من خلال إزالة حسابات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أرست شركات التكنولوجيا الكبرى على غرار تويتر وفيسبوك بحزم مبدأ امتلاكها لهذه المنصات وأنها هي التي تختار من يستعملها. ولكن هذا الأمر يقودها إلى طريق مجهول، الأمر الذي يثير تساؤلات عميقة حول حرية التعبير والمسؤولية التي تقع على عاتق شركات التكنولوجيا.
تخلق منصات التواصل الاجتماعي اعتقادًا زائفًا بأنها فضاءات عامة، لكنها لا تستطيع إنكار حقيقة أنها ملكية خاصة حيث يمكنها أن تضع قواعد للسلوك. فمثلما يستطيع مالك الحانة أن يطرد من محله زبونًا يسيئ التصرف، فقد أظهرت منصات التواصل الاجتماعي حاليا أنها بدورها قادرةٌ على إزالة الأشخاص الذين لا يتبعون قواعدها.
يبدو هذا المبدأ مناسبًا، لكن السؤال المطروح هو كيف يمكن تطبيقه بصورة متسقة؟ يُذكر أن ترامب حرّض أنصاره في السادس من كانون الثاني/ يناير على مداهمة مبنى الكابيتول الأمريكي – والذي كان هجومًا غير مسبوق – في الوقت الذي كان فيه المشرعون يتابعون إجراءات تنصيب جو بايدن بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية لسنة 2020. لكن هذه ليست المرة الأولى التي يقدم فيها ترامب على أمر مماثل على منصات التواصل الاجتماعي. لذلك، بدت تفسيرات وتبريرات إزالة حسابه مثيرة للسخرية إلى حد ما، وكان واضحًا أنهم يستجيبون للتحولات السياسية التي تشهدها البلاد.
أدلى ترامب بالعديد من التصريحات في الماضي، التي كان مضمونها إما التغاضي عن العنف أو التهديد به، مثلما حصل عندما تحدث في أعقاب الاحتجاجات التي وقعت في مدينة شارلوتسفيل فيرجينيا سنة 2017، وعلى خلفية مظاهرات حركة “حياة السود مهمة” السنة الماضية. لكن قادة كبرى شركات التكنولوجيا صوروا أنفسهم على أنهم مؤيدون لحرية التعبير وأصروا على أنهم يديرون منصات وليس مؤسسات إخبارية. ومع ذلك، يظل سجلهم في دعم حرية التعبير في البلدان الأخرى متباينا. فقد حظرت هذه المنصات حسابات السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين الذين يضايقون بعض الحكومات، بينما سمحت للجهات الفاعلة ذات النفوذ السياسي بتشويه سمعة الأقليات وإذلالها، في حين تزعم أنها لا تتسامح مطلقا مع خطاب الكراهية.
من خلال إزالة حسابات ترامب، خلق عمالقة التكنولوجيا استثناءً يتمثل في حقيقة أنه عندما تتغير الأرضية السياسية، فإن الشركات ستغير موقفها. ولكن تطبيق مثل هذه القواعد على نحو ثابت أمر صعب حتى في صلب الدولة، ومحاولة تطبيقها في جميع أنحاء العالم أمر مستحيل بالنسبة للشركات التي لا تملك التفويض أو الخبرة أو القدرة أو السلطة لحماية حق متنازع عليه وهش مثل حرية التعبير.
تشير هذه التجارب إلى أن منصات التواصل الاجتماعي تطبق سياساتها بشكل غير متكافئ في سياقات مختلفة
تمتلك شركات التكنولوجيا الكبرى منصاتها الخاصة. ولديها الحق في وضع شروط الخدمة والمعايير التي تناسبها. ويقع تحديد تلك القواعد والشروط بشكل أحادي، حتى وإن قامت بعض الشركات بإجراء ممارسة متقنة لاستشارة أصحاب المصلحة المتضررين، ناهيك عن أنها لا تتبع الإجراءات القانونية المشروعة، ونادرًا ما تشرح قراراتها بوضوح. ولا يمكن الوصول بسهولة إلى المعلومات المتعلقة بكيفية وضع هذه السياسات، وطريقة تنفيذها، وما إذا كان هناك إجراءات استئناف، ومن يحكم في طلبات الاستئناف هذه، وما هي سبل الانتصاف والتعويض المتاحة للمستخدم، حتى أن الشركات لا تملك الموارد اللازمة للرد على كل مشتكي.
إن التعسف هو القاعدة وليس الاستثناء. ففي الوقت الذي كانت فيه شركات منصات التواصل الاجتماعي حريصة على حظر حسابات اليمينيين في الولايات المتحدة على غرار ميلو يانوبولوس وأليكس جونز، فإنها في أماكن أخرى من العالم حظرت حسابات الليبراليين والمدافعين عن حقوق الإنسان بينما تمتع اليمينيون بحرية كاملة. بعبارة أخرى، يبدو أن شركات التكنولوجيا تُذعن للسلطة، وليس للأيديولوجيا.
