كشفت السلطات الفرنسية، مؤخرا، النقاب عن محتوى تقرير المؤرخ بنيامين ستورا بشأن ملف الذاكرة واستعمار الجزائر بهدف تعزيز “المصالحة بين الشعبين الفرنسي والجزائري”، لكن يبدو أن هذه المصالحة لن تتحقّق حاليا فالتقرير لم يُقرّ الاعتذار عن الاستعمار وخلا تماما من تطلعات الجزائريين بخصوص “مصالحة الذاكرة”، كما أنه طرح أفكار مستفزة للرأي العام الجزائري.
اقتراحات عديدة
تضمّن تقرير المؤرّخ الفرنسي ستورا، 25 مقترحا لتسوية قضايا عالقة ضمن مسار ترميم العلاقة التاريخية مع الجزائر. من بين هذه المقترحات، جرد المحفوظات والأرشيف الذي أخذته فرنسا أو تركته في الجزائر، لتستعيد الأخيرة محفوظات أصلية، وتشكيل فرنسا للجنة “ذاكرة وحقيقة”، تكلّف بطرح “مبادرات مشتركة بين فرنسا والجزائر حول قضايا الذاكرة” بهدف تحقيق تصالح بين ضفتي المتوسط.
وتأمل الجزائر من باريس أن تقدم لها كل أرشيف الفترة الاستعمارية المتعلق بها، ولطالما قدّمت باريس “ذرائع” لعدم تسليمه، مثل عدم رفع السرية عن جزء من الأرشيف، وأن الأرشيف يقع تحت سيادة الدولة الفرنسية.
كما شملت الورقة الفرنسية أيضا مسألة العمل على إصدار “دليل المفقودين” من الجزائريين والأوروبيين خلال فترة الاحتلال التي امتدّت من 1830 إلى سنة 1962 عندما نالت الجزائر استقلالها، بعد حرب تحرير استمرت ثماني سنوات لا تزال تلقي بظلالها على العلاقات بين البلدين.
ضمن الأفكار التي يقترحها ستورا كذلك “مواصلة العمل المشترك الخاص بمواقع التجارب النووية الفرنسية في الجزائر بين عامي 1960 و1966 ونتائجها وقضية زرع الألغام على الحدود”. وسبق أن جعلت فرنسا من سكان الجزائر حقلاً للتجارب النووية.
يشكل مصير الحركيين الذين قاتلوا في صفوف الجيش الفرنسي ضد ثورة التحرير في بلادهم نقطة خلاف بين البلدين لحساسيتها التاريخية
أدى استخدام فرنسا لمواد كيمائية على غرار البلوتونيوم في تنفيذ تجاربها النووية إلى ظهور عدة أمراض سرطانية وجلدية وتنفسية لسكان المناطق التي شهدت هذه التفجيرات التي وصفها عديد الجزائريين بالوحشية وصنفت في خانة الجرائم ضد الإنسانية.
أما فيما يخصّ رفات المقاومين الجزائريين، دعا ستورا إلى مواصلة نشاط “اللجنة المشتركة للخبراء العلميين” في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي بباريس. وكانت فرنسا الاستعمارية قد تعمّدت سرقة جماجم العديد من الجزائريين والاحتفاظ بها في علب من الورق المقوّى داخل خزانات حديدية في قاعة منعزلة بمتحف “الإنسان” بعيدًا عن مرأى العموم، ولم يكشف سر وجود تلك الجماجم حتى شهر مارس 2011 بعد تحركات للباحث الجزائري “علي فريد بالقاضي” المقيم في فرنسا.
وسبق أن كلف ماكرون بنجامان ستورا، أحد أبرز الخبراء المتخصصين بتاريخ الجزائر الحديث، في تموز/يوليو ” بإعداد تقرير دقيق وعادل حول ما أنجزته فرنسا حول ذاكرة الاستعمار وحرب الجزائر” التي وضعت أوزارها عام 1962 وما زالت حلقة مؤلمة للغاية في ذاكرة عائلات الملايين من الفرنسيين والجزائريين.
اعتراف دون اعتذار
صحيح أن هذه المقترحات هامة إلا أنها لا تفي بالغرض، فقد تأمل الشعب الجزائري تقديم ماكرون اعتذار عن استعمار بلاده للجزائر، خاصة وأنه سبق بأن صرّح أن استعمار فرنسا للجزائر كان “جريمة ضد الإنسانية”.
وقبيل الكشف عن محتوى التقرير قالت الرئاسة الفرنسية إن ماكرون “سيتحدث في الوقت المناسب” بشأن توصيات هذا التقرير واللجنة التي ستكون مسؤولة عن دراستها، مؤكّدة أنه “ستكون هناك أقوال” و”أفعال” للرئيس في “الأشهر المقبلة”، مضيفة أن “فترة المشاورات” بدأت. وأكد الإليزيه أن الأمر يتعلق بـ”النظر إلى التاريخ وجهاً لوجه (…) بطريقة هادئة وسلمية” من أجل “بناء ذاكرة اندماج”.
