ترجمة وتحرير نون بوست
تسير السيارات ببطء على بعد أمتار قليلة من الشارع الرئيسي المزدحم في مدينة العيزرية، وهي ضاحية فلسطينية تقع شرق القدس، قبل أن تتوقف مرة أخرى.
أوقف إسلام ربيع، وهو سائق حافلة صغيرة يبلغ من العمر 23 سنة، فرامل الحافلة وبدأ في التفكير مجددا. وأخذ يقول في نفسه: “هذه المدينة أكثر ازدحاما من علبة سمك التونة. ولها مدخل واحد، وهو أيضا المخرج الوحيد، وأنا أقود الناس إليه ذهابا وإيابا طوال اليوم”.
يقع الطريق الوحيد الذي يربط مدينة العيزرية بالعالم الخارجي في الشرق عبر الطريق الذي أنشأته “إسرائيل”، قبالة مدخل مستوطنة معاليه أدوميم، وهي أكبر مستوطنة إسرائيلية غير شرعية في الضفة الغربية المحتلة، والتي شُيّدت بالكامل تقريبا على أراضي تابعة للبلدة الفلسطينية.
تقع بلدة أبو ديس في الغرب، وهي ضاحية أخرى من ضواحي القدس محاطة بجدار الفصل الإسرائيلي، مما يجبر سائقي السيارات في أبو ديس على المرور عبر مدينة العيزرية والخروج شرقا
مع ذلك، صادقت الحكومة الإسرائيلية في الأسبوع الماضي على مشروع ينص على بناء أجزاء جديدة واسعة النطاق من جدارها الفاصل حول شمال وشرق مدينة العيزرية، تفصلها عن الطريق الإسرائيلي والطريق المباشر إلى القدس الذي كانت تستخدمه منذ قرون، والذي سيكون الآن متاحا فقط للمستوطنين الإسرائيليين.
وفقا لمنظمة “السلام الآن” الإسرائيلية غير الحكومية، خصصت الحكومة الإسرائيلية ميزانية تُقدّر بحوالي 14 مليون شيكل (4.3 مليون دولار) للمشروع.
حسب المخطط، لن تُعزل مدينة العيزرية بالكامل، بل سيقع إنشاء مدخل جديد للمدينة ولبلدة أبو ديس في الشمال. وهذا من شأنه أن ينقل حركة المرور نحو رام الله، بعيدا عن المستوطنين، ويعزلها عن القدس، المدينة التي لطالما كانت العيزرية تابعة لها.
من جانبه، قال إسلام ربيع موضحا: “لن يغير ذلك الوضع الكثير بالنسبة لي، باعتباري سائق حافلة صغيرة. ما زال يتعين علي القيادة عبر هذا السجن المزدحم نحو المخرج الجديد. ولكنه سيعزل البلدة تماما عن القدس.
“القدس الكبرى” والضم الإسرائيلي
هذه ليست مجرد قضية حركة مرور، فمن خلال عزل سكان مدينة العيزرية عن القدس وتشييد الجدار الفاصل على طول أطراف البلدة، ستكون الضاحية معزولة أكثر عن الأراضي المحيطة التي عمل وعاش فيها السكان الفلسطينيون طيلة قرون.
وفقا لما ذكره العمدة عصام فرعون، فإن “أراضي العيزرية التي لم تستوطنها إسرائيل بالفعل، سوف تُعتبر “مضمومة بحكم أمر الأمر الواقع”، مضيفا أن البلدة “ستُجرّد من أراضيها تماما”.
تابع أن الاحتلال “سيعيق نمو المدينة الحضري من خلال مصادرة الأراضي المتبقية التي تركتها المدينة متاحة للبناء”. وشدد فرعون على أن المشروع الإسرائيلي الجديد يعدّ بمثابة “جزء من” مشروع القدس الكبرى “وخطط الضم الإسرائيلية”.
جدار الفصل الإسرائيلي الواقع غرب مدينة العيزرية وأبو ديس
في الصيف الماضي، بدت “إسرائيل” عازمة على ضم أجزاء من الضفة الغربية بشكل أحادي، بما في ذلك المستوطنات حول القدس الشرقية على غرار مستوطنة معاليه أدوميم. ولكن فشلت هذه المخططات بسبب الضغوط الدولية، ويُزعم أنها أرجئت كجزء من صفقة التطبيع الإسرائيلية مع الإمارات.
