إن مشاهدة المباريات وتشجيع النوادي لم يعد ممارسة عادية يقوم بها أشخاص مولعون بالرياضة ومعجبون بأنديتهم، بل تطور الأمر فأصبحت كرة القدم تشكل لدى البعض عقيدةً ودينًا، بل أفيون يسيطر على الجماهير التي يسهل تطويعها سيكولوجيًا.
رغم أن الرياضة خلقت لجمع شتات شعوب العالم وتلاقح الثقافات، حيث يهدف التسابق والتلاحق النظيف والمتسامح إلى تحقيق المتعة، فإن التنافس الخارج عن السيطرة والمدفوع بأسباب سياسية ودينية بين الرياضيين والجماهير، خلق عداوات وعلاقات متوترة بين بعض الفرق والمنتخبات، ما أثر بشكل مباشر على العلاقات السياسية بين دول.
فمثلًا عندما لعب فريق ريال سوسيداد الإسباني ممثِلًا لإقليم الباسك ضد فريق ريال مدريد النادي الملكي، كانت المباراة أكثر من مجرد مقابلة رياضية يتنافس فيها 22 لاعبًا فوق العشب، وأيضًا عندما لعبت جمهورية أيرلندا ضد فريق إنجلترا متقدمين عليهم بهدف السبق، انقلب التنافس إلى ما راء حدود اللعبة.
تشتهر عدة فرق ومنتخبات أوروبية بالعداء التاريخي فيما بينها بسبب أحداث سياسية أو تحولات اقتصادية واجتماعية شهدتها المدن أو الدول التي ينتمون لها، فبعض الديربيات النارية تحمل أكثر معنى حيث يمثل برشلونة رمزًا للكفاح الكاتالوني السياسي ضد النظام الفاشي الذي يحكم مدريد، فيما يمثل بوكا جونيورز نضال البروليتاريا ضد برجوازية ريفير بلايت.
أما عداء مانشستر يونايتد للفربول فيعود أساسًا لتنافس المدينتين اقتصاديًا على استقبال السفن التجارية القادمة لإنجلترا، بينما يحمل صراع ديربي إسطنبول وجهًا آخر يقوم على تنافس العلمانيين مع المحافظين، وفي هذا التقرير سنستعرض لكم أبرز العداوات الرياضية التي تسببت بها السياسة والدين.
سيلتيك رينجرز
عام 1889 أقيم أول ديربي “أولد فيرم” بين سلتيك ورينجرز، وهو تاريخ انطلاق واحدة من أقدم الخصومات الكروية وأعقدها في أوروبا والعالم، ليتجاوز مجموع ديربيات مدينة غلاسغو بين الناديين الـ400 مباراة.
تمثل هذه المباراة صراعًا دينيًا وسياسيًا معقدًا، إضافة لكونها محددًا لهوية طيفي المجتمع، بين النادي الأعرق في إسكتلندا رينجرز الذي يفتخر مشجعوه بانتمائهم لإسكتلندا ويؤمنون بوحدة المملكة المتحدة ويعتنقون مذهب البروتستانت، وسيلتك النادي الذي تأسس على أيدي مهاجرين أيرلنديين يؤيدون انفصال أيرلندا عن المملكة المتحدة ويتخذون الكاثوليكية مذهبًا.
تاريخيًا، كان تأسيس سيلتك الكاثوليكي خطوةً جريئةً وتحديًا كبيرًا لأحد أبرز معاقل البروتستانت “غلاسكو” عاصمة إسكتلندا، كما كان النادي يعتبر متنفسًا للمهاجرين الذين تعرضوا للتهميش والعنصرية آنذاك، وبحسب مؤسسة “نيل باي ماوث” الإسكتلندية، فإن حوادث العنف الطائفي ترتفع بشكل كبير في أيام مباريات سيلتك ورينجرز.
ديربي روما
يعد ديربي روما أحد أقوى الديربيات في العالم بين روما ولاتسيو ولا يقل أهمية عن كلاسيكو ريال مدريد وبرشلونة ولا عن إثارة ريفير بليت وبوكا جونيو أو مانشستر وليفربول.
في عشرينيات القرن الماضي، كانت أندية شمال إيطاليا متفوقة ومهيمنة على منافسات كرة القدم في البلاد، وكانت منافسة أندية الجنوب على رأسهم لاتسيو مع أندية الشمال معقدة وصعبة للغاية، وهو ما دفع الجنرال موسوليني للتفكير في دمج أندية الجنوب تحت اسم العاصمة روما، وهو ما رفضه الجنرال المعادي جورجيو فاكارو شكلًا وموضوعًا.
بعد ذلك، تمكن موسوليني من تحقيق هدفه ودمج ثلاثة أندية (ألبا وأوداتشي وفورتيتود) تحت راية نادي روما الجديد، لتبدأ مسيرة نادي الذئاب عام 1927، وتنطلق معها العداوة التاريخية بين فريقي العاصمة.
