عاد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، مجددًا إلى ألمانيا لتلقي العلاج، رغم مضي أيام قليلة على رجوعه من هناك بعد نحو شهرين من العلاج نتيجة إصابته بفيروس كورونا. رحلة علاجية جديدة لا يعرف الجزائريون كم ستمتد، حتى إنهم لا يعرفون سببها الحقيقي، في إعادة لسيناريو الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.
غياب تبون المتكرر عن قصر المرادية، مقر الرئاسة، جعل العديد يتساءلون عن الحاكم الفعلي للبلاد، ودور الجيش في تسيير البلاد رغم تأكيده المتواصل على عدم تدخله في الحياة السياسية للجزائر وتقيده بنص الدستور.
تواصل الغياب
في الـ10 من يناير/كانون الثاني الحاليّ، أعلنت الرئاسة الجزائرية توجه الرئيس عبد المجيد تبون جوًا إلى ألمانيا للعلاج في مستشفى هناك من مضاعفات بقدمه نتيجة إصابته بفيروس كورونا، وأكدت الرئاسة أن إصابة السيد الرئيس “ليست حالة مستعجلة”.
وأوضحت أيضًا أن “علاج المضاعفات كان مبرمجًا قبل عودة الرئيس من ألمانيا، لكن التزاماته داخل الوطن حالت دون ذلك”، ولم يوضح البيان ماهية المضاعفات التي أصيب بها الرئيس ولا الفترة الزمنية التي سيتطلبها العلاج في ألمانيا.
كان الجزائريون يظنون أن الحكم سيرجع إليهم وسيكون بمقدورهم حال الإطاحة ببوتفليقة تأسيس دولة مدنية، لكن خاب ظنهم
هذا الغياب ليس الأول، فقبل ذلك، بقي تبون غائبًا لمدة شهرين دون أن يعرف الجزائريون عنه شيئًا إلا أنه مصاب بكورونا ويعالج في مستشفى ميرهام العسكري التخصصي في قاعدة عسكرية بمدينة كولونيا شمال غرب ألمانيا.
ويخشى الجزائريون أن تكون الحالة الصحية للرئيس خطيرة، فلا يعقل أن يمكث مصاب بالفيروس كل هذه المدة في المستشفى، خاصة أن تقارير عديدة تفيد بأنه خضع لعمليات جراحية عدة، وهو ما حتم بقاءه فترة أطول مما كان متوقعًا عما يفترض في حالة الإصابة بكورونا.
المخاوف المتعلقة بحالة تبون مبررة، لأنه يبلغ من العمر 75 عامًا، وهو مدخن شره، كما أنه لا يعيش نمط الحياة الأكثر صحة، فضًلا عن أن اختيار مستشفى جامعة كولونيا، أحد أفضل المستشفيات في أوروبا، يوضح الكثير عن خطورة حالته.
تكرار سيناريو بوتفليقة
وضع الرئيس تبون، أعاد لأذهان الجزائريين ما كان عليه حال البلاد في السنوات الأخيرة لعهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، عندما ظل في الحكم دون أن يكون قادرًا على الحركة والكلام نتيجة إصابته بجلطة دماغية عام 2013، فقد أخفت السلطات الجزائرية حقيقة الحالة الصحية لبو تفليقة – الرجل الثمانيني الذي أقعده المرض على كرسي متحرك – حتى إنها بررت غيابه المتواصل لسنوات طويلة حتى أطيح به من السلطة في أبريل/نيسان 2019 إثر انتفاضة شعبية تفجرت بسبب إعلان رغبته بالترشح لولاية خامسة في الانتخابات.
رغم أن الشباب أسقط بوتفليقة، لكن نفس النظام ما زال متواصلًا، إذ أن النظام الجزائري بمثابة “صندوق أسود” يحوي سياسيين وضباطًا رفيعين ورجال أعمال، يشكلون معًا دوائر متشابكة وأحادية المركز، ولذلك فإن شكوك الجزائريين حول هوية الحاكم الحقيقي للبلاد بدأت بالسيطرة على المشهد السياسي في الجزائر، فليس واضحًا ما إذا كان يصدر عنه اليوم أي تأثير، وليس واضحًا أيضًا مدى قدرته، بالنظر لوضعه الصحي المتردي، على العمل باستقلالية واتخاذ القرار.