تعرّض موقع فيسبوك لانتقادات حول الطريقة التي استخدم بها قاعدته لنشر الكراهية ضد الأقليات في ميانمار، حيث تبين أنه استغل ذلك للتحريض على العنف. ثم قام فيما بعد بحظر حسابات جيش ميانمار، واعتذر عن دوره في اندلاع أعمال الشغب المعادية للمسلمين في سريلانكا في سنة 2018، وتعارضت سياساته المتعلقة بخطاب الكراهية مع أولويات أعماله التجارية في الهند، التي تعدّ أكبر أسواقه من حيث عدد المستخدمين. كما اتُهم موقع تويتر بالتواطؤ في الحملة الهندية لقمع وسائل الإعلام في كشمير.
جادل زعيم المعارضة الروسية أليكسي نافالني في سلسلة من التغريدات التي تنتقد الحظر الذي فرضه تويتر على ترامب، بأن القادة الاستبداديين استخدموا هذه المنصة دون أي قيود. ويُذكر أن نافالني في حد ذاته تلقى تهديدات، لكن تويتر لم يتخذّ أي إجراءات. بالإضافة إلى ذلك، حظر تويتر حساب المحامي الهندي سانجاي هيغدي، الذي نشر صورة لألماني معارض وحيد رفض تحية هتلر، وذلك بسبب سياسة تويتر المناهضة لتمجيد الأيديولوجية النازية. (علما بأن الصورة كانت تمجّد في الواقع الرجل الذي وقف بمفرده).
لقد مررت شخصيا بعملية الحظر على تويتر: ففي أوائل الشهر المنقضي، بعد أن نشرت قصيدة رثاء كنت قد كتبتها قبل عقد من الزمن حول تدمير مسجد بابري في الهند سنة 1992، وقع حظر حسابي لمدة يومين تقريبا. وقد أعرب العديد من الكتاب البارزين عن غضبهم إزاء الحظر. وادعى أحد المستخدمين الهندوس أنه مسؤول عن حظر حسابي، وقد أعلمني تويتر لاحقًا أنه وقع تعليق عضويتي لأنني قمت بإعداد قائمة بحسابات تويتر لمتابعة أي عنوان ينتهك سياسات إساءة استخدام تويتر (والتي لم يقع شرحها لي). لم يكن بإمكاني تغيير العنوان واضطررت إلى إزالة القائمة كليا ليعيدوا لي حسابي. لاحقا، تمكنت من نقل البيانات ذاتها إلى قائمة أخرى، وأعدت تسميتها، وتمكنت من العودة للمنصة بعد حوالي 36 ساعة.
تشير هذه التجارب إلى أن منصات التواصل الاجتماعي تطبق سياساتها بشكل غير متكافئ في سياقات مختلفة. وتعد تصرفاتها انفرادية، غالبًا ما تكون تعسفية، ولا تتبع الإجراءات القانونية الواجبة. ولا عجب أن منصة “بارلير” قد رفعت دعوى قضائية ضد أمازون بسبب إزالة المنصة الاجتماعية من خدمات أمازون ويب. كما أوضحت شركة خدمات الويب “كلاود فلير” عندما قامت بإلغاء حساب موقع “ذا ديلي ستورمر” للنازيين الجدد في 2017، أن الإجراءات القانونية الواجبة هي الحل الأساسي.
في الولايات المتحدة، يمنع التعديل الأول للدستور الحكومة من تقييد حرية التعبير أو الصحافة، لكن هذا التقييد لا ينطبق على الكيانات الخاصة
لا شك أن خطاب ترامب كان بمثابة دعوة لاتخاذ الخطوات اللازمة. سيتولى المحامون تحديد ما إذا كان خطابه محرضًا على العنف بالفعل، ولكن على كل من احتفل برحيل ترامب عن وسائل التواصل الاجتماعي أن يسألوا أنفسهم ماذا سيحصل إذا تمت إزالة القادة الذين يدعمونهم من هذه المنصات دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة.
يبدو الأمر بسيطًا، فمثلا، يحق للمراكز التجارية إزالة أي معروضات قد تسيء إلى عملائها، مثل الملصقات الرسومية المناهضة للإجهاض، أو رسائل صريحة مناصرة لحقوق الإجهاض في مجتمع منقسم حول حق المرأة في الإجهاض في بلد مثل الولايات المتحدة. وعلى غرار المركز التجاري الذي يرغب في جذب المتسوقين ودفعهم إلى البقاء فيه قدر المستطاع، تريد منصات التواصل الاجتماعي من المستخدمين زيارة مواقعها لفترات طويلة، والحصول على تجربة متكاملة من شأنها طمأنتهم، بحيث ينقرون على الاعلانات ويشترون المنتجات.
لكن فيسبوك وتويتر منصات شبه احتكارية. لا شك أنه يوجد بدائل لهما، لكن هذه البدائل تفتقر للخصائص اللازمة لتصبح منافسة حقيقية لها. لا تعد منصة “بارلير” المنصة الوحيدة التي تلقت معاملة مماثلة من قبل خدمات أمازون ويب، التي أزالت في سنة 2010 منظمة “ويكيليكس” من خوادمها. وقد تواجه “ماستودون” وهي شبكة اجتماعية يفضلها الكثير من اليساريين، لا سيما في الهند، مصيرا مماثلا أيضا.