تحولت دفة الشعبية نحو روما، وأصبح لاتسيو وجماهيره غرباءً في العاصمة الإيطالية، حيث تحول مشجعو أندية العاصمة الثلاث لتشجيع روما وتحول لاتسيو إلى نادٍ منبوذ بسبب رفضه دخول هذا الائتلاف.
على الجانب الآخر تفاخر لاتسيو بأقدمية تأسيسه بفارق 27 عامًا عن عدوه اللدود، متباهيًا بأن الفضل يعود للنسور في إدخال كرة القدم إلى العاصمة، ومن هنا جاءت الكراهية بين رغبة لاتسيو في استعادة مكانته في العاصمة وروما المسيطر جماهيريًا.
الكراهية انتقلت من المستطيل الأخضر إلى خارج المدرجات، حيث شهدت المواجهات بين جماهير الفريقين أحداث عنف وصلت إلى حد القتل، ففي عام 1979 تطورت الاشتباكات بين الجماهير إلى وقوع حالة وفاة بين مشجعي لاتسيو بعد أن ضربته جماهير روما بشظية نارية في عينه، ما أودى بحياته.
أما في عامي 2004 و2009، فقد عرفت المدرجات أعمال عنف وشغب بين الجماهير أدت إلى إيقاف المباراتين وتعديل السلطات الإيطالية موعد إقامة الديربي بعد ذلك عصرًا وهو ما استمر سنوات عديدة في محاولة تقليل تطور الأحداث بين الجماهير.
كلاسيكو إسبانيا
تعد العداوة الرياضية بين ريال مدريد وبرشلونة هي الأشهر والأكبر على الإطلاق، ليس لكونهما متنافسين دائمًا على الألقاب في إسبانيا أو باعتبارهما الأقوى أوروبيًا وعالميًا، لكن جذور هذا العداء تعود إلى الخلفيات السياسية بين إقليم كتالونيا الذي يمثله فريق برشلونة ومدريد عاصمة الدولة الإسبانية.
العداء يرجع إلى عام 1936، حين أعدم الجنرال فرانسسكو فرانكو، رئيس نادي برشلونة جوزيب سونيول، دون محاكمة، خلال الحرب الأهلية الإسبانية، ومنذ ذلك الحين اشتعل العداء بين الريال الذي يمثل الحكومة الإسبانية وبرشلونة الذي يعتبر رمزًا للهوية الكتالونية.
منذ ذلك التاريخ، توسعت الفجوة تدريجيًا بين الحكومة الإسبانية في مدريد وإقليم كتالونيا، متزامنة مع دعوات الانفصال المتجددة، بل وصل الأمر إلى الدعوة لاستفتاء جماهيري لأبناء إقليم كتالونيا وسط تضامن بعض أعلام الرياضة مثل المدرب المشهور بيب غوارديولا، وكانت النتيجة النهائية أكثر من 90% صوتوا لصالح الاستقلال، لكن لم تعترف الحكومة الإسبانية بهذا.
وانتقل هذا الصراع السياسي بين إقليم كتالونيا والدولة الإسبانية إلى أرض الملعب، بين برشلونة أكبر أندية الإقليم والداعم الرئيسي لفكرة الانفصال، وريال مدريد ممثل العاصمة والحكم في إسبانيا.
السوبر كلاسيكو
في أمريكا الجنوبية، يعيش عشاق بوكا جونيورز وريفر بلايت الأرجنتينيين جنونًا كرويًا من نوع آخر، فالجماهير لها طقوسها الخاصة قبل المباراة ولها أيضا مبادئ تحتفظ بها منذ الأزل، من بينها الهتاف والتغني بأمجاد فريقها وكذلك أعمال العنف والشغب التي ترافق كل مباراة.
رغم بدايتهما في نفس الحي “لا بوكا” بالعاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، فإن كلا الفريقين استهل مشواره مع الساحرة المستديرة بشكل مختلف عن الآخر، وهو ما جعل التنافسية بينهما على أشدها، كما أن مواجهتهما تعد ضمن الأفضل حول العالم رغم الشعبية المحدودة للدوري الأرجنتيني، ليضعا السوبر كلاسيكو، الذي انطلق القرن الماضي، على رأس قائمة القمم الكروية الأكثر متابعة في العالم.
تعود قصة “كلاسيكو الأغنياء والفقراء”، إلى الأيام الأولى من تأسيس ريفر بليت وبداية مسيرته في عالم كرة القدم في الـ25 من مايو/أيار 1901، وذلك بعد دمج فريق سانتا روسا وفريق الهواة روساليس.
استهل الفريق مسيرته الاحترافية عام 1931، بعد أن تلقى دعمًا من أغنياء الأرجنتين، لينتقل إلى حي نيونييز ويترك “لا بوكا”، ليطلق عليه بعدها “نادي الأغنياء” ويكون ملعبه المونومينتال بداية من 1938.
