رغم أن الأجواء الحدودية بين السودان وإثيوبيا لا تزال ملبدة بغيوم التوتر في ظل الحشد والحشد المضاد، فإن المبادرات التي تبنتها بعض الدول لاقت ترحيبًا أوليًا، ربما يخفف من حدة الطقس السيئ في العلاقات بين الخرطوم وأديس أبابا في ظل رغبة كلتاهما في عدم الدخول في مواجهات عسكرية مباشرة.
المبادرة التي تفرض نفسها الآن هي مبادرة جنوب السودان التي نقلها مستشار رئيس الدولة توت جلوك، لرئيس الحكومة السودانية المؤقتة عبد الله حمدوك، خلال زيارته للخرطوم، أول أمس الأحد، وقبلها بثلاثة أيام أجرى الرئيس الجنوب سوداني سلفاكير ميارديت، اتصالًا هاتفيًا برئيس المجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، عرض فيه التوسط لاحتواء الأزمة بين السودان وإثيوبيا.
الخرطوم على لسان رئيس الحكومة جددت ترحيبها مرة أخرى بالتحركات الدبلوماسية لجارتها الجنوبية، بهدف نزع فتيل التوتر الحدودي مع الجارة الشرقية، فيما تتناثر الأنباء عن مبادرات ووساطة أخرى من المرجح أن تقوم بها بعض الدول كجنوب إفريقيا و”إسرائيل”.
اللافت للنظر أنه في خضم هذا المشهد الساخن، المغري دبلوماسيًا، غابت القاهرة بشكل مثير للجدل، رغم تقاطع الملفات الحساسة مع طرفي النزاع، وبدلًا من استغلال الدبلوماسية المصرية لهذه الفرصة السانحة لاستعادة عمقها القاري إذ بها تكتفي بالمتابعة من مقاعد المشاهدين.. فهل اعتادت القاهرة إضاعة الفرص السهلة؟
جوبا.. دبلوماسية ناشئة
وجدت جوبا في التوتر السوداني الإثيوبي فرصةً مواتيةً لتقديم نفسها على الساحة الدبلوماسية الإفريقية في محاولة لإيجاد موضع قدم لها في التأثير القاري الذي بدأ يعاد تشكيله مجددًا في ظل فقدان العديد من القوى التقليدية دورها المحوري خلال العقدين الماضيين.
مستشار رئيس جنوب السودان كشف خلال لقائه بحمدوك أن بلاده ستلعب دورًا مهما من أجل خفض التوتر بين الجارتين، السودان وإثيوبيا، مؤكدًا أن الحوار هو الحل الأمثل لتقريب وجهات النظر، مستبعدًا فرضية الحرب التي تعرقل كل الجهود المبذولة التي سيكون تأثيرها كارثيًا على جميع الأطراف.
وعن رؤية بلاده لتفاصيل التوتر الحدودي وأبعاده قال توت جلوك: “الحدود بين السودان وإثيوبيا قديمة، ومطلوب أن تتم فيها هيكلة جديدة للعلامات الموجودة بين الدولتين، وللمواطن الحق في الزراعة والتجارة، على أن يعرف أنه موجود في أراضي سودانية أو إثيوبية”.
سؤال بدأ يفرض نفسه مع بداية التوتر الإثيوبي مع التيغراي: أين مصر مما يحدث؟ خاصة أن دولًا عديدة عرضت القيام بالوساطة لحلحة الأزمة
وردًا على هذه التصريحات أكد وزير الدفاع السوداني الفريق يس إبراهيم، أن قوات بلاده المسلحة ستظل باقية في منطقة الفشقة الحدودية، مناشدًا أديس أبابا بسحب قواتها مما تبقى من مواقع كانت تحتلها في مناطق مرغد وخورحمد وقطرآند، استنادًا إلى المعاهدات الدولية.
وكان مبعوث رئيس جنوب السودان، قد بعث برسالة إلى حمدوك، خلال زيارة أجراها للخرطوم، الجمعة الماضية، كشف فيها عن رغبة جوبا للتوسط في الأحداث الحدودية بين السودان وإثيوبيا، فيما لم يصدر أي رد فعل رسمي من أديس أبابا حيال هذه المبادرة وإن كانت الأجواء وفق ما تطرق خبراء تشير إلى رغبة في حلحلة الأزمة وتخفيف التوتر القائم.
أين دور القاهرة؟
طالما عزف النظام المصري وعلى رأسه عبد الفتاح السيسي على وتر أن الفشل في مفاوضات سد النهضة ونجاح إثيوبيا في الوصول إلى هذه المرحلة المتقدمة من البناء كان بسبب استغلال أديس أبابا للأوضاع في مصر إبان ثورة 25 يناير 2011، حيث استطاع الإثيوبيون استغلال الانشغال المصري بالشأن الداخلي وبدأوا في تنفيذ مشروعهم القومي.
