في تجسيدٍ عمليٍ لذلك المشهد الشاعري الذي يجمع صورة رفيقين، شاب وفتاة، أمام جدارية حزينة، مكتوب عليها: “رب أرنا كيف نحيي الثورة”، يتجدد الحديث الحالم، في نهاية يناير/كانون الثاني من كل عام، عن الطريقة التي يمكن اتباعها لإحياء الثورة المصرية مجددًا.
المخيال العام المطروح هنا هو أن تزحف ملايين الجماهير المصرية غير المؤدلجة، أفواجًا، إلى ميدان التحرير من جديد، يتقدمها طليعةٌ ثورية شابة، في ساعة صفر محددة سلفًا، حبذا لو كانت ذكرى يناير نفسها، للاعتصام في الميدان مددًا طويلة ومواجهة بطش الأمن بقوة العدد والإيمان الداخلي، مع تجنب تكرار السذاجة السابقة ممثلةً في منح الجيش الثقة لإدارة مرحلة انتقالية، بعد الإطاحة بالسيسي هذه المرة بدلاً من مبارك، ليحل محله أي خيار آخر.. فهل هذا الخيال ممكن بالفعل؟
الشروط الموضوعية
خلافًا للصورة الذهنية الشائعة عن الثورة، حيال كونها قرارًا واعيًا بالكامل متخذًا من أفراد معينين أو تنظيمات أو كتلة شعبية واسعة في وقت محدد سلفًا، ضد تجاوزات النظام الحاكم حينها، فإن المؤشرات والشهادات المتواترة وثوابت علم الاجتماع تذهب ناحية أن هذه المشاهد العالقة بالذاكرة كانت تكثيفًا وتداعيًا لتراكم عدد متراص من الشروط الموضوعية المرتبطة بهذا السياق الزمني، التي قد يكون من الصعب إعادة “توليدها” في سياق جديد كليًا، لمجرد اقتناع شريحة معينة من المشاركين في الحدث بأنه نجح سابقًا والمطلوب فقط هو إعادة استنساخه مع تعديلات بسيطة.
يشرح لنا حسام الحملاوي، أحد الأسماء البارزة في “الاشتراكيين الثوريين”، وأحد الشهود على جملة من الأحداث النضالية المهمة خلال الـ20 عامًا الأخيرة، وناشط معارض من الخارج منذ مدة، في أحد المقاطع المرجعية التي صورها قبل أكثر من عام، تفاعلًا مع إحدى الدعوات السياسية للتظاهر ضد النظام الحاليّ، هذه الفكرة، قائلًا: “على المستوى التاريخي، كانت ثورة يناير ثمرة نضال وطني متواصل، منذ انتهاء الحرب الشرسة بين قوات الأمن والجماعات الإسلامية المسلحة – وهي حقبة مهمة في التاريخ المصري الحديث -، بداية من عام 1998 تقريبًا”.
منذ ذلك التوقيت المفصلي، يعتقد الحملاوي أن أفضل وصف لمنحنى النضال الشعبي ضد السلطة أنه كان “صاعدًا”، على نفس الأرضية القيمية التي أفرزت الشكل النهائي العالق عن الثورة في أذهاننا، من حيث كونها تفاعلًا شعبيًا معارضًا شبه سلمي ضد واحد من أعتى الأنظمة السلطوية العربية، فقد التقى الوجدان النضالي الجمعي في مصر قبل الثورة مع الهم العربي العادل، عمليًا في الشارع، خلال حدثين بارزين مطلع الألفية هما: الانتفاضة الفلسطينية الثانية والمظاهرات الإسلامية واليسارية ضد الحرب على العراق عام 2003.
