تواصلت ليلة أمس الإثنين، الاضطرابات الليلية لليوم الرابع على التوالي في مناطق عدة بتونس، رغم إقرار السلطات حظر التجوال الليلي ضمن تدابير الوقاية من فيروس كورونا، اضطرابات وصفتها السلطات بـ”العمليات التخريبية” لما شابها من عنف وفوضى وعمليات سرقة للعديد من المحلات العامة والخاصة، فيما وصفها آخرون بأنها احتجاجات مشروعة لشباب ضاق ذرعًا من فشل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة.
تحركات ليلية
ما إن يبدأ حظر التجوال الليلي في السريان، حتى تبدأ الاضطرابات في تونس العاصمة وعدد آخر من مدن البلاد، خلالها يرشق المحتجون الحجارة على قوات الأمن، ويحرقون الإطارات المطاطية لقطع الطرقات، فيما تقابلهم الشرطة بإطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع.
تتواصل عمليات الكر والفر لوقت متأخر من الليل بين مجموعات من الشباب ورجال الشرطة، وتتحول الاحتجاجات الليلية إلى عمليات نهب وسرق للأملاك العامة والخاصة، خصوصًا مقرات البنوك ومستودعات البلديات، وفق ما عاينه نون بوست.
هذا الوضع فرض على وزارة الدفاع التونسية، نشر قوات الجيش أمام المنشآت العامة ومقرات السيادة في عدد من المدن والأحياء، تحسبًا لأعمال الشغب التي من الممكن أن تستهدف هذه المنشآت الحيوية، كما سيرت الوزارة دوريات عسكرية في جهات الجمهورية كافة لفرض الأمن.
بالتزامن مع ذلك، قال المتحدث باسم وزارة الداخلية التونسية، أمس الإثنين، إنه جرى اعتقال 632 شخصًا بعد الليلة الثالثة على التوالي من الاضطرابات التي تشهدها عدة مدن تونسية، أبرزهم مجموعات من الأفراد أعمارهم بين 15 و20 و25 عامًا تقوم بحرق العجلات المطاطية والحاويات بهدف عرقلة تحركات الوحدات الأمنية.
واعتبر خالد حيوني أن ما يقع ليلًا ببعض جهات البلاد ليست احتجاجات بل أعمال مجرمة قانونًا، وتابع “لم يكن لما حدث علاقة بالحركات الاحتجاجية التي يكفل الحق في تنظيمها القانون والدستور، الاحتجاجات تُنظم في وضح النهار دون تورط في وقائع جنائية”.
وأكد مسؤولون في الداخلية التونسية في تصريحات متفرقة أن مئات الشباب حاولوا استغلال حظر التجوال الليلي لنهب المحال التجارية وخلع بعض المرافق العامة والاعتداء على بعض المقار الأمنية في العديد من جهات البلاد.
لا مطالب مرفوعة
الملاحظ أنه خلال هذه الاحتجاجات الليلية، ورغم مرور 4 أيام على انطلاقها، فإننا لم نعرف بعد مطالبها ولا شعاراتها ولا من يقف وراءها، فأغلب المحتجين يخرجون ليلًا دون كشف وجوههم، مع عدم رفعهم لأي شعار، فكامل الليلة يكونون في حالة كر وفر مع الشرطة.
الملاحظ أيضًا، أنه لم تكن هناك واقعة محددة وراء المظاهرات والاحتجاجات الليلية التي تشهدها تونس منذ أربعة ليالٍ، رغم أن هناك من يربطها بحادثة اعتداء أحد عناصر الشرطة بالضرب والإهانة على راعي أغنام بمدينة سليانة بسبب عدم امتثاله لقانون الطرقات.
عادةً ما يشهد شهر يناير/كانون الثاني تحركات احتجاجية في تونس، فلهذا الشهر رمزية في التاريخ التونسي السياسي المعاصر، فهو شهر كل المخاطر على السلطة القائمة نظرًا لما شهده طوال سنوات من احتجاجات وصدامات تركت بصماتها في الوعي الجمعي التونسي.
من بين هذه الأحداث، أحداث “الخميس الأسود” في يناير 1978 بين الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) والسلطة وثورة الخبز في يناير 1984 وانتفاضة الحوض المنجمي في يناير 2008 وثورة الحرية والكرامة في يناير 2011.
احتجاجات مشروعة
صحيح أن هذه الاحتجاجات الليلية، تميزت بالعنف وشابتها عمليات نهب وسرقة للعديد من المحلات العامة والخاصة، مع ذلك اعتبرها العديد من التونسيين احتجاجات مشروعة لشباب ضاق ذرعًا من فشل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة.