وهنا سؤال بدأ يفرض نفسه مع بداية التوتر الإثيوبي مع التيغراي: أين مصر مما يحدث؟ خاصة أن دولًا عديدة عرضت القيام بالوساطة لحلحة الأزمة، وهنا كان أمام المصريين أحد خيارين: إما عرض الوساطة لتذويب جليد العلاقات مع إثيوبيا وفتح صفحة جديدة تراجع فيها أديس أبابا موقفها المتعنت من السد، وإما استغلال هذا التوتر ودعم الإقليم بما يستنزف القوة الإثيوبية ويصعد من الاحتجاج الشعبي ضد نظام آبي أحمد بما يمهد للإطاحة به أو تغيير سياساته الخارجية.. وكانت النتيجة (صفر) فلم تحرك القاهرة ساكنًا، لتضيع الفرصة الأولى.
التغير الطارئ في موقف الخرطوم من سد النهضة، واستشعارها الخطر حيال ما يمثله من تهديدات، هو موقف مؤقت لا يعدو أن يكون رد فعل في ظل التوتر بين البلدين
أما الفرصة الثانية فجاءت على طبق من ذهب للجانب المصري، وذلك حين اندلعت الأجواء الحدودية السودانية الإثيوبية، وعاود البعض التساؤل عن الدور المصري في هذه الأزمة، على الأقل من باب استعادة الثقل القاري الذي بدأ يتلاشى عامًا تلو الآخر.
خياران آخران كانا أمام المصريين كما في الفرصة الأولى، إما دعم السودان دعمًا كليًا لكسب تأييدها في مسار المفاوضات خاصة أن الخرطوم كثيرًا ما تبنت مواقف مناوئة للموقف المصري ومؤيدة تمامًا للرؤية الإثيوبية، وإما التقدم بمبادرة للتوسط إلى حل ينهي تلك الأزمة، بما يحسن الأجواء العامة في العلاقات بين البلدان الثلاث.. لكن النتيجة كالعادة (صفر)، لتضيع القاهرة الفرصة الثانية.
البعض هنا ربما يلمح إلى دور مصري في الأزمة، مستندًا إلى الزيارة التي قام بها وفد حكومي سوداني في الـ14 من يناير/ كانون الثاني الحاليّ للقاهرة، برئاسة عضو مجلس السيادة السوداني الفريق أول ركن شمس الدين كباشي، ويرافقه وزير الإعلام ومدير جهاز المخابرات العامة، والتقوا خلالها الرئيس المصري.
غير أن تلك الزيارة وما سبقها من زيارة للبرهان لم يسفرا عن أي شيء، حتى المحاولات المصرية للتقارب مع الخرطوم من خلال تعزيز التعاون الاقتصادي عبر المشروعات القومية المشتركة، والعسكري من خلال المناورات العسكرية المشتركة، لم يكن لهما أي أثر إلزامي مباشر في مسار سد النهضة، اللهم إلا تغير طفيف في الموقف السوداني حيال المفاوضات وتوجيه الانتقادات للجانب الإثيوبي.
فريق من الخبراء ذهب إلى أن التغير الطارئ في موقف الخرطوم من سد النهضة، واستشعارها الخطر حيال ما يمثله من تهديدات، هو موقف مؤقت لا يعدو أن يكون رد فعل في ظل التوتر بين البلدين، وأنه سرعان ما يتغير حينما تعود الأمور إلى ما كانت عليه.
أنصار هذا الفريق يميلون إلى أن هناك أرضية مشتركة عميقة بين السودان وإثيوبيا تسمح لهما بامتصاص أي صدمات أو نزاعات طارئة، هذا بخلاف الصداقة الشخصية بين حمدوك وآبي أحمد، متوقعين إنهاء الأزمة الحدودية خلال الآونة القريبة في ظل المبادرات المقدمة من بعض الدول.
الباحث الجنوب سوداني تيكواج فيتر، المتخصص في شؤون إفريقيا، يرى أن إفريقيا بدأت تحتل مكانة كبيرة لدى السياسة الخارجية المصرية في الآونة الأخيرة على عكس السابق، لكنها المكانة التي لا تمثل أي قيمة أو تأثير ملموس على المصالح المصرية في القاهرة.
فيتر أضاف في مقال له أن الملفات الحساسة التي تتقاطع فيها مصر مع دول إفريقيا لم تحقق فيها النجاحات المطلوبة رغم الجهود الدبلوماسية المبذولة، وعلى رأسها مصالح مصر المائية في حوض النيل، إذ جاءت ردود فعل دول الحوض بشأن موقف القاهرة من اتفاقية “عنتيني” مخيبة للآمال، منوهًا أن مصر تفتقر إلى التأييد الشعبي من شعوب القارة رغم خدماتها المقدمة للقارة وعلى رأسها التعليم.
وفي المحصلة بات من الواضح أن القاهرة اعتادت إضاعة الفرص التي تسنح لها بين الحين والآخر لخدمة مصالحها في إفريقيا واستعادة دورها القاري الذي كانت تحتل فيه موقع الريادة قبل أن تظهر قوى أخرى استطاعت سحب البساط من تحت أقدامها، على رأسها جنوب إفريقيا وإثيوبيا، وها هي جنوب السودان تدخل على خط المنافسة.