“عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية” شعار صدحت به حناجر الشباب المصري منذ عشر سنوات، في شوراع وميادين القاهرة ومختلف المدن المصرية، لكن المفارقة أن ما خرج يطالب به الشباب في ثورتهم التي توجت بالإطاحة بنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، قد تحول إلى كابوس فعلي وواقع مرير، فضاع العيش وأكلت الحكومة لقمة الفقير، فيما ازداد اختلال ميزان العدالة الاجتماعية، ورفع النظام الدعم وحرر سعر الجنيه، وذهب بعيدًا في سياسات وتشريعات ومشروعات اقتصادية تصب في مصالح الأغنياء على حساب الفقراء الذين سحقتهم أقدام النظام الثقيلة بلا هوادة.
أما هامش الحريات، فقد بات المصريون يتحسرون على الصحافة والإعلام في عهد مبارك، وعلى ذلك الهامش الضيق الذي انتهى تمامًا، في ظل قبضة أمنية حديدية تساندها السلطة التشريعية بسلسلة من القوانين والتشريعات المكبلة للحريات، التي تحولت معها مصر في عهد النظام الحاليّ إلى سجن مظلم مخيف لا يسمح فيه حتى بالضجر أو الشكوى.
ولم يكن حجب مئات المواقع الإلكترونية، وأغلبها مواقع صحفية وإخبارية، وسجن عشرات الصحفيين ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، وتلك التهم الفضفاضة والحبس الاحتياطي المفتوح والاختفاء القسري لشهور وربما سنوات، سوى سيف مسلط على رقبة كل صاحب كلمة أو رأي مخالف للسلطة الحاكمة التي لم تعد تسمع إلا نفسها ولا تسمح بغير ذلك.
ولم تنقض عشر سنوات على الثورة المصرية، حتى تحولت مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت أبرز أدوات حث الشباب للانتفاض ضد فساد واستبداد نظام مبارك، إلى حظيرة يحكم النظام قبضته عليها عبر شرطته وسجونه وقضائه وتشريعاته وقوانينه، وتغيرت السوشيال ميديا في مصر من ساحة مفتوحة تذخر بكل الآراء والتوجهات وتعكس اتجاهات الرأي العام وقضايا ومشكلات المجتمع الحقيقية وتنبض بهموم الناس وتحمل أحلامهم وطموحاتهم، إلى ملهاة تلهث خلف ما يسمى بـ”التريند” الذي تفرضه السلطة ومؤسساتها المختلفة وتدعمه عبر أذرعها الإعلامية الكثيرة، فتغرق المجتمع والرأي العام في الأحداث الهامشية وتهتم بالتفاهات وتفرض على الناس أجندة بعيدة كل البعد عن قضاياهم ومشاكلهم.
تستطيع بكل سهولة ويسر أن ترصد تلك القضايا التي باتت محطة اهتمام مواقع التواصل الاجتماعي في مصر وروادها، فمنذ عشر سنوات انطلقت منها الدعوة إلى الثورة، والآن ينتقل رواد التواصل الاجتماعي من سيدة القطار إلى سيدة المطر ومن فتاة سقارة إلى طفل الليمون، ومن مؤخرة رانيا يوسف إلى التورتة الجنسية لسيدات نادي الجزيرة، مرورًا بزواج التجربة ومناقشة أسباب وفاة عمر خورشيد بعد 40 عامًا من مصرعه، وحقيقة الحادث الذي تعرض له المطرب الشعبي الشهير أحمد عدوية منذ 30 عامًا.
يدرك كثير من المصريين حقيقة تلك الأجندة الزائفة المفروضة عليهم عبر الإعلام أو من خلال السوشيال ميديا، بعيدًا عن القضايا المصيرية التي تهم مصر حكومةً وشعبًا، وعلى رأسها تداعيات سد النهضة الإثيوبي وملف كورونا بكل ما يحمله من إدارة بالغة السوء من الحكومة وتعمدها إخفاء الحقائق وإصدار بيانات رسمية للوفيات والإصابات بعيدة كل البعد عن الواقع، والنقص الحاد في المستلزمات الطبية والتلكؤ في استيراد اللقاح، في وقت بدأت معظم دول المنطقة في تلقيح شعوبها، ثم ملف إغلاق وبيع شركات القطاع العام بأبخس الأثمان وتشريد عمالها، ومن قبل الانتخابات التشريعية التي حملت على سبيل المثال أكثر من 300 عضو دخلوا إلى مجلس النواب عبر نظام القائمة المغلقة ولا يعرف معظم المصريين عن أغلبهم شيئًا.
غير أن القيود المفروضة على المصريين عبر سلسلة القوانين والتشريعات المكبلة للحريات سواء في ساحة الصحافة والإعلام أم عبر السوشيال ميديا، ورأس الذئب الطائر، الماثل في آلاف السجناء والمعتقلين في قضايا الرأي، دفع الكثيرون إلى التفاعل مع الأجندة الحكومية المفروضة عليهم، بل والاستغراق فيها بعيدًا عن كلمة حق ورائها أغلال وقضبان.