وتزامنت هذه الاحتجاجات، مع تردي الوضع العام في البلاد في أغلب المجالات، فالطبقة السياسية منقسمة وغارقة في معاركها الداخلية من دون إدراك البؤس الذي غرقت فيه العائلات الفقيرة، والاقتصاد منهك نتيجة الغلق الذي فرضه فيروس كورونا، والمناطق المهمشة ازدادت تهميشًا، والبطالة بين الشباب وصلت مستويات قياسية.
هذا الوضع السيء أدى إلى تفاقم الغضب الشعبي، وقال المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في بيان له إنه نبه من خلال دراساته الميدانية، إلى تعمق ظاهرة الانقطاع عن الدراسة لدى فئة كبيرة من الشباب والأطفال وتفاقم الشعور باللامساواة وعدم الإنصاف والإحساس بالغبن.
كما أعلن المنتدى دعمه لكل الاحتجاجات الاجتماعية المدافعة عن الحقوق والكرامة والمساواة أمام القانون، ويدعوها لمواصلة نضالها، في احترام للممتلكات العامة والخاصة تأكيدًا لهدفها الأسمى في التغيير الحقيقي والقطيعة مع السياسات الاقتصادية والاجتماعية الفاشلة.
وتأتي هذه الاحتجاجات الليلية العنيفة تزامنًا مع إحياء تونس الذكرى العاشرة لثورة الحرية والكرامة، التي أطاحت بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي احتجاجًا على القمع والفقر وتفشي البطالة ومثلت انطلاق قطار انتفاضات الربيع العربي.
ويرى العديد من التونسيين أن إحساس الشباب – خاصة العاطلين عن العمل – بالتهميش المتزايد من الطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة، ولد لديهم رغبة في الانتقام منهم وكسر لديهم حاجز المؤسسات الرسمية.
استغلال سعيد للمظاهرات في البروباغندا الشعبوية
طيلة هذه الأحداث الليلية، لم يخرج الرئيس قيس سعيد لمخاطبة الشعب رغم المطالب المتكررة لذلك، فالعديد من الصفحات الاجتماعية المحسوبة على الرئيس حرضت على النزول للشوارع وكسر حظر التجوال الليلي.
صمت الرئيس عدة أيام، لكن أمس الإثنين اختار أن يتكلم مع بعض المواطنين في الحي الشعبي الذي كان يسكنه قبل أن يتقلد منصب الرئاسة، مؤكدًا أنه يعرف “الأطراف التي تتاجر بالبؤس والفقر وتسعى لتوظيف الشباب”.
في نفس المناسبة، اختار سعيد استغلال غضب الشباب في البروباغندا الشعبوية الخاصة به، حيث نشرت صفحة الرئاسة ومضة اتصالية للرئيس، ركزت فيها على شعارات حل البرلمان وحل الأحزاب، وقد كان لها حذف هذه الشعارات كونها تعادي الدستور وتهدد السلم العام في البلاد.
اختيار الرئاسة نشر هذه الشعارات والتركيز عليها، يؤكد نيته استغلال معاناة التونسيين لتنفيذ أجندته لضرب الدستور التونسي وتغيير النظام لما يخدم مصلحته، عملًا بقوله إبان حملته الانتخابية الانتخابي: “فليرحلوا جميعًا”.
يؤكد هذا الأمر، دخول الرئيس بقوة في معركة معلنة مع كل الطبقة السياسية ومنظومة الحكم، حتى يحقق أهدافها ورؤيته القائمة على ترذيل الأحزاب والجمعيات وأغلب الفاعلين السياسيين وإثبات فشلهم بل وخطرهم على الدولة، ومن ثم تغيير النظام السياسي وحل البرلمان وتعليق العمل الدستور والذهاب للعمل بالمناشير، وصولًا إلى إنهاء منظومة الأحزاب بالقانون والسيطرة على الحياة السياسية.
يذكر أن سعيد أقام خطابه منذ البداية على نقيض من المنظومة الحزبية، حيث وضح وبين في أكثر من مرة أنه لا يؤمن بها كأداة للفعل السياسي ويسعى للقضاء عليها، وقد تجلى ذلك في خطبه وتحركاته المتكررة في الثكنات والمقرات الأمنية والأحياء الشعبية.
ساهم ضعف الأحزاب وفشلها في إدارة العملية السياسية، فضلًا عن تواصل الأزمة داخل البرلمان وفشل الحكومات المتعاقبة في الاستجابة لمطالب التونسيين وتحقيق التنمية، في تعبيد الطريق أمام قيس سعيد لفرض رؤيته وتوجهاته التي من شأنها إرباك العمل السياسي في تونس.