الصورة: الأمير “ناصر بن حمد” يتوسط الشيخ “خليفة بن زايد” رئيس الإمارات ونائبه الشيخ “محمد بن راشد” حاكم دبي
لعل الغضب الذي يشعر به مستبدو الشرق الأوسط إزاء ما يقال ويكتب عنهم في لندن ناجم عن حاجتهم لحماية سمعتهم الدولية واستثماراتهم. ليس بإمكانهم النيل من وسائل الإعلام البريطانية ولذلك لا يجدون ما ينفسون به عن إحباطاتهم سوى التهديد بإلغاء العقود العسكرية المجزية.
ولكن قد يكون ثمة عنصر خوف في الموضوع. التحدي بالنسبة لهم ذو بعد شخصي، ومنشأه ليس بعض إعلام معارض أو شتات خارج عن الطوع وإنما مصدر مختلف تماماً .. إنه النظام القانوني البريطاني.
أولئك الذين شكلوا جزءاً من إدارة تتحمل المسؤولية عن القتل الجماعي، أولئك الذين اعتقلوا وعذبوا معارضيهم السياسيين، أولئك الذين أمروا بالضربات الجوية التي محت عائلات بأكملها في غزة، كل أولئك لديهم ما يقلقهم ويدفعهم للتفكير ملياً حينما يهبطون في المرة القادمة في مطار هيثرو. فهؤلاء من الممكن أن يواجهوا أمراً بالتوقيف، ليس فقط بسبب إجراءات قانونية يتخذها بحقهم مواطنون وإنما بسبب إجراءات تصدر عن المدعي العام نفسه.
لقد حاولت الحكومة البريطانية لعدة عقود الحد من مخاطر مثل هذا التوقيف من خلال منح الحصانة من المقاضاة للمسؤولين في الحكومات الأجنبية. قد يقال، وقد قيل فعلاً، بأن الحصانة القانونية مطلوبة لتزييت عجلات قاطرة الدبلوماسية. تتبادل الحكومات المعلومات الاستخبارية، وتحتاج لأن يخاطب بعضها بعضاً. قد لا يتغير الكثير بهذا الشأن.
ولكن، ما من شك في أن الحكومات، ولأسباب سياسية، كانت تستغل هذه الثغرة. يمكن لدرع الحصانة هذا أن يبطل بنفس السهولة التي يفعل بها. لاحظوا كيف اختفى بسرعة في حالة القذافي وأبنائه، الذين كان لديهم الكثير من الأعمال والنشاطات الخاصة في بريطانيا وفي فرنسا. كما أن الحصانة يساء استخدامها حينما يمنح مسؤولون في الحكومات والأجهزة الأمنية الأجنبية وضع ”مهمة خاصة“، سواء كانوا فعلاً في مهمة خاصة أم لا.
يجري الآن تحدي القانون الخاص بتحديد من ينبغي أن يستفيد من الحصانة ومتى ولماذا، وخاصة حينما تتعارض الحصانة مع الالتزامات الدولية الأكبر. المملكة المتحدة ومائة وستون دولة أخرى كلها موقعة على معاهدة الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، وهذا الأمر يرتب على الموقعين التزاماً بالتحقيق في جرائم التعذيب ومقاضاة المتهمين بالتعذيب إذا ما دخلوا دائرة الولاية القضائية التابعة لأي من الدول الموقعة على المعاهدة. تتعارض الحصانة مع المعاهدة، الأمر الذي يسمح بتحدي قرار منح الحصانة لشخص ما.
إذن، ما يجري داخل المحاكم البريطانية يؤثر ليس فقط على سمعة الحكومات الأجنبية، بل ويمكن أيضاً أن يحد فعلياً من حرية حركة وزرائها ومسؤوليها. بينما كانت أنظار العالم هذا الأسبوع مصوبة نحو الحدود بين تركيا وسوريا، حصل تطور قانوني مهم في مدينة لندن.
والذي حصل هو أن أميراً بحرينياً كثير التردد على بريطانيا فقد حصانته ضد المقاضاة، والتي زعم المدعي العام أنه كان يتمتع بها. فقد قضت المحكمة العليا أن الأمير “ناصر بن حمد آل خليفة” ليس لديه حصانة تحول دون توقيفه ومحاكمته في بريطانيا بخصوص مزاعم أنه عذب معتقلين من قادة حركة المطالبة بالديمقراطية في بلاده.
الأمير “ناصر” فارس خيال، يزور بريطانيا بشكل منتظم، وكان قد مثل البحرين في افتتاح الألعاب الأولمبية في لندن. ما من شك في أنه شعر بعد أن أنهي دورة تدريب عسكرية في كلية ساند هيرست كما لو أنه بات يملك المكان.
وربما كان يملكه فعلاً. إلا أن ابن الملك متهم أيضاً من قبل شخص مدع عليه هويته غير معلنة، كان هو نفسه قد تعرض للتعذيب في البحرين، بممارسة “الجلد، والضرب والرفس” بحق اثنين من زعماء المتظاهرين المطالبين بالديمقراطية، وذلك في عيادة سجن القلعة في المنامة في عام 2011.
نفت الحكومة البحرينية “نفياً قاطعاً” أي تورط للأمير في التعذيب، ووصف متحدث باسم الحكومة إجراء المحكمة بأنه “إساءة استخدام للنظام القانوني البريطاني بدوافع سياسية وانتهازية”. رفضت البحرين المشاركة في أي جزء من الإجراءات القانونية أمام المحكمة العليا. ولعل ذلك، بنظرة إلى الوراء، كان خطأً لن يقدموا على تكراره تارة أخرى.
