فجأة، تحوّل اسم عين العرب “كوباني” الى واحد من أشهر الأسماء المتداولة في وسائل الاعلام العالمية وعلى ألسنة المسؤولين الأمميين والدوليين وكذلك موقعا على خارطة الاستراتجيين والعسكريين وهدفا للطيّارين والمحاربين وساحة لمعركة طاحنة بين تنظيم “داعش” وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي “PYD”.
الكم الهائل من التركيز على كوباني خلال الأسبوع الماضي غير مسبوق على الإطلاق، فقد سقطت الموصل وبالكاد سمعنا وسائل الإعلام تتحدث عن الموضوع، فالتركيز كان على “داعش”. وقد دمرت قبلهما كل المدن التاريخية السورية الكبرى التي تضم ملايين البشر كحلب وحمص ريف دمشق، لم يرف جفن اي مسؤول دولي.
لقد استخدمت الأسلحة الكيماوية ضد الأطفال وصواريخ سكود والبراميل المتفجرة والاغتصاب والقتل والذبح والحرق وذهب نتيجة اجرام الأسد 200 الف إنسان وأصبح نصف سكان سوريا أي حوالي 10 مليون انسان بين مهجر ونازح ولاجئ وجائع، ومع ذلك فإن أحدا من أولئك الذين يملؤون الدنيا صياحا اليوم مطالبين تركيا بالتدخل في مدينة صغيرة تسمى “كوباني” لم نسمع له صوتا حينها.
لقد سقطت صنعاء ولم يأبه أحد، من يستمع إلى الأخبار يعتقد أنّ “داعش” ستدخل واشنطن وليس مدينة صغيرة معزولة في أقصى وسط شمال سوريا! فلماذا كل هذا الصياح بشأن كوباني؟ الجواب يتمحور حول الوضع الأمريكي الصعب في المعادلة.
الولايات المتّحدة تقود حملة شرسة للضغط على تركيا لمنع سقوط كوباني، وبطبيعة الحال فهي تتوقع عبر هذا الضغط أحد أمرين: إما أن تقوم تركيا بتسليح الأكراد في المدينة وتأمين الدعم اللوجستي اللازم لهم لرد تنظيم “داعش”، وإما أن ترسل قواتها المسلحة إلى داخل المدينة للاشتباك مع تنظيم “داعش”.
الخيار الأول غير ممكن في الوضع الحالي على اعتبار أن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي النسخة السورية من حزب العمال الكردستاني المدرج على قوائم الإرهاب اامريكية والتركية ويعتبر أنقرة عدوا. ومن غير المنطقي أن يقوم أحد ما بتسليح عدوه، الولايات المتّحدة نفسها رفضت خلال السنوات الثلاث الماضية تزويد من يفترض بهم أن يكونوا قريبين منها -أي المعارضة السورية- بالأسلحة، فكيف ولماذا ينتظر من تركيا أن تقوم بتزويد طرف يعتبرها عدو وتعتبره إرهابيا؟
ومع ذلك حاولت أنقرة حل هذه المعضلة، وأبلغت صالح مسلّم بالطرق التي يمكن من خلالها تسهيل تأمين دعم له والتي تتطلب أن يقطع علاقاته مع النظام السوري وينضم للمعارضة وللجيش الحر، وهي مطالب منطقية حتى تكون تركيا منسجمة مع نفسها ومع سياساتها.
أما الخيار الثاني فهو أكثر تعقيدا لأنه يعني وضع القوات المسلحة التركية في عين العاصفة مباشرة بين ظهراني الأعداء مباشرة أي النظام السوري و”داعش” و(PYD) من دون غطاء دولي ولا ضمانات ولا دعم حقيقي، والأهم من دون خطة أو استراتيجية واضحة وشاملة، إنها عملية انتحارية بكل تأكيد.
وحتى في حال افترضنا جدلا حصولها من دون الضمانات المنشودة، فإن قدرة هؤلاء اللاعبين على الرد داخل تركيا أكبر بكثير من قدرتهم على الرد داخل واشنطن بالتأكيد، ومع ذلك فيجوز على واشنطن أن تقرر عدم إرسال جنود إلى الأرض وأن تقرر بريطانيا وفرنسا عدم إرسال طائرات إلى سوريا حتى لضرب “داعش”، ولكن لا يجوز لتركيا أن تفعل ذلك!
المشكلة أن واشنطن تكرر ارتكاب الأخطاء القاتلة نتيجة جهلها بالمنطقة وتركيبتها، فهي تعتقد أنّه يمكن الاعتماد على أكراد سوريا في مواجهة داعش مقابل دعم الحكم الذاتي، أي النموذج العراقي للأكراد، ويمكن كذلك الاعتماد على العشائر السورية مقابل المال والسلاح.
ولأن داعش أدركت ذلك على ما يبدو، بادرت إلى مهاجمة الأكراد في نقطة قاتلة. لا شك أن نجاح “داعش” في القضاء على تنظيم (PYD ) يعني عمليا أن واشنطن لم يعد لديها عل الأرض من يمكن استخدامه كأداة لمواجهة “داعش” في سوريا.
وفي ظل حقيقة أن القصف الجوي لوحده لن ينجح في القضاء على “داعش”، فإن ذلك سيكون بمثابة إعلان مبكّر عن فشل استراتيجية واشنطن ضد “داعش” في سوريا.
هذا ما يفسّر حالة الهوس الأمريكية والجنون “الكوباني”، لدرجة أنها دفعت المؤسسات الدولية والعاملين في إطارها كمبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا ستيفان دي ميستورا للطلب من أنقرة السماح للأكراد للتدفق الى “كوباني” للدفاع عنها!.
نعم صحيح مبعوث أممي يطالب بأن تسمح تركيا بإرسال ميليشيات كردية إلى داخل سوريا وهم الذين يتهمونها بإرسال ميليشيات إسلامية! وحتى في حال السماح بذلك، فإلى أين سيعود هؤلاء؟ إلى واشنطن؟ إلى لندن؟ إلى برلين؟ بالطبع لا، سيعودون إلى أنقرة وهذا أمر يتم تجاهله تماما، ناهيك عن التناقض الصارخ بين المناداة الدولية بالسماح للأكراد بالتدفق إلى سوريا والتغاضي عن تدفق الشيعة وملاحقة السنة المتسللين.
على كلّ، يبدو أنّه في حال لم يتم الاستجابة للمطالب التركية، فإن تنظيم “داعش” سيسيطر في النهاية على الأرجح على “كوباني”، وعندها فإن الموقف التركي سيكون مشابها لما كان عليه عندما كان حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) على الحدود وقبله النظام السوري. بمعنى آخر، فإن القوات المسلحة التركية ستسعى إلى رسم حدود ردع وتحاول أن لا تكون الطرف المبادر إلا اذا تعرّض أمنها القومي للخطر المباشر، وذلك إلى أن يستفيق الطرف الأمريكي لما تتطلبه الحقائق على الأرض.