وبحسب حسام أيضًا، فقد تزامنت ذروة نضوج واشتداد عود الهياكل النقابية والسياسية في مصر قبل الثورة، على غرار حركة “كفاية” ديسمبر/كانون الأول 2004، مع سلوك النظام الحاكم مسارين سياسيين متعارضين نظريًا، لكنهما ساهما في تراكم الخبرة والاستعداد النفسي لدى القيادات العمالية الوسطى التي قادت المشهد على الأرض خلال ثورة يناير، هما: الاستجابة لضغوط واشنطن الداعمة لفتح المجال العام بداية من 2005، ما ساهم في حلحلة قوالب القمع القائمة نسبيًا وترشيد ممارسات الأمن ضد المعارضين إلى حد نجاح الإخوان المسلمين في الفوز بـ86 مقعدًا برلمانيًا، وفي نفس الوقت، مسار الطمع في انتقال السلطة من مبارك الأب إلى مبارك الابن، وهو الأمر الذي أصاب الأجيال الجديدة بإحباط وغضب شديدين.
وعن وقت لاحق لكن متصل بالمناخ السياسي في هذه الفترة، يخبرنا الدكتور عزمي بشارة في كتابه التأريخي والنقدي “ثورة مصر” الذي يعد عصارة 90 لقاءً مع الشباب المشاركين في إخراج مشهد ثورة يناير، أن عام 2008 وحده، أي قبل الثورة بعامين فقط، شهد نحو 86 مظاهرةً، يمكن القول إنها كانت تجمعات معارضة بشكل كافٍ للرصد والإنذار، وهو ما يقودنا إلى الحكم الصريح بأن المرجل كان يغلي بشدة قبل أن يفور في يناير/كانون الثاني 2011.
يناير اللحظة
هذا على المستوى التراكمي داخليًا، أما على مستوى التوقيت، فقد كانت يناير لحظة فريدة ومحظوظة، على الأرجح، بوجود حاكم في البيت الأبيض تنازع مبادئه الشخصية المصالح إلى الحد الذي دفعه للاعتراف أنه على الرغم من افتقاد إدارته لوجود خطة واضحة لدعم الديمقراطية في مصر وخوفه من تأثر مصالح بلاده بسقوط مبارك، فإنه تعاطف مع ما كان يجري في التحرير، لدرجة توبيخ هيلاري كلينتون على بعض التصريحات الصادرة عنها، التي قد يفهم منها دعم مبارك ورفضه منطق مكالمات الضغط القادمة من الخليج “وإسرائيل” عن عواقب سقوط مبارك التي ستؤدي إلى صعود القاعدة وإيران في مصر، لأنه شعر أن هؤلاء الشباب يشبهون أعضاء حملته الانتخابية والشباب الذي أسقط جدار برلين بعد الحرب الباردة.
وبترتيبات القدر المحضة، كما يقول أوباما أيضًا في سيرته الذاتية الأخيرة، فقد ساعد تصدر المشهد في الساعات الأولى من الثورة، جيل جديد من الشباب المصري المتعلم تعليمًا جيدًا والمتبنِي لقيم عامة وعادلة، في تكون انطباع أولي جيد لدى المتابعين في الخارج، بشكل ساهم على الأقل في تحييد الدعم الرسمي الغربي لمبارك، خاصة بعد أن تأخر انضمام الإسلاميين للمظاهرات بعض الشيء، فلو كان بمتظاهري التحرير من يتبنى شعارات مناهضة للغرب بوضوح خلال الساعات الأولى للثورة، لاختلفت الصورة من زوايا كثيرة على رأسها قدرة النظام النفسية على البطش بهم.
ولو رجعنا إلى الساعات الأخيرة قبل اندلاع شرارة الثورة، لوجدنا أن هذا الجيل الجديد من الشباب استطاع توظيف الأداة المتاحة له خلال هذا الوقت، الإنترنت، للتشبيك البيني، بشكل مثالي، فقد كان هذه الأداة منطقة عمياء إلى حد كبير بالنسبة للنظام في هذا الوقت.