ليست القضية الآن هل تثبت التهم بحق الأمير أمام المحكمة أم لا تثبت، وإنما المهم هو أن الأمير إذا عاد إلى حيث تتمتع المحاكم البريطانية بولاية قضائية، فسوف يوقف ويعتقل للاستجواب. وإذا رفض الإجابة على الأسئلة التي توجه له فلا مفر من الخلوص إلى استنتاجات قد تستخدم ضده في المحكمة.
لا يعني ما قضت به المحكمة نهاية نظام الحصانة ولكنه يعني أنه وضع عليه قيوداً. ماتزال الحكومة قادرة على منح الحصانة للدبلوماسيين المبتعثين إلى سفارات بلادهم أو لأولئك الذين يأتون في “مهمة خاصة”لإجراء لقاءات رسمية.
ولكنه يعني أن الأشخاص الذين يزعم أنهم ارتكبوا جرائم خطيرة تستحق أن يحاكموا عليها بموجب الولاية القضائية العامة ويسافرون إلى بريطانيا بصفة شخصية، فإنهم سيواجهون التوقيف إما جراء طلب يقدم إلى المحكمة من قبل جهة خاصة أو من قبل المدعي العام نفسه.
تداعيات هذا الحكم القضائي تتجاوز البحرين، فهو بلا شك يعزز من وضع قضايا أخرى مرفوعة لدى المحاكم البريطانية. فهناك ثلاثون شخصية من مسؤولي الحكومة المصرية الانتقالية وأفراد الأجهزة الأمنية متهمون بالضلوع في تنظيم مجازر رابعة في القاهرة في أغسطس من العام الماضي. وسوف تعقد جلسة استماع سيجري خلالها التقدم بطلب السماح بإجراء مراجعة قضائية ضد قرار المدعي العام القائل بأن أعضاء الحكومة المصرية يتمتعون بشكل من أشكال الحصانة. في شهر مايو من هذا العام، كان ثمة ما يكفي من الشكوك حول هذه القضية الأمر الذي أجبر وزير الصناعة والتجارة المصري منير فخري عبد النور على إلغاء زيارة كانت مقررة إلى المملكة المتحدة بعد أن تم حجز غرفة باسمه في أحد الفنادق، وذلك خشية أن يتعرض للتوقيف والاعتقال.
والحكم يتعلق بانتهاكات الحاضر وبانتهاكات الماضي على حد سواء. لقد مات 82 معتقلاً أثناء احتجازهم منذ حملة القمع التي شنت على كل أنواع الاحتجاج السياسي في مصر في يوليو من العام الماضي. وحسب تقرير صادر عن المنظمة العربية لحقوق الإنسان في المملكة المتحدة فقد قتل 37 من هؤلاء أثناء نقلهم في عربة السجن، بينما قتل الآخرون تحت التعذيب أو بسبب حرمانهم من العلاج الطبي. من الممكن أن يقدم المسؤولون الضالعون في هذه الجرائم للعدالة في بريطانيا.
التقارير التي تزعم بوقوع هذه الجرائم تحتوي على تفاصيل كثيرة، ولسبب وجيه. ففي يوم من الأيام يمكن أن تستخدم هذه التفاصيل كأدلة تقدم إلى المحكمة. وهذه الأدلة بما تحتويه من تواريخ، وشهادات وشهود تتراكم بتراكم هذه التقارير. ولقد عزز هذه العملية التقرير الصادر عن منظمة هيومان رايتس واتش بخصوص مذابح رابعة، والذي كشف النقاب عن أدلة دامغة بأن أعمال القتل كانت مع سبق الإصرار والترصد وأن السلطات المصرية كانت قد خططت لوقوع أعداد أكبر بكثير من عدد الذين توفوا فعلاً. وبقدر ما قد يتمنى حكام مصر الحاليين اختفاء هذه الأدلة إلا أنها باقية بكل تفاصيلها لتشهد عليهم.
هناك عملية مشابهة لجمع الأدلة تتعلق بالهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة. في مايو/أيار من هذا العام منحت وزيرة العدل الإسرائيلية “تسيبي ليفني” حصانة مؤقتة حتى تتمكن من الاجتماع بمسؤولين في وزارة الخارجية في المملكة المتحدة. وقد حاولت مؤسسة قانونية بريطانية استخراج مذكرة توقيف بحقها بالنيابة عن شخص له قريب قتل أثناء الهجوم الإسرائيلي السابق على غزة في عام 2008. معروف أن كبار المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين يسافرون إلى بريطانيا طوال الوقت، ولكن ما من شك الآن أن الخطر الذي سيواجهونه إذا جاءوا إلى هنا بات أكبر من ذي قبل، هذا إذا عرف بوجودهم.
لا ينفصل الجدل بشأن الأدلة عن الجدل الدائر حول الحصانة، فكلما ثقل الدليل على وقوع الجريمة كلما زادت الصعوبة في إقناع المحكمة أن الشخص المتهم بالمشاركة في الجريمة ينبغي أن يتمتع بحماية الحكومة البريطانية حتى لا تجري مساءلته ومحاكمته. وطالما ظل الطريق إلى المحكمة الجنائية الدولية مسدوداً فإن اللجوء إلى الولاية القضائية العامة يبدو الطريق الأنجع لتحقيق العدالة.
المصدر: هافنتون بوست