هي أقدم مدن العالم على الإطلاق، إذ يذكر التاريخ عن أريحا وأغوارها بأنها أول موطئ سكن للبشر قبل آلاف السنوات عندما سكنها الكنعانيون، وحاليًّا يكمن التحدي الأكبر بإثبات الوجود العربي في مناطق الأغوار الفلسطينية التي تسعى السلطات الإسرائيلية لفصلها عن أراضي الضفة الغربية وضمها لـ “إسرائيل” التي تُمثل 28% من مساحة الضفة الغربية المحتلة.
جدير بالذكر أن أراضي الأغوار الفلسطينية المحيطة بمدينة أريحا شرق فلسطين، تُعتبر خطًا أحمر للقيادة الفلسطينية بإحداث أي تغييرات ديمغرافية فيها، فقد أعلنت الإدارة الاسرائيلية مسبقًا بقيادة رئيس وزرائها الحاليّ بنيامين نتنياهو، استعدادها لضم أراضي الأغوار إلى “إسرائيل” في الأول من شهر يوليو/تموز 2020 على خُطى مدينة القدس الشرقية، وذلك بإعلان رسمي بحضور رئيس الولايات المتحدة الأمريكية السابق دونالد ترامب.
على إثرها أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس حل جميع علاقات السلطة الفلسطينية بـ”إسرائيل” في أواخر شهر مايو/أيار 2020، فيما أعلنت الفصائل الفلسطينية في غزة الاستنفار العام في صفوف قواتها، استعدادًا للدخول في موجة جديدة من المعارك والقصف المتبادل بين غزة و”إسرائيل” في حال تم الإقدام على أي تغيير سياسي وديمغرافي في أغوار أريحا، ونظرًا لهذا التوتر ومستجدات أخرى، أعلنت “إسرائيل” قبل الموعد المحدد لإعلان الضم بـ48 ساعة تأجيل القرار لأجلٍ غير مسمى.
خيام الخيش
بالعودة للحديث عن أهم الجوانب التاريخية التي يتخذها الفلسطينيون وسيلة لتعزيز صمودهم وإثبات جذورهم التاريخية في هذه الأرض، فسترى الخيام المنصوبة هناك بالعشرات، التي احتضنت بداخلها مُجْمل القصص والأدوات والعادات والموروثات من ماضي أهالي أريحا وأغوارها، الذين لا حيلة لهم حاليًّا في هذه الأراضي المحتلة إلا إثبات وجودهم عن طريق الخيام.
قبل الدخول لهذه الخيام، يرى المرء المناظر التفصيلية التي نُسجت منها هذه الخيم بشكلٍ يدوي خالص، من أكياس “الخيش” المُزيَّنة بتطريزات عصرية، وهي إحدى المهن القديمة لبدو الأغوار سابقًا، وتمتهنها القبائل “النوَرِيَّة” بكثرة، التي عُرفت بكثرة ترحالها في بلاد الشام سابقًا وعدم استقرارها في موضع معين، وغالبًا يصعب تحديد جنسيتهم، وتُمثل هذه النقوش على “الخيش” أحد أهم الشواهد التاريخية التي تروي قصص أهالي الأغوار سابقًا.
الزي الريحاوي القديم
لدى “الزي الريحاوي” ميزة تختلف عن باقي الألبسة التراثية الفلسطينية، فهو مُكون من قماش من نوع “توبيت” باللون الأسود، ويختفي هذا اللون بالتطريزات اليدوية من الخيوط الملونة التي نُسجت بأنامل فلسطينية على مدى ثلاثة أشهر أو أربعة للثوب الواحد.
تقول مطرزة الأزياء الكنعانية القديمة السيدة مها السقا: “يأخذ التطريز في الزي الريحاوي الشكل الطولي، بأشكال هندسية متعددة، مستوحاة من زراعات أريحا والأغوار أو معالمها، أو قصص من تاريخ نسائها سابقًا، ويصل طول الثوب لتسعة أذرع، أي ما يزيد على طول الإنسان العادي بمتر ونصف، لتُمكّن المرأة من استعمال القماش الزائد كوسيلة لتحمل عليها ما تبضعت به من السوق عند ربطها بخصرها، أو كبطانة قماشية أكثر لتحميها من برد الشتاء”.