في أحد اللقاءات التليفزيونية قبل ثورة يناير، قال وزير الداخلية حبيب العادلي للإعلامي مفيد فوزي أنه، شخصيًا، لا يستخدم إلا هاتف محمول قديم للتواصل الهاتفي مع العائلة، وخلال إحدى الشهادات المهمة أمام المحكمة بعد الثورة، قال العادلي إن جهد الأجهزة الرقابية قبل الثورة كان منصبًا في معظمه على مراقبة المكالمات التليفونية.
ووفقًا لما وثقه وائل غنيم، الناشط الأبرز أيام الثورة وأحد مؤسسي صفحة “كلنا خالد سعيد”، في كتابه المبكر عن الثورة، فإن “الشرط الإقليمي”، ممثلًا في نجاح ثورة تونس، وعبارات: “بن علي هرب” الملهمة، عوامل أدت إلى تحويل منطق “الإيفينتات” الداعية للتظاهر، من التجمع اعتراضًا على ممارسات الشرطة القمعية في عيدها القومي إلى الدعوة لـ”ثورة” ذات مطالب اجتماعية وخطوط عريضة.
وفي نفس السياق، وبالاستعارة من علم النفس، فقد توافرت “المثيرات” اللحظية اللازمة لإشعال جذوة الثورة في هذا التوقيت تحديدًا، وهي الأيقونات النضالية الجامعة التي تعرضت لقهر غير عقلاني من الأنظمة العربية مثل بوعزيزي في تونس وخالد سعيد في مصر.
أما القوة الكبرى التي نظر إليها الجميع بحسن نية، استنادًا إلى السرديات الوطنية التقليدية عن دورها المقدس في التدخل لحماية الوطن، واعتبروها عامل قوة للحراك وبديلًا نزيهًا وآمنًا لما بعد تفكيك الحاشية المحيطة بالرئيس وتبديد سرديته التوريثية، الجيش، فقد امتثلت لتوجيه نظيرتها الأم، في الولايات المتحدة، كما يقول أوباما، بضرورة ضبط النفس وعدم الخوف من قطع المساعدات الأمريكية من جهة، وكانت، منذ البداية، لها تحفظات معلومة على تولي شاب مدني للرئاسة ومن ثم قيادة الجيش مثل جمال مبارك، من ناحية عدم استحقاقه أولًا واحتمال تهديده شبكة المصالح العسكرية بعلاقاته مع رجال الأعمال المدنيين ثانيًا، ما ساعد على إخراج مشهد: تنحِي مبارك وتولي المجلس العسكري مسؤولية إدارة المرحلة الانتقالية في هذا التوقيت.
ما الذي تغير؟
ربما يتعين علينا الاعتراف أنه خلال العامين، الأول والثاني الذين شعرنا خلالهما أحيانًا بالانتصار الكامل للثورة، والأعوام الثمانية الأخيرة التي أيقنا خلالهم أننا هزمنا على غرة، خلال هذه الأعوام العشرة تغير كل شيء تمامًا، لقد سحقنا المعسكر المضاد، بعد أن استشعر الخطر منا ولم نجهِز عليه.
يقول حسام الحملاوي الذي يعد الآن رسالة دكتوراة في إحدى زوايا تفكيك وفهم بنية الأمن المصري، إننا، منذ عام 2014، لم نعد قادرين على تنظيم أي مظاهرة أو وقفة حتى عند الأماكن ذات الرمزية النضالية مثل درج نقابتي المحامين والصحافيين.
ليست المشكلة في عدم تنظيم المظاهرات نفسها، بقدر ما أن الوضع، كما يرصد الحملاوي، بات مفروضًا علينا، خاصة بعد تبني النظام الحاليّ رؤيةً لتفكيك الهياكل النقابية، ساعدته في تنفيذها، بشكل ما، بعض القيادات التاريخية لهذه النقابات. هذه الهياكل هي التي أمدت ثورة يناير بالقيادات العمالية الوسطى التي قادت الحراك في الشارع ونفذت الإضراب عن العمل، مع السيطرة على المواقع المهمة بنفس الوقت، في مرحلة متأخرة من الثورة قبل التنحي، وهي التي قادت الحراك ضد النظام في السودان لمدة عام، حتى نجحت في إسقاطه 2019.
