“الاتفاق النووي الإيراني الذي تفاوضت عليه إدارة أوباما وبايدن، منع إيران من الحصول على سلاح نووي، ومع ذلك، تجاهل ترامب الاتفاق بتهور، مما دفع إيران إلى إعادة تشغيل برنامجها النووي، وأن تصبح أكثر استفزازًا، ما زاد من خطر اندلاع حرب كارثية أخرى في المنطقة، ما من أوهام عندي بشأن النظام الإيراني الذي شارك في سلوك مزعزع للاستقرار في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وقمع بوحشية المتظاهرين في الداخل، واحتجز الأمريكيين ظلمًا، لكن هناك طريقة ذكية لمواجهة التهديد الذي تشكله إيران لمصالحنا…”، هذا ما أشار إليه الرئيس الأمريكي جو بايدن في مقالة له نشرها في مجلة فورين أفيرز الأمريكية في عدد مارس 2020، بعنوان “لماذا على أمريكا أن تقود من جديد؟”.
في أثناء الاستعداد لخوض سباق الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 3 من نوفمبر/تشرين الثاني 2020، دافع بايدن عن العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، الذي سبق أن انسحبت منه إدارة دونالد ترامب في 8 من مايو/أيار 2018، مع تأكيده على إيجاد مقاربة جديدة للتعامل مع إيران، أهمها أن تعاود إيران الالتزام بالاتفاق النووي، ومعاودة الحديث عن ملفات أخرى أغفلها هذا الاتفاق أهمها الصواريخ الباليستية والسلوك الإقليمي، عندها يمكن البناء على أرضية جديدة للمفاوضات.
مقاربة بايدن لم تلق الترحيب من قادة إيران، وتحديدًا عندما تحدث المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي مؤخرًا، بأن إيران غير مستعجلة لعودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي، بل واعتمدت إجراءات تصعيدية في ملفها النووي، سواء عبر زيادة نسبة تخصيب اليورانيوم أم زيادة نسب إنتاج وتصدير الماء الثقيل أم حتى بناء أنفاق جديدة تحت الأرض، وهي على ما يبدو مواقع جديدة لمفاعلات نووية تنوي إقامتها إيران جنوب البلاد.
تتمثل الإشكالية الرئيسية اليوم، من الطرف الذي سيقدم على الخطوة الأولى وكسر حالة الجمود السياسي والتوتر الأمني الذي تشهده العلاقات بين الطرفين، فالرئيس بايدن تحدث عن إمكانية إيجاد مسار دبلوماسي جديد للتفاوض، إذا امتثلت إيران مجددًا للاتفاق النووي، وفي مقابل ذلك أشار الرئيس الإيراني حسن روحاني، بأن رفع جميع العقوبات التي فرضت على إيران خلال الفترة الماضية هو خيار أساسي، قبل الجلوس على طاولة المفاوضات من جديد.
جاء نهج ترامب القائم على سياسة الضغط الأقصى، ورغم أن هذه السياسة نجحت في إخضاع إيران اقتصاديًا واجتماعيًا، فإنها لم تنجح في تعديل السلوك الإقليمي لإيران كما كان يطمح ترامب.
ما النهج الذي سيعتمده بايدن؟
إن السياسة الخارجية للإدارات الديمقراطية معروفة بالحلول المرنة، لذلك فإنه من المتوقع أن نشهد إعادة هيكلة للسياسة الأمريكية حيال إيران، عبر تقديم الحلول السياسية على الحلول العسكرية، مع السعي لتأسيس هدنة مع إيران، لإنجاح التوجه الأمريكي في الداخل والخارج، فإذا نجحت إدارة بايدن في ترويض إيران حتى موعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة في 18 من يونيو/حزيران 2021، فإنها ستنجح في كسب مزيد من الوقت لمعالجة الملفات الداخلية المعقدة في الداخل الأمريكي، التي قد تعرقل التوجه الأمريكي الخارجي حيال الملفات الدولية، ومنها الاتفاق النووي.
غير أن السؤال المركزي هنا: أي نهج سيعتمده الرئيس بايدن، فيما لو قرر إعادة الانخراط في مفاوضات جديدة مع إيران، العودة لنهج باراك أوباما أم الاستمرار بنهج دونالد ترامب أم البحث عن نهج جديد؟ وكيف ستستوعب إدارة بايدن الاستفزازات الإيرانية في العراق أو سوريا أو أي جبهة موالية لإيران في الشرق الأوسط؟
جاء النهج الإستراتيجي الذي اعتمده أوباما، القائم على تشكيل جبهة دولية موحدة ضد إيران، عبر إخضاعها لاتفاق نووي يتضمن التزامات مشددة على برنامجها، كرؤية حكمت السياسة الأمريكية حيال إيران، إلا إنها لم تحقق النجاح، وذلك كون التنازلات التي قدمتها إيران في برنامجها النووي، جاءت بمقابل إطلاق يدها في الشرق الأوسط، وهو ما جعل إدارة أوباما تواجه نفوذًا إيرانيًا متصاعدًا في المنطقة، وأصبح يشكل تهديدًا أكثر من البرنامج النووي.