مع ذلك، تواصل “إسرائيل” اتباع سياسة طويلة الأمد تتمثل في إحاطة القدس الشرقية بالمستوطنات التي عزلتها بمرور الوقت عن الضفة الغربية. من المقرر أن يُسفر “مشروع القدس الكبرى”، المعروف أيضا باسم منطقة “إي 1″، عن انتهاك حُرمة أراضي مدينة العيزرية من أجل توسيع المستوطنات. وفي نهاية المطاف، يُعتقد أن “إسرائيل” تعتزم ضم جميع المستوطنات التي تحيط بالقدس الشرقية.
من جهته، قال الناشط بسام بحر من أبو ديس إن “المساحة التي يعتزمون ضمها تعادل مساحة القدس الشرقية. وتتمثل الغاية من وراء في جعل المستوطنات جزءا من المدينة المقدسة، وترك الفلسطينيين الذي يعيشون في الضواحي الفلسطينية خارجها.
بدأت الأنشطة الاستيطانية شرقي القدس في أوائل السبعينات، بعد استعمار المنطقة من جهة الأردن واحتلالها من قبل “إسرائيل” في الحرب التي اندلعت سنة 1967 في الشرق الأوسط. يتذكّر فرعون قائلا “في ذلك الوقت، كنا نسير على الأقدام إلى القدس. ولم يكن هناك سوى عدد قليل من مقطورات المستوطنين على قمة تلتين كانت الحكومة الأردنية قد استعادت ملكيتها للأراضي العامة في الخمسينات”.
كما تابع قائلا “بدأت الحكومة الإسرائيلية بمصادرة المزيد من الأراضي حول تلك التلال والبناء عليها. وكان من المفترض أن تشكّل تلك الأراضي حيّز النمو الحضري المستقبلي لمدينة العيزرية. ولكنها تمثّل اليوم مستوطنة معاليه أدوميم”.
في الحقيقة، فقدت مدينة العيزرية خمسة آلاف دونم من الأراضي لصالح معاليه أدوميم، وألفي دونم من الأراضي لصالح منطقة عازلة بين المنطقتين اللتين أنشأتهما السلطات الإسرائيلية. ولم يتبق لسكان البلدة سوى ثلاثة آلاف دونم من الأراضي المحيطة ليعيشوا فيها ويزرعوا فيها محاصيلهم، من مجموع 11 ألف دونم من الأراضي التي كانوا يملكونها قبل الاحتلال.
مع ذلك، ظلت بلدة العيزرية متصلة بالقدس من الغرب، وبمدن الضفة الغربية؛ أريحا وبيت لحم والخليل من الشرق، حيث يلتقي الطريق الرئيسي من كلا الاتجاهين في البلدة. تغير ذلك في أواخر التسعينيات، عندما وقع فصل الضفة الغربية بأكملها عن القدس بواسطة نظام نقاط التفتيش، بموجب اتفاقيات أوسلو.
وُلد ربيع في تلك الفترة، حيث قال: “عندما كنت صغيرا، أذكر أن الناس كانوا يذهبون إلى القدس عبر العيزرية وبلدة أبو ديس المجاورة. لكن عندما بنى الإسرائيليون الجدار في سنة 2005 إلى غرب البلدة، بات الطريق مسدودا. ازدادت البلدة اكتظاظا، وأصبح الشارع المزدحم الذي نسير فيه الآن هو الطريق الرئيسي إلى القدس. غالبًا ما تستغرق المسافة من أحد أطراف البلدة إلى الطرف الآخر ساعةً في السيارة”.
استغلال أيام ترامب الأخيرة
لطالما وضعت “إسرائيل” العيزرية نصب عينيها بسبب موقع البلدة الاستراتيجي للغاية بين القدس والضفة الغربية، ويظل مستقبلها عاملا مهما لأي خطط لتوسيع الكتل الاستيطانية حول المدينة المقدسة.