بالإضافة إلى ذلك، وفق مضمون مراجعة الحملاوي لهذه المرحلة، فإن تكرار مشهد يناير الأول، كما وقعنا أسرى له، لم يعد مواتيًا، لأن جيل يناير سحق تمامًا، ما بين مقتول أو مصاب أو معتقل أو مطارد أو في حاجة إلى تأهيل نفسي، وما نعيش معه الآن، في هذه الفترة، هو جيل انتقالي وسيط يعاني، بمفهوم علم النفس الاجتماعي، من اضطرابات في الهوية وحالات إصابة بكرب ما بعد الصدمة، هذا الجيل لم يعد يمتلك أفقًا نفسيًا لتكرار نفس المحاولة من جديد.
بعيدًا عن كلام الحملاوي الذي ركز على التشريح الداخلي لحالة الثورة، فإنه في المقابل من هذه الهزيمة، هناك تغيرات طرأت على وعي وسلوك ذلك الخصم الذي واجهناه في يناير، صار أقوى من ذي قبل، فمن خلال معادلة الاقتصاد السياسي الحاليّة، التي تقوم على المشروعات الإنشائية العملاقة الممولة بقروض خارجية، استطاع السيسي تحقيق عدة أهداف، تتقاطع مع طموحه في إجهاض تجربة إعادة إحياء يناير من جديد.
الهدف الأول هو تكوين شبكة تحالفات خارجية فريدة وغير مسبوقة ترتبط مصالحها الضخمة، بنيويًا، بوجوده على رأس السلطة، بما يجنبه التعرض لأي ضغوط كبرى لتحسين الوضع السياسي، وهو ما لم يتنبه له نظام مبارك الذي كان شائخًا يغط في سباتٍ عميق، فالصين تساهم الآن بجزء من الكعكة في العاصمة الإدارية الجديدة وروسيا حصلت على نصيبها في المحطة النووية ومحور قناة السويس وأوروبا في مشروعات الطاقة وصفقات السلاح.
ابتعد السيسي قليلًا عن الولايات المتحدة التي تتسم بوجود جماعات الضغط، والمجتمع المدني المفتوح والإعلام الحر، وقرر أن يوطد علاقته بها بشكل غير مباشر، أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا، عبر دولة الاحتلال، فأنشأ رابطة بنيوية معها، لتتدخل “إسرائيل” بنفسها، عبر جماعات الضغط الخاصة بها في واشنطن لحمايته إن لزم الأمر.
تجلى ذلك في موافقة الاحتلال على شرائه طائرات فرنسية متطورة، لأنها، على حد قول موشيه يعالون، ستستخدم ضد أعداء مشتركين، واستيراد مصر ملايين الأمتار المكعبة من الغاز الفلسطيني المسروق لمدد طويلة بمليارات الدولارات، رغم تحقيق الاكتفاء الذاتي منه، وبأسعار أعلى من سعر السوق، ليوافقوا له مجددًا على شراء غواصات ألمانية متطورة لاستخدامها ضد النفوذ التركي، انتهاءً بقبوله بارتباط الاحتلال بالجغرافيا الاقتصادية والسياسية العربية، عبر عدة مشاريع، منها ما قد يضر بمصر مثل نيوم والشام الجديد وسكك حديد البحرين.