في نفس الوقت أوضحت تقارير إعلامية عن مصادر في الإليزيه أنها “عملية اعتراف” ولكن “الندم (…) وتقديم اعتذارات غير وارد”، وذلك استنادا إلى رأي أدلى به ستورا الذي ذكر أمثلة اعتذارات قدمتها اليابان إلى كوريا الجنوبية والصين عن الحرب العالمية الثانية ولم تسمح “بمصالحة” هذه الدول.
استفزاز للجزائريين
اعترفت فرنسا بارتكابها جرائم في حق الجزائريين، لكن دون تقديم أي اعتذارات أو تلميحات بالأسف، ليس هذا فحسب بل تضمن تقرير ستورا، مقترحات وأفكار مستفزة للرأي العام الجزائري، وفي مقدمته العائلة الثورية والنخبة التاريخية.
من بين المقترحات المستفزة التي تضمنها التقرير طلب “التفاوض حول تنقل الحرْكى وعائلاتهم بين البلدين”، وتحديد 25 سبتمبر/أيلول يوما سنويا لتكريم الحرْكى وغيرهم من أعضاء التشكيلات المساعدة في الحرب.
ويعني “الحركي” عند الجزائريين “العميل” أو “الخائن” ويُطلق على الجزائريين الذين حاربوا في صفوف جيش الفرنسي ضد ثورة التحرير في بلادهم من 1954 إلى 1962، إذ خدم 150 ألف حركي في صفوف القوات الفرنسية، واستقبلت فرنسا بعد توقيع وقف الحرب من الحكومة الجزائرية المؤقتة نحو 60 ألف عنصر منهم.
ويشكل مصير هؤلاء الذين قاتلوا في صفوف الجيش الفرنسي ضد ثورة التحرير في بلادهم نقطة خلاف بين البلدين لحساسيتها التاريخية، إذ يرى ماكرون ضرورة سماح الجزائر لهؤلاء بالعودة إلى وطنهم، الأمر الذي ترفضه الجزائر بشدّة.
هذه الجرائم من الصعب على الجزائريين نسيانها دون أن تعتذر عنها فرنسا وتعوّض المتضررين ولو رمزيا
من المقترحات الاستفزازية أيضا، اقتراح “تنصيب لجنة من مؤرخين حول عمليات اغتيال فرنسيين بعد الاستقلال”، وتتهم جهات فرنسية جبهة التحرير الجزائري باغتيال العديد من الفرنسيين إبان خروج فرنسا من الجزائر سنة 1962.
كما يقترح المؤرخ الفرنسي أيضا “تسمية شوارع باسم شخصيات من أقاليم ما وراء البحار”، إضافة إلى فكرة “إعطاء مساحة أكبر لتاريخ فرنسا في الجزائر في المناهج الدراسية”، وهو ما يعتبر بالمقترحات الملغمة، فذلك سيساهم في بث روح الكراهية تجاه الجزائريين في نفوس التلاميذ.
“المصالحة” غير واردة
بالنظر إلى محتوى هذا التقرير الذي يعتبر بمثابة رؤية رسمية لقصر الإليزيه تجاه ملف الذاكرة، يبدو أن المصالحة غير واردة بين البلدين في هذا المجال خلال الوقت الحالي، فهو لم يلب طموحات الجزائريين.
ويعتبر ملف الذاكرة من النقاط البارزة التي ما فتئت تعكر صفو العلاقات الجزائرية الفرنسية نظرًا لعدم نسيان الجزائريين للجرائم الاستعمارية المقترفة في بلادهم خلال حقبة قرن ونصف من الاستعمار، كما أن فرنسا تخشى توجه السلطات الجزائرية بضغط من المجتمع المدني إلى تجريم الاستعمار الفرنسي وما ينجر عنه من تبعات قانونية عليها.
وقبل سنة، اعتمدت الجزائر يوم 8 من مايو يومًا للذاكرة تخليدًا لـ45 ألف جزائريًا قتلوا في مجازر ارتكبها الاحتلال الفرنسي في عام 1945 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لما خرج الجزائريون يطالبون بالاستقلال عن فرنسا الاستعمارية.
ويرى الجزائريون أن المصالحة في ملف الذاكرة يمرّ حتما عبر اعتراف فرنسا بجرائمها في حقّ الجزائريين سواء في الداخل أو الخارج، فضلا عن الاعتذار بصفة تلقائية للشعب الجزائري، ثم التعويض الرمزي لإعادة الاعتبار المعنوي.
دون تحقيق هذه النقاط من الصعب على الجزائريين غلق ملف الذاكرة، فالجراح لم تلتئم بعد، خاصة أن فرنسا ارتكبت في حقهم وحق بلادهم عديد الجرائم التي لا يمكن محوها من مخيلتهم بسهولة.
ومع تعنت مسؤولي باريس ورفضهم الاعتذار خوفا من ردّة فعل اليمين المتطرّف في بلادهم وخشيتهم خسارة الاستحقاقات الانتخابية القادمة، فليس من المرجح أن تخطو العلاقات قيد أنملة إلى الأمام.