يلصق مراسل قناة الغد (التابعة لدحلان) الكاميرا بظهر الشرطي فنعرف نوع ملابسه ولا نرى حجم المظاهرة، يقول لنا تونس تحتج على الفقر والتهميش، نصدقه أو نرغب في ذلك لكنه لا يرفع الكاميرا لنعرف حجم الحضور المحتج ويغطي بصوته على الشعارات المرفوعة فلا نسمعها، وتتسرب الشعارات رغم ذلك، شعارات الاستئصال اليساري التي رفعت ضد الإسلاميين منذ خمسين سنة بالتمام والكمال (كان شعار “سحقًا سحقًا للرجعية دساترة وخوانجية” قد رفع لأول مرة بالجامعة التونسية سنة 1971).
ينسى مراسل قناة الغد الشبيحة أنه في بلد حر يمكن لمراسل معاد أن يحصل على حق التغطية بحرية كاملة ولا يضار في رزقه وإن خالف قواعد المهنة ومارس الدعاية السياسية المضادة، لكن هذا أمر ثانوي، فنحن نبحث عن وجه حقيقي للمتظاهرين ليلًا.
وقد عرفنا في الظهور الوحيد الجهري وجه المتظاهرين نهارًا، فإذا هم شرذمة من اليسار الذي لا يخرج في الليل، فمن هؤلاء الذين يخرجون ليلًا ويحرقون العجلات ويسطون على الممتلكات، فتكتب صفحات ثورية وقناة دحلان أنهم طلائع الثورة التونسية الثانية.
لا نحمي الحكومة من الشارع ولكن أي شارع هذا؟
ليس في وارد فكرنا ولا موقفنا أن نحمي الحكومة من ثورة الشارع مهما كان حجمها، لكن الوقوف الأعمى مع حركة الليل ظلم للنفس أولًا، فلم يتسن لنا أن نسمع شعارات المحتجين ولا أن نعرف وجوههم، فليس لهم قائد والظلام يخفيهم مليًا والأمن لم يفصح عن أسماء الزعماء “المتخيلين”، لم يتكلموا جهرة بمطالب، فالحقيقة لا وجود لزعماء وإنما أحداث تعطلت مدارسهم بحكم الكورونا، فخرجوا يسطون ولا يتكلمون وما دخان العجلات إلا تغطية متاحة، فالعجلات القديمة مرمية على قارعة الطريق.
عادت أحاديث التهميش الاجتماعي إلى السطح بعد كمون والذين يروجون لها الآن كانوا مشغولين بمعارك البرلمان ويرون فيها مخرجًا من نتائج انتخابات 2019 فيما يشبه عطلة برلمانية هناك نتيجة واحدة مزعجة هي وجود حزب إسلامي في المشهد لذلك يصير كل تشويش عليه ثورة شعبية لتصحيح مسار الثورة، ولو من خارج الصندوق بل من خارج الصندوق أساسًا، دائرة مغلقة الذين أقصاهم الصندوق دومًا يتخذون الذرائع ولو على أكتاف الفتية النهابين ليلًا.
ألا يوجد تهميش اجتماعي؟ بلى البلد في حالة ضنك والمفقرون يزدادون فقرًا ولا ينكر ذلك إلا كافر بالناس وهمومهم، لكن الوسيلة المتخذة لا تثبت حقًا قائمًا بل تشوهه، يوغل البعض في التعاطف مع الشارع، لكنه يخفي حقيقة أن التظاهر لا بد له من اسم وصورة وعنوان وقيادة تفاوض، غابت المكونات السياسية وبقي النهب ولهاث الشرطة.
لا شيء تقريبًا، ستكون نهاية الأسبوع هادئة، لقد نفس الرفاق عن غضبهم وأثبتوا حبهم للشعب وعادوا إلى مواقعهم سالمين
النقابة تتمسك خلف الاحتجاج
الجميع يصب جام الغضب على الحكومات الفاشلة دون تسمية سبب الفشل، وفي مرحلة متقدمة من النقاش ينسب الفشل لسبب وحيد ويتيم، وجود النهضة في الحكم هو سبب الخراب (البعض يوسع لاتهام كل الثورة ثم يلخص الثورة في النهضة).