يؤكد بحر أن “الإسرائيليين كانوا يخططون لهذا المشروع منذ سنوات. لكن الضغط الدولي مثّل الحاجز الوحيد الذي منعهم من تنفيذه، حيث دُهش العديد من الدبلوماسيين الأوروبيين والأمريكيين عندما شرحنا لهم المشروع في سنة 2008، وأجبروا إسرائيل على تعليق خططها”.
لكن وعلى مدى السنوات الأربع الماضية، منحت إدارة ترامب “إسرائيل” تفويضًا شبه مطلق لتنفيذ سياساتها التوسعية على حساب الفلسطينيين. وارتفع البناء الاستيطاني بشكل كبير، وسعت الحكومة الإسرائيلية لاستغلال الأيام الأخيرة من رئاسة دونالد ترامب للمضي قدما بالمخططات والمشاريع التي قد لا توافق عليها إدارة بايدن القادمة.
أوضح فرعون أن “الحكومة الإسرائيلية تستغل الأيام الأخيرة لإدارة ترامب لإحراز تقدم في خطط الضم في شرق القدس، ونحن من نتحمل العواقب. لا يمكنني التخطيط للمستقبل، لأنه لا وجود لأي مستقبل”. وأضاف قائلا: “في سنة 1998، وضعنا خطة تطوير شاملة للعيزرية تضمنت نظام صرف صحي والإسكانات والوظائف والرعاية الصحية، لكننا لم نتمكن من القيام بأي جزء منها لأنه لم نعد نملك مساحة كافية. لقد وقع الاستيلاء على جميع أراضينا”.
بينما قامت “إسرائيل” بتغيير طرق العيزرية على مر الزمن، توجب على سكان البلدة تحمل العواقب. حيث تعذر على الأطفال الذين كانوا يلتحقون بالمدارس في البلدات والمدن المجاورة الوصول إليها، مما أدى إلى تضخم الفصول الدراسية في العيزرية، وزيادة أعداد المنقطعين عن التعليم.
في هذا الشأن، قال فرعون: “كان العديد من شبابنا يلتحقون بمدارس في رام الله قبل بناء الجدار. وأولئك الذين يحملوا بطاقة هوية القدس كانوا يمرون عبر نقطة التفتيش للمدينة كل يوم. أما بعد بناء الجدار، اضطررنا لاستخدام طرق تستغرق ساعتين للوصول إلى أي من المدينتين. مما أدى لانخفاض مستويات التعليم بشكل كبير”.
كان ربيع أحد شباب العيزرية المتضررين من ذلك، حيث استذكر السائق: “في صغري، راودتني أفكار التصدي للمستوطنين والاحتلال أكثر مما كنت أفكر في الدراسة. لاحقا، أدى ذلك إلى اعتقالي وأنا في الثامنة عشرة من عمري. كنت حينها أصغر فلسطيني في سجني”.
إسلام ربيع يقود حافلته الصغيرة.
بعد إطلاق سراحه، لم يعد ربيع إلى المدرسة قط. بدلاً من ذلك، بدأ يكسب رزقه من نقل الركاب عبر شوارع العيزرية وأبو ديس المزدحمة. لكن التاريخ والسياسة لم يفارقا عقله أبدا. “في الماضي، كنت آمل أن تكون هذه المستوطنات مؤقتة، وأنهم سينسحبون وسيكون لنا دولة حسب حدود 1967. نعم، كنت أعتقد ذلك، فقط لمجرد كوني طفل حينها”.
بالنسبة لبحر، تلخص قصة العيزرية قصة فلسطين، ولن تكون لها نهاية سعيدة، حيث أفاد الناشط: “لا يتعلق الأمر بالعيزرية وأبو ديس والقدس الشرقية فحسب، بل بعدم وجود أي فرصة لفلسطين لأن تصبح دولة. ولا يهدف ذلك إلى إغلاق طريق آخر أو استعمار أرض إضافية، بل إلى جعل حياتنا هنا صعبة للغاية، حتى نضطر للمغادرة في النهاية”.
بعد تحرير المكبح اليدوي والانطلاق في حافلته على الطريق، أصر ربيع على أنه لن يغادر أبدا، وقال مبتسما: “أنا أصغر من أن أستسلم. لن أغادر إلى أي مكان”.
المصدر: ميدل إيست آي