أما أكمام هذا الزي، فهي واسعة وفضفاضة ولها منظر الأجنحة، لتساعد من ترتديها على تهوية نفسها به أو حماية رأسها ووجها من حر الصيف. وتضيف السقا “غطاء الرأس لا يحتوي على أي أعمال تطريزية، بل هو بنفس نوع قماش الثوب “توبيت”، لكن رُصّع بالألوان والأصباغ الزاهية بشكل يدوي، ويمتاز باللون الأحمر في أغلب الأحيان، ومُزين بسلاسل ذهبية أحيانًا”.
وعن سبب كثرة اللون الأحمر المُرصَّع به أغلبية هذا الثوب وجوانبه، يوضح الباحث في تاريخ أريحا والأغوارمروان سمرات “اللون الأحمر له علامة دلالية في تراثنا الكنعاني، حيث كان يُرمز للكنعانيين سابقًا بالشعار الأحمر الأرجواني، وكانت أي راية سابقًا تحمل هذا اللون تدل عليهم”.
وهو الزي الذي ترتديه المرأة في الأفراح والاحتفالات، وهي المناسبات التي تصاحبها أيضًا مجموعة من الطقوس والمراسيم التقليدية، إذ يقول الباحث سمرات: “تتمسك عائلات أريحا بعادات الزواج كموروث ثقافي وتراثي لإثبات وجودهم في الأرض، مثل عادة “القمعة الريحاوية” وهي أن تصعد العروس لـ”تل العرائس” مع أهلها وعشيرتها، قبل ليلة دُخلتها بساعات، ويزفها الأهالي على فرس من أعلى التلال لباب بيتها، بأغاني من الفلكلور الشعبي وفرقة من الدبكة الفلسطينية، مصحوبة بألحان اليرغول والمجوز وهي آلات موسيقية قديمة من الموروث الشعبي في فلسطين وبلاد الشام، وتُرش العروس طيلة الطريق بالورود والحناء”.
عادات قديمة
يُضيف الباحث التاريخي مروان سمرات “يُعد التدخين بأداة الغليون عادة قديمة لدى نساء أريحا بالذات التي تميزها عن وسائل “الترفيه” لدى الرجال، وكان الغليون الطويل قديمًا وسيلة لإظهار أناقة المرأة، وإن تضاءل استخدامه حاليًّا، فهذا لا ينفي تمسك عدة عائلات به، وعلى رأسهن كبار النساء في القبائل البدوية والمدنية في أريحا والأغوار، حتى إن أحفادهن وحفيداتهن أخذوه من كبارهن، ويوجد بتلك الخيام زاوية مخصصة لمنتجات الغليون بأشكاله وخامته الخشبية المتنوعة، وكذلك أنواع متنوعة من عشبة التبغ المخصصة له”.
فتزرع النساء محاصيل التبغ بكميات وفيرة مع بداية فصل الشتاء في شهر ديسمبر/كانون الأول أواخر كل عام، أو يناير/كانون الثاني بداية كل عام، ويبدأ موسم جني المحصول في فصل الربيع على عدة أسابيع وصولًا لمنتصف فصل الصيف، حيث يقمن بتجفيفه لمدة ثلاثة أسابيع إلى أربعة، ويتم تخزينه للاستخدام على عدة أشهر قبل أن يبدأ موسم زراعته من جديد”.
وتعد الحاجة حليمة الهويمل 76 عامًا، إحدى النساء التي اشتهرت بمنتجاتها العشبية المتنوعة من تبغ الغليون وأدوات تدخينه المختلفة الذي صُنع من خامات متنوعة من أخشاب شجر الكينيا والزيتون، كما تتنوع لدى هؤلاء النساء مُزارعات التبغ مختلف الأعشاب الطبية أيضًا، التي تعتبر جوهرًا سياحيًا في ذاتها، وتجد في محيط جلستها وبسطتها بالخيام أوعية متنوعة من أعشاب التدخين والطب.