عادة ما يندرج تحت عبارة “الأمن القومي” كل ما يتعلق بانتقاد الأداء السياسي للنظام المصري، وبموجب هذه المادة، يتم القبض على عدد كبير من الصحفيين والإعلاميين
تشريعات الظلام
شرع النظام المصري منذ يوليو/تموز 2013، وبالتدريج، في تأسيس ترسانة من القوانين التي تقمع الحريات تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، لتكميم الأفواه وإسكات أي صوت معارض وفرض السطوة الأمنية على الأفراد والمؤسسات والشركات والكيانات والائتلافات والاتحادات والصحف والمواقع التي يشتبه في دعمها لثورة يناير أو مطالبتها بالديمقراطية، إلى جانب التنكيل بكل من يرفع صوتًا باعتراض أو مطلب، بالحبس الاحتياطي المطول والإخفاء القسري، مع حرصه الكبير على عدم رصد هذه الانتهاكات المشرعنة بالقوانين المستحدثة، ومن ثم محاربة المجتمع المدني والصحافة المستقلة التي ترصد تلك الانتهاكات.
وتحت عنوان “تشريعات الظلام.. نماذج من القوانين المقيدة للحريات في 7 سنوات، يونيو 2013- يونيو 2020″، أصدرت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، في يوليو/تموز الماضي، دراسة رصدت فيها نماذج القوانين والتشريعات التي أحكمت القبضة الأمنية الحديدة للسلطة الحاليّة في مصر على الإعلام والصحافة ومنابر التواصل الاجتماعي ومختلف ساحات الإنترنت، وكان من أبرزها ما يلي:
قانون التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام لسنة 2016
قانون سيئ السمعة، تأسس بموجبه المجلس الأعلى للصحافة والإعلام، الذي يقوم بدور الرقيب على الصحافة وحرية التعبير، ويؤدي دور شرطة الأخلاق، إلى جانب دور الجهة الأمنية التي تراجع المحتويات الصحفية والإعلامية وتغلق وتحظر وتمنع الصحافة والإعلام والعاملين بهما.
ومن بين بنود هذا القانون وتوصيف مهام المجلس الأعلى للإعلام: ضمان التزام الوسائل الإعلامية والصحفية بمقتضيات الأمن القومي، وعادة ما يندرج تحت عبارة “الأمن القومي” كل ما يتعلق بانتقاد الأداء السياسي للنظام المصري، وبموجب هذه المادة، يتم القبض على عدد كبير من الصحفيين والإعلاميين، كما يتم غلق صحف وحظر مواقع تحت دعاوى الإخلال بالأمن القومي.
قانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن جرائم تقنية المعلومات
قانون آخر ليس لملاحقة الصحفيين فحسب، بل لملاحقة كل مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي والشبكة الإلكترونية ككل، ويأتي القانون المذكور كحلقة من سلسلة حلقات الصمت المفروضة على حرية التعبير التي بدأت بحجب المواقع الإلكترونية إلى غلق المنصات الإعلامية والصحفية والتنكيل بالقائمين عليها، وانتهاءً بإصدار قوانين الصحافة والإعلام وفق نصوص معيبة، ما يعكس رغبة واضحة من الدولة لتقويض وتكميم الأفواه المنتقدة إلى جانب الحيلولة دون تداول المعلومات ونشرها.
قانون رقم 180 لسنة 2018 بشأن تنظيم الصحافة والإعلام
احتوى القانون على قائمة من الممنوعات ولائحة من الجزءات اعتبرها المراقبون تشييعًا للصحافة إلى مثواها الأخير.
فالقانون يضع قيودًا على الصحافة والإعلام، وينص على تأسيس المجلس الأعلى للصحافة والإعلام، الذي من شأنه مراقبة كل ما ينشر على الإصدارات الصحفية، إلكترونية كانت أم ورقية، كما يوسع رقعة الاتهام بالتحريض على الإرهاب والسب والقذف وينص على عقوبات كالحبس والغلق والحجب.
قالت منظمة العفو الدولية في سبتمبر/أيلول عام 2018، إن قمع حرية التعبير في عهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد وصل إلى مستويات مروعة، لم يشهد لها مثيل في تاريخ مصر الحديث
قوانين هيئات الصحافة والإعلام “178، 179 لسنة 2018”
عام 2018، أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي قوانين عدة لإنشاء هيئات رقابية على حرية الرأي والتعبير، مثل قانون رقم 178 لسنة 2018 بشأن إصدار قانون الهيئة الوطنية للإعلام الذي ينص أن على جميع الكيانات والمؤسسات والوسائل الإعلامية والمواقع الإلكترونية الإعلامية المملوكة للدولة، القائمة في تاريخ العمل بهذا القانون، أن توفق أوضاعها طبقًا لأحكام القانون المرافق، وذلك خلال عام من تاريخ العمل به.