أما بوكا جونيورز فتأسس على يد 6 شباب أبناء مهاجرين إيطاليين كانوا يعملون بالقرب من حي “لا بوكا”، بإمكانات محدودة في الـ3 من أبريل/نيسان عام 1905، لذلك سمي بـ”نادي الفقراء”، وهو الأمر الذي دفع مشجعيه لاتهام ريفر بليت بالنرجسية والطبقية بسبب تحولهم إلى حي راق.
من هذه الزاوية، لا تكاد تخلو مباراة واحدة بين فريق الأغنياء ونادي الفقراء، من صراعات وعداوات تتجلى خاصة في تصرفات الجماهير والمشجعين، فالتسعون دقيقة قد تتحول في أي لحظة من تنافس 22 لاعبًا إلى معركة حامية الوطيس بين البورجوازية والبروليتاريا.
ففي عام 1968 وعلى ملعب المونومينتال، لقي 71 شخصًا حتفهم بعد تدافع عند البوابة رقم 12 في أثناء محاولتهم الخروج من الملعب، وكانت تلك الفاجعة أسوأ حادثة متعلقة بكرة القدم في الأرجنتين، حيث قدر معدل أعمار الضحايا بـ19 عامًا.
التانغو والسامبا
تعد مواجهة البرازيل والأرجنتين تحت أي ظرف سواء في التصفيات المؤهلة للمونديال أم أي بطولة محط أنظار الجميع لأنهما كبيرا الكرة في أمريكا اللاتينية وتجمعهما خصومة كروية تاريخية، ويعود العداء بينهما إلى العشرينيات من القرن التاسع عشر، أي قبل ظهور كرة القدم، بسبب الحرب التي اشتعلت بين البلدين وتعرف بـ”حرب كيسبلاتين”.
البداية كانت في بطولة كوبا أميركا عام 1937، حين قرر لاعبو البرازيل الانسحاب من المباراة عقب سماعهم هتافات عنصرية ضدهم من المدرجات، وبعدها بعامين التقت البرازيل بالأرجنتين مجددًا في بطولة تعرف باسم “كوبا روكا”، واحتسب لراقصي السامبا ركلة جزاء في الدقيقة الأخيرة من المباراة في ظل تعادل الفريقين بهدفين لمثليهما، لذا قررت الأرجنتين الانسحاب، لكن البرازيل أصرت على تسديد ركلة الجزاء في المرمى الفارغ ودون وجود الحكم.
في 1945 أيضًا كسر البرازيلي أديميبر مينزيس ساق الأرجنتيني خوسيه باتالييرو، وفي كوبا أميركا عام 1946 دارت أغرب مباراة في تاريخ المنتخبين وكرة القدم، حيث بدأت المقابلة في الثالثة ظهرًا وانتهت في العاشرة مساءً بسبب التوقفات العديدة التي حدثت وسط اعتراضات وتخوفات من هجوم الجماهير.
تواجه الفريقان أربع مرات في المونديال لم تمر كلها بسلام مثل طرد مارادونا في كأس العالم بإسبانيا عام 1982 أو تسمم برانكو بعد تناول مياه قدمها له اختصاصي تدليك المنتخب الأرجنتيني في مونديال إيطاليا 1990.
ألمانيا وهولندا
بداية العداء بين البلدين كان إبان الحرب العالمية الثانية، عندما احتل الجيش الألماني الأراضي الهولندية في أثناء الحرب العالمية، وفور انتهائها أصبحت الدولتان من كبار المنتخبات في العالم على مستوى كرة القدم، وانتقل العداء السياسي والتاريخي من الواقع إلى الساحرة المستديرة، فعادة ما تشهد مباريات الفريقين منافسة شرسة تصل إلى حد العنف والخشونة في بعض الأحيان، كما حدث في اللقاء الذي جمعهما خلال كأس العالم إيطاليا 1990.
إقليميًا، عاشت المنتخبات العربية أوضاعًا متوترة مماثلة، فالصراع السياسي بين المغرب والجزائر امتد ليشمل المنافسة الرياضية ما أوقع ردود فعل سلبية من جماهير البلدين، وكذلك الأمر ينطبق على قطر والسعودية خلال الأزمة أو الخلاف الخليجي.
بالمجمل، يمكن القول إن عداوة كرة القدم في أكثر الأحيان لا تنشأ من جوهر المنافسة على الأهداف والألقاب، بل تعود أغلبها إلى عوامل تاريخية قائمة على أساس ديني أو طبقي أو سياسي، وبالتالي فإن جزءًا من هذه المعارك المؤجلة نظريًا على أرض الواقع، يدار فعليًا على المستطيل الأخضر طيلة تسعين دقيقة وهي في حالات كثيرة مرجحة للاستكمال خارج حدود الملعب بعد صافرة النهاية.