تشتهر أريحا عن غيرها من مدن فلسطين أيضًا بالزراعات العلاجية، مثل عُشبة “كف مريم” التي تُفيد بتخفيف آلام الحيض لدى النساء وآلام الثدي، كما تُقبل عليها الكثيرات من النسوة لتعزيز الخصوبة، وكذلك عشبة “رجل الأسد” الذي يتم ترطيبه بالماء وفرده على الجلد للحماية من الحبوب وآثار التقدم في العمر، ويعزز مناعة شعر النساء، إضافة إلى نبات “الكوهوش الأسود” وثمار “السرو” لعلاج الصداع والاكتئاب، وغيرها من الأعشاب مثل القراص وعشبة التوت البري وإكليل الجبل ونبتة اليام وغيرها.
يُعد التداوي بالأعشاب الطبيعية العامل الأثري الوحيد الذي لا ينقرض على طريقة التداوي الصيني سابقًا، فنادرًا ما توجد عشبة متعارف عليها في الطب إلا وتُزرع في الأغوار، إضافة إلى المنتجات الزراعية الأخرى كالنخيل والتوت والخروب والزيتون والموز والكرز، التي تُصدرها أريحا للعالم، فخير ما يُميز الأغوار عن فلسطين زراعتها المتنوعة والوفيرة.
وما ساعد على ذلك، مناخ الأغوار وخصوبة تربتها التي تُعد أخصب تربة في فلسطين وبلاد الشام كتربة الغوطة السورية، فالزراعة في الأغوار قد تكون الوسيلة الوحيدة لإنقاذ الشعب الفلسطيني من الفقر إذا تم استغلالها زراعيًا.
فقد أفاد البنك الدولي مسبقًا أن زراعة الأغوار قد تُدخل لخزينة السلطة الفلسطينية 3 مليارات دولار سنويًا إذا زُرعت هذه الأراضي المحتلة، ويُعد هذا الحل الأمثل حاليًّا في ظل الديون المتراكمة عليها بمعدل 9 مليارات دولار، كما أن خزينة السلطة السنوية لا تتجاوز مليار دولار بعد قطع أمريكا مخصصاتها المالية عن فلسطين وطرد سفيرها من واشنطن، في حين أن الشعب الفلسطيني يحتاج سنويًا لـ3.8 مليار دولار، كما أوضح الخبير في الشأن الاقتصادي الفلسطيني الدكتور سمير أبو مدللة.
خبز الشراك الريحاوي
السيدة أم مصباح لوبو التي اشتهرت بجلوسها على أبواب هذه الخيام مرتدية الثوب الريحاوي القديم، وهي تُشعل النار، ويلتف حولها عشرات الزبائن السياح جلوسًا على مائدتها المكونة من الزعتر الريحاوي وزير الزيتون وخبز الشراك الريحاوي، تراها تُراقص العجينة بيديها لتفردها بشكل أكبر قبل وضعها على “الصاج الساخن”، بحيث لا يأخذ خبزها أكثر من دقيقة، ويتكون هذا الخبز من دقيق القمح الأبيض الخالص والماء والملح فقط، ويُضاف إليه نكهة الزعتر أحيانًا.
والصاج هو لوح دائري من الحديد، يتم تسخينه بالحطب، ليتم وضع خبز الشراك به، وهي عادة مشتركة لدى أهالي أريحا والأغوار قديمًا، ويستطيع الزبائن تمييز خبز الشراك الذي صُنع بشكل يدوي بنكهة الحطب عن الذي صُنع بشكل آلي بالمخابز الحديثة.
من المؤسف أن تتعرض هذه المدينة الآثرية التي يبلغ عمرها 10 آلاف عام لسياسات تهويد منهجية منذ عام 1967، مهددةً فيها التاريخ الفلسطيني وتراثه الشعبي وكذلك وزنها الاقتصادي الذي تكتسبه من حقولها الزراعية والمواقع الدينية والآثرية التي جذبت السياح إليها.