ومن جهة أخرى، جاء نهج ترامب القائم على سياسة الضغط الأقصى، ورغم أن هذه السياسة نجحت في إخضاع إيران اقتصاديًا واجتماعيًا، فإنها لم تنجح في تعديل السلوك الإقليمي لإيران كما كان يطمح ترامب.
ومن هذين النهجين يمكن القول إن بايدن سيكون أمام صورة واضحة للتعامل مع إيران، فعند النظر إلى الفريق الرئاسي الذي اختاره (وزير الخارجية أنطوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان ورئيس وكالة الاستخبارات المركزية وليم بيرنز ومبعوث الشرق الأوسط بريت ماكغورك)، نجد أن جميع هذه الأسماء ساهمت في هندسة الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، وهي أكثر استعدادًا اليوم للتعامل معها.
ومن جهة أخرى فإن الضغوط التي تعاني منها إيران والظروف الإقليمية الجديدة وتحويل “إسرائيل” تحت القيادة الشرق أوسطية للجيش الأمريكي، ستجعل إدارة بايدن تعود للاتفاق النووي من موقع قوة وليس ضعف، عبر اعتماد نهج دبلوماسي أكثر نجاعة، لتحقق أكبر قدر من المناورة والتأثير، وكذلك تعطي لإيران خيارًا لإعادة الانخراط في مفاوضات الاتفاق النووي.
تحديات سيواجهها بايدن
ستواجه الإدارة الجديدة بالتأكيد عددًا من القضايا المتضاربة، أولًا، عليها التعامل مع كل التحديات التي تطرحها إيران، سواء على مستوى التصعيد النووي أم التهديد العسكري، ثانيًا، يفضل الأوروبيون والجهات الفاعلة الأخرى خارج الشرق الأوسط، العودة السريعة للاتفاق النووي، لكن الجمهوريين في الكونغرس الأمريكي ما زالوا يعارضون ذلك بشكل شبه موحد، وستتطلب السياسة المستدامة دعمًا من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ثالثًا، في حين تُعتبر طمأنة “إسرائيل” والسعودية والإمارات إيجابية، إلا أن هناك شكوكًا تساور هذه الدول أيضًا، وهي أن العودة للاتفاق ستقوض نفوذ الولايات المتحدة على إيران، مما يجعل النظام يفقد الأسباب التي تدفعه إلى التفاوض بشأن أي اتفاقات متابعة موضوعية، أو التعامل مع القضايا الإقليمية.
وبالفعل، ترغب الولايات المتحدة أن تحافظ على نفوذها وأن تُظهر لإيران تداعيات عدم تغيير سلوكها حتى في وقت تحفز فيه النظام على الموافقة على اتخاذ خطوات أخرى تضاف إلى الاتفاق النووي (على سبيل المثال، من خلال تمديد مدة الاتفاقية والتصدي للصواريخ الباليستية).
خلال صياغة سياسته تجاه إيران، سيواجه فريق بايدن واقعًا يختلف إلى حد كبير عن ذلك الذي استُقبلت به إدارة أوباما، وسيكون التحقيق في المقاربات التي انتهجها كل من ترامب وأوباما أمرًا بالغ الأهمية، بينما يفكر صناع السياسة في الدروس المستفادة من كليهما.
وقد واجه كل رئيس أمريكي منذ جيمي كارتر، صعوبات متمثلة في وضع إستراتيجية تسفر عن تغيّر ذي مغزى، في كيفية تعامل إيران مع الدول المجاورة لها، ويجب على بايدن مقاومة الانجرار إلى دبلوماسية الأزمات، وبدلًا من ذلك إعداد مقاربة دبلوماسية مطبّعة تجاه طهران، كما يجب الاستفادة إلى أقصى حد من المجال والوقت المتاحين، على أن تتمثل الأهداف الرئيسية بـ(1) تمديد الوقت القصير لتجاوز إيران للعتبة النووية، و(2) السماح ببدء مفاوضات يمكن أن تسفر عن اتفاق أطول أمدًا وأكثر متانةً.
لا يُخفى أن المفاوضات مع الإيرانيين بشأن التوصل إلى اتفاق نووي ليست سهلة على الإطلاق، لكن إذا أرادت إدارة بايدن إجراء مفاوضات متابعة تتطلب الحصول على المزيد من جهة الإيرانيين، بينما تمنحهم أيضًا المزيد من حيث الفوائد الاقتصادية، وليس فقط تخفيف العقوبات، فقد يكون من المنطقي عدم الانضمام مجددًا إلى الاتفاق النووي، بعبارة أخرى، إذا أرادت واشنطن الوصول إلى “المزيد مقابل المزيد”، عليها أن تبدأ بالأقل مقابل الأقل.