إلى جانب إصدار القانون رقم 179 لسنة 2018 بشأن إصدار قانون الهيئة الوطنية للصحافة الذي يحتوي على عدة تعريفات لكل من المؤسسات الصحفية (الهيئة، المطبوعات، الصحفى، النقيب، الصحيفة)، ونص صراحة على السياسة التحريرية لكل صحيفة التي تتمثل في أهداف الصحيفة وانتماءاتها السياسية والاجتماعية والثقافية العامة والمعايير الحاكمة لتحريرها، كما نص القانون على اعتبار الهيئة مستقلة في ممارسة مهامها واختصاصاتها، وإدارة المؤسسات الصحفية المملوكة للدولة ملكية خاصة، وتعمل على تطويرها وتنمية أصولها.
ويأتي إصدار الهيئتين في تضافر مع قانون تنظيم الصحافة والإعلام سيئ السمعة، لإنشاء المزيد من الهيئات التي تشكل رقابة أمنية على الإصدارات الصحفية، ورقية كانت أو إلكترونية، وتتكفل الدولة المصرية بنفقات إنشاء كل هذه الهيئات واللجان، من أجل تشديد الرقابة الأمنية على المواطنين والصحفيين.
لائحة الجزاءات لسنة 2019
في مارس/آذار 2019 أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الصحافة والإعلام القرار رقم 16 لسنة 2019 “لائحة الجزاءات والتدابير الإدارية والمالية” التي يجوز توقيعها على الجهات الخاضعة للقانون 180 لسنة 2018 بما فيها الحسابات الشخصية التي يتجاوز عدد متابعيها أكثر من 5000 شخص، وتتكون اللائحة من 29 مادة ترصد عدد من المخالفات والتجاوزات المهنية والجزاءات والعقوبات بشأنها، وقد تنوعت هذه الجزاءات بين لفت النظر والحجب وإيقاف البث والغرامة المالية التي وصلت إلى 250 ألف جنيه ضد الوسيلة الإعلامية سواء كانت مقروءة أم مسموعة أم مرئية، حال ارتكابها أي من المخالفات التي حددتها.
تحول المشهد على السوشيال ميديا إلى مجرد صدى لهذا المشهد الإعلامي القابع تحت السيطرة
حملات قمعية وسجن مفتوح
قالت منظمة العفو الدولية في سبتمبر/أيلول 2018، إن قمع حرية التعبير في عهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وصل إلى مستويات مروعة لم يشهد لها مثيل في تاريخ مصر الحديث.
وأكدت العفو الدولية أن “انتقاد الحكومة في مصر أصبح أشد خطرًا الآن أكثر من ذي قبل، فالمصريون الذين يعيشون تحت حكم الرئيس السيسي يُعاملون كمجرمين لمجرد تعبيرهم عن آرائهم بصورة سلمية، فالأجهزة الأمنية تقمع بقسوة أي مساحات سياسية أو اجتماعية أو حتى ثقافية مستقلة. وتعد هذه الإجراءات أكثر تطرفًا من أي شيء شوهد في خلال الحكم القمعي للرئيس السابق حسني مبارك، الذي دام 30 عامًا، لقد تحولت مصر إلى سجن مفتوح للمنتقدين”.
وصنفت مصر في المرتبة الـ161من أصل 180 دولة في الترتيب العالمي لحرية الصحافة خلال سنة 2017 الذي أعدته منظمة “مراسلون بلا حدود.
واعتبرت منظمة هيومان رايتس ووتش أن “الاعتقالات الجماعية الحكومية والقيود على الإنترنت تهدف إلى تخويف المصريين وردعهم عن الاحتجاج، ومنعهم من معرفة ما يحدث في البلاد”.
إذ يقبع على الأقل 29 صحافيًا في السجون المصرية، وفقًا لأحدث إحصاءات نشرتها منظمة “مراسلون بلا حدود”، بينما يرتفع العدد لما يقارب 70 صحافيًا وإعلاميًا في تقديرات حقوقية محلية، تحصي جميع العاملين في مجال الصحافة والإعلام من النقابيين وغير النقابيين.
من خلال تكميم جميع مصادر المعلومات التي قد تُعتبر ناقدة للنظام، تم تمهيد الطريق أمام السلطات لإسماع خطابها الرسمي على أوسع نطاق ممكن، فبينما أصبح الصحفيون العاملون في وسائل الإعلام الخاصة يجدون أنفسهم مضطرين للارتماء في أحضان الرقابة الذاتية حفاظًا على سلامتهم، بات المشهد الإعلامي كله في قبضة وسائل الإعلام الحكومية وكذلك المؤسسات الخاصة التي انتقلت إلى ملكية أو أنشأتها شركات مقربة من المخابرات، فيما تحول المشهد على السوشيال ميديا إلى مجرد صدى لهذا المشهد الاعلامي القابع تحت السيطرة.