادي الديمقراطي المسيحي باختيار مرشح آخر من الحزب، لتمثيله في انتخابات سبتمبر، عوضًا عن لاشيت، هذا الشخص قد يكون نائب لاشيت الحالي، وهو ينز سبان، وزير الصحة الألماني الذي ازدهرت شعبيته خلال فترة جائحة كورونا، و تفوق على ميركل في واحد من استطلاعات الرأي الشعبية الأخيرة.
المرشح الأخير، هو ماركوس سودر، رئيس وزراء مقاطعة بافاريا، وهو زعيم الحزب الاجتماعي المسيحي، “الشقيق الأصغر” للحزب الديمقراطي المسيحي.
لايزال “لاشيت” هو الأوفر حظًا، لكن المفاجآت قد تحدث، ومن المتوقع صدور قرار بشأن مرشح الحزب لمنصب المستشار في مارس/آذار المقبل.