في الولايات المتحدة، يمنع التعديل الأول للدستور الحكومة من تقييد حرية التعبير أو الصحافة، لكن هذا التقييد لا ينطبق على الكيانات الخاصة. عندما يكون الكيان الخاص المعني شبه احتكاري، كما هو الحال مع معظم شركات التكنولوجيا الكبرى؛ وفي حالة عدم وجود بدائل تديرها الدولة أو غيرها من البدائل الخاصة؛ وإذا بدا أن الكيان الخاص المهيمن المعني يتّبع المصالح الكبرى بناءً على طلب المشرعين، فإن ذلك يطمس الحد الفاصل بين الدولة والقطاع الخاص.
تدّعي شركات التكنولوجيا الكبرى أنها تعمل على منع انتشار خطاب الكراهية. تعمقت الأكاديمية سوزان بينيش في هذه القضية، وقامت بالتمييز بين خطاب الكراهية والخطاب الخطير: حيث الأول ينبغي أن يبقى جائزا في حين أن الثاني يحتاج إلى تنظيم. قالت بينيش إنه بالإمكان تحديد الكلام الخطير من خلال البحث عن المعالم الآتية: قدرة المتحدث على التأثير في مجموعة كبيرة من المتابعين، ومدى عرضة الجمهور لذلك التأثير، وعدم تمتعه بإمكانية الوصول إلى المعلومات الدقيقة أو عدم إيمانه بها، وتجريد الخطاب لجماعة معينة من الإنسانية، وتشجيعه الجمهور على تعزيز التظلم، وتحدثه عن النقاء العرقي واستهدافه الغرباء لتلويثهم لذلك النقاء، وتشفير اللغة باستخدام صور تحمل معنى خاصًا بالنسبة للجمهور المستهدف. كما أشار الكاتب سيث أبرامسون في سلسلة تغريدات بلغت مئتي تغريدة، إلى أن خطاب ترامب يعد خطيرًا. وحتى صحيفة “وول ستريت جورنال”، التي لا تعد من أنصار الديمقراطيين، ارتأت أن خطاب ترامب كان إجراميا.
من المستحيل أن تقوم شركة خاصة بهذه المهمة بمفردها، بينما تتقنها الصحف والمجلات التي تمتلك ضوابط داخلية لتحديد ما يمكن نشره على منصتها
ولكن ما هو الأساس الذي تستند إليه الشركات لتحديد ما إن كان خطاب معين يمثل خطرا “واضحا وماثلا”؟ على خلفية غضبهم من مدى قوة شركات التكنولوجيا، ردّد العديد من القادة الجمهوريين مطالبات ترامب بإزالة الحماية التي تتمتع بها منصات التواصل الاجتماعي بموجب البند 230 من قانون آداب الاتصالات، الذي يمنحها حصانة من الملاحقة القضائية باعتبارها واسطة ناقلة للبيانات، وليست ناشرة لها.
من خلال وضع معاييرها وسياساتها وتنفيذها لها، تمارس هذه الشركات بعض الرقابة التحريرية على المحتوى الذي تتداوله. ولكن لا ينبغي تركها تتمتع بكل هذه الصلاحيات. ويعد حل ترامب بإزالة البند 230 يعد سطحيا، ذلك أنه من دون نص المادة لوضع حظره من منصات التواصل الاجتماعي في وقت أبكر بكثير.
تحتاج هذه الشركات إلى قواعد وإجراءات سليمة. نحن نعيش في قرية عالمية ويجب تطبيق القواعد بشكل عادل في كل مكان. وحسب ما قاله ديفيد كاي، المقرر الخاص السابق للأمم المتحدة المعني بحرية الرأي والتعبير، في كتابه “شرطة التعبير“، فإن الشركات ذات النوايا الحسنة بحاجة إلى العمل مع الحكومات التي تحترم الحقوق وخبراء حرية التعبير وحقوق الإنسان بنهج منسق ومتعدد الأطراف، لفهم ما تعنيه حرية التعبير، وما يعنيه خطاب الكراهية، وما هي القيود التي يمكن تطبيقها، وكيف يتم تطبيقها – بانتظام ودون أي تفرقة.
من المستحيل أن تقوم شركة خاصة بهذه المهمة بمفردها، بينما تتقنها الصحف والمجلات التي تمتلك ضوابط داخلية لتحديد ما يمكن نشره على منصتها، بما في ذلك نشر جميع وجهات النظر التي يتم التعبير عنها بوضوح، والأخبار التي تم التحقق من صحتها وتأكيدها. علاوة على ذلك، تمتلك منصات وسائل التواصل الاجتماعي أكثر مما يكفي من الموارد للاستثمار في بنية تحتية تسمح لها بالتصرف كما هي في الواقع – أي مجموعة من الناشرين والمحرّرين. ترغب منصات التواصل الاجتماعي في الحصول على المستخدمين والمصداقية والثقة، ولا بد لها من كسبهم أولا.
المصدر: فورين بوليسي