وتتبين وجهة داعمي الحراك، يسار يحمي نقابته التي خربت على كل الحكومات ويروج لها إعلام من طينتها ومن أهلها، فكل النقاش التونسي في فهم أسباب الخراب مغلوط لأنه موجه سياسيًا وإيديولوجيًا، فلا أحد يسمي النقابة باسمها ويحملها مسؤوليتها في التخريب المنهجي حتى ضحيتها الأولى (حزب النهضة)، فهو لا يزال يصدر البيانات بتمجيدها ونستشعر خوفه في كل لفظ وفي كل جملة).
بيان من النقابة صدر لرفع العتب يوم 17 ينأى بنفسه عن التخريب الليلي، لكنه يشرعه، إذ يوفر له التبريرات ليتواصل ويهدد بالتصعيد دون المشاركة، حركة بهلوانية أدمنتها النقابة، فهي كالمنشار تأكل صاعدة نازلة تريد نتيجة الحراك في جرابها لتربح الشارع وتظهر إسناد الحكومة ضد الحراك لتبتزها به، والجميع يرى ويصمت خائفًا يترقب، فالغول النقابي فوق المحاسبة ولذلك يصبح خطاب التعاطف مع المهمشين لغة مضروبة لا يصدقها العقلاء وتخاف منها الحكومات المرعوبة جبلة.
حراك بلا أفق ولن يستمر
هذا تقديرنا على ضوء الساعات المئة الأولى من الحراك الليلي الذي لم يعلن مطلبًا واحدًا ولم يقدم عريضة مطالب يمكن التفاوض بشأنها ومن سيفاوض باسم حراك بلا وجه ولا وجهة غير التخريب الانتقام بدعوى أن السياسيين يسرقون البلد.
هل ستظهر معطيات جديدة كأن تتبنى جهة سياسية الحراك وتقوده، ليس لدينا أي مؤشر على ذلك حتى الآن والتضامن الإعلامي يقوده أشخاص هوامش بعضهم يشرب قهوته في باريس ويعلن هروب قيادات النهضة إلى الخارج خوفًا من الثورة الشعبية.
تتجمع معطيات كثيرة غير دقيقة للأسف (وفد لا يدققها أحد) حتى الآن أن أطفال المدراس هم من يخرج ليلًا للتخريب ويندس بينهم كل مخرب ممن خرج في مناسبات سابقة ليسطو ويتخفى كما تفعل ثعالب على أقنان دجاج ينام ليلًا، فليست هذه المرة الأولى التي تحدث فيها تحركات مماثلة تنتهي سريعًا بكم من التخريب والاعتداء على الممتلكات، ثم لا تسفر عن وجه إلا تعاطف الإعلام المعادي للثورة من فلول منظومة بن علي.
هذه نقطة نجاح فتيان الليل لقد قالوا للحكومة ومن حولها، نحن فشلكم فافعلوا شيئًا لا يخرجنا في ليل آخر
والآن ماذا سيحصل؟
لا شيء تقريبًا، ستكون نهاية الأسبوع هادئة، لقد نفس الرفاق عن غضبهم وأثبتوا حبهم للشعب وعادوا إلى مواقعهم سالمين. الحكومات وضعت بعض الفتية في الإصلاحيات وربما أفرجت عن الكهول بضمان مقر إقامتهم (وطاح الكاف على ظله) وهي عبارة تونسية تعني إغلاق الملف أو المشكل، والمرور إلى غيره.
احتمال فوز التعديل الوزاري بثقة البرلمان وارد أقرب إلى اليقين والحكومة تتجه إلى الاستقرار. هذا لا يعني أن مشاكل تونس قد حلت بهدوء الحراك الليلي، لكن صار هناك يقين أنها لن تحل بمثل ذلك الحراك، لقد كانت خراطيش بيضاء ضد الفساد والتهميش وربما فائدتها الوحيدة أنها فشلت لتقول لطبقة سياسية لا ينقضها الغباء ولا تملك الشجاعة أن الطريق إلى حل المشاكل يمر عبر العمل القانوني في الضوء وليس في الظلام.
هذه نقطة نجاح فتيان الليل لقد قالوا للحكومة ومن حولها، نحن فشلكم فافعلوا شيئًا لا يخرجنا في ليل آخر، لكن لا أحد قال ذلك على لسانهم وهم في الشارع نحن نقولها هنا بأعصاب باردة، فقد تجاوزنا زمن تصديق يسار البوبو، الذي لا يستطيع إخراج مائة حنجرة للشارع في وضح النهار وليس لديه إلا شعار استئصالي عمره نصف قرن.