الحاكم الفعلي
يبرز الجيش كأحد أهم المتحكمين في البلاد، حيث يحكم العسكريون قبضتهم على شؤون البلاد، فرغم الصراعات الداخلية في صلب المؤسسة العسكرية، تمكن الجيش من فرض سيطرته على البلاد لعقود عدة، حتى إن حراك فبراير/شباط فشل في كسر سطوته على الحكم.
يعتبر تبون شخصية توافقية بين القوى التي تشكل في الخلف دوائر السلطة المعقدة وتقرر مصير البلاد منذ مدة
كان الجزائريون يظنون أن الحكم سيرجع إليه وسيكون بمقدورهم حال الإطاحة ببو تفليقة تأسيس دولة مدنية، لكن خاب ظنهم، فالدولة العميقة عززت أكثر من أي وقت مضى سيطرتها على صلاحيات أخذ القرار والتنفيذ في الدولة.
وتؤكد العديد من التقارير المحلية والدولية، أن العديد من القيادات داخل الجيش الجزائري تحالفت مع اللوبي المالي في البلاد، وشكلوا مع بعض جماعات مصالح للسيطرة على القطاع الاقتصادي في الجزائر التي تعتبر من أغنى دول المنطقة.
ورغم إنكاره المتكرر التدخل في الحياة السياسية للبلاد وتقيده بالدستور، يُتهم الجيش الجزائري بقيادة المشهد السياسي في الجزائر والتحكم فيه والسيطرة على الحياة العامة في البلاد والتغلغل داخل مؤسسات الدولة وسحق إرادة الشعب، نظرًا لعمله خارج حدود وظيفته ووجوده كعامل رئيسي ومرجح في أي انتخابات بالبلاد.
وفي دليل على تحكم الجيش بالحكم، عرفت البلاد مؤخرا إطلاق سراح عديد الجنرالات والعسكريين السابقين، وعلى رأسهم اللواء المتقاعد، محمد مدين، المدعو “الجنرال توفيق”، في المقابل تواصل اعتقال العشرات من الناشطين بتهم مختلفة.
وشهدت البلاد مؤخرًا، سلسلة من المراجعات القضائية لقضايا وملفات عددٍ من الجنرالات الذين وُضعوا قيد الملاحقة من قبل القضاء، خلال فترة سيطرة قائد الأركان الراحل الفريق أحمد قايد صالح على الحكم، ما يؤكّد وجود تسويات بين قيادات الجيش لإحكام السيطرة على البلاد على حساب الحراك والمطلب الديمقراطي.
تبون رئيس صوري
ينظر مراقبون جزائريون إلى أن عبد المجيد تبون ليس سوى رئيس صوري، فحضوره أو عدمه لا يغير شيئًا بالنسبة لحكام الجزائر الفعليين، هو مجرد موظف عندهم، استنجدوا به زمن الحراك وقلدوه السلطة حتى يكونوا قادرين على رص الصفوف دون الخوف من تغوله واللعب لمصلحته، وفق وجهة نظر هؤلاء المراقبين.
إذ يعتبر تبون شخصية توافقية بين القوى التي تشكل في الخلف دوائر السلطة المعقدة وتقرر مصير البلاد منذ مدة، من رجال أعمال وعسكر، إضافة إلى سياسيين كبار من أحزاب مختلفة في الحكم والمعارضة، لذلك يعملون على تقليل خطورة تواصل غيابه عن الساحة.
من جانب آخر، يظهر تمسك المؤسسة العسكرية بتبون في الحملات الإعلامية المنظمة التي تشرف عليها، وفيها تثني على قدراته وتؤكد أنه بصحة جيدة وقادر تمامًا على أداء مهامه كافة، رغم غيابه المتواصل عن قصر الرئاسة.
خلخل حراك فبراير أعمدة النظام الجزائري وتسبب في رحيل عبد العزيز بو تفليقة، لكن الماسكين الفعليين للحكم تمكنوا من التموقع من جديد، حتى لا يخسروا الامتيازات السياسية والاقتصادية التي يتمتعون بها في هذا البلد الغني بالنفط.
يلخص الوضع الحالي في الجزائر أزمة تدخل الجيش في الحياة السياسية في بعض أنظمة الدول العربية وعلاقته بمؤسسة الحكم، فرغم نجاح الجزائريين في إسقاط بوتفليقة وإجباره على الرحيل، فإنهم عجزوا على التخلّص من جنرالات الجيش الماسكة بزمام الأمور.