من خلال هذه المعادلة، أدرك السيسي، أيضًا، أنه يمكنه ممارسة بعض “الجسارة”، إن جاز التعبير، ضد الدول الغربية كما فعل مع فرنسا والاتحاد الأوروبي أكثر من مرة، حال تعرضه لانتقادات في ملف حقوق الإنسان ومطالبته بإصلاحات داخلية يتوجس من تأثيرها على استقرار نظامه، خوفًا من تكرار تجربة مبارك، مستغلًا قدرته على معالجة الهواجس الأمنية التي تهم الغرب بالأساس، مثل حماية الأقباط وخطر الإرهاب والهجرة غير الشرعية من جهة، ومعرفة أن الغرب بات أقل حماسًا للتدخل في الشؤون الداخلية للدول في الشرق الأوسط، بعد ما رأوه من عواقب هذا التدخل، من فوضى وتنظيمات مسلحة وسيادة للأنشطة غير المشروعة، في ليبيا وسوريا من جهة أخرى.
الْهدف الثاني من رؤية الاقتصاد السياسي التي يتبناها السيسي، هو بيع تصور للشعب المصري مفاده أنه من خلال هذه المشروعات العملاقة العاجلة، نجح في كبح حماقتهم التي كادت تودي بالبلاد، عبر حل المشاكل التي ثاروا على مبارك من أجلها، مع فارق بسيط هو دفع فارق التكلفة المالية والسياسية التي كان يخشى سابقوه من دفعها، بما ساهم في حل بعض المشكلات المزمنة التي كانت تؤرق المجتمع مثل ضعف التشغيل، فالمشروعات القومية توفر أعدادًا كبيرة من فرص العمل، وتحسين جودة النقل والطرق والقضاء على الظواهر التي كانت تسيء إلى الوجه الحضاري للبلاد مثل العشوائيات والبناء غير المنظم وتعظيم الموارد المائية والطاقة وتطوير الجيش.
في ضوء هذا الهدف أيضًا، يمكن فهم سعي السيسي الدائم إلى إبراز اختلافه عن مبارك، إيجابيًا، للمصريين في شأن إدارة الدولة عبر ممارسات مفتعلة مثل اعتياد قيادة الدراجة فجرًا التي تعطي انطباعًا عامًا عن صحته ويقظته وتفانيه في العمل، خلافا لمبارك الذي كان قليل الظهور الإعلامي، وبالأخص في أيامه الأخيرة بسبب تردي وضعه الصحي، ثم المبالغة في الاهتمام الخطابي والعملي بالدول التي شهدت اضطرابات سياسية وأمنية مؤخرًا للإيحاء بفاعلية تجربته في إدارة البلاد وعمليتها مقابل سذاجة وعدم مسؤولية مشاريع التغيير التي راجت في أماكن أخرى.
أخيرًا، توريط الجيش في إستراتيجيته المحلية لإدارة البلاد بشكل ترغيبي تارة عبر توزيع المنح والعطايا خلال إشراف الجيش على هذه المشروعات وترهيبي، أيضًا، من خلال نفس الطريقة لكن بصورة معكوسة، وهي تعميم الممارسات غير المشروعة على مستوى واسع داخل الجيش وردع أي قيادة عسكرية نزيهة أو طموحة عن التفكير خارج المسارات الاقتصادية التي رسمها، بسبب تشعبها وتعقيدها ووجود تفاصيلها عنده حصريًا.
في محاولة مبكرة منه للإيحاء بوجود علاقة عضوية بين شخصه وباقي المؤسسة تقلل لاحقًا فرص تهديده من الجيش كما جرى مع مبارك، تعمد السيسي الترشح للرئاسة بالبذلة العسكرية، بالمخالفة للتقاليد الخاصة بهذا الإجراء، وقال في أكثر من تصريح علني أمام قادة الجيش: هؤلاء القادة اجتمعوا في الفترة من 2013 لـ2014 لاختيار أفضل الكفاءات القادرة على تحمل مسؤولية إدارة البلاد، فوقع عليه الاختيار.
وحتى ندرك فروق الوعي الاستبدادي التي تراكمت في الانتقال من نظام مبارك إلى نظام السيسي، على مستوى التحرز من تكرار تجربة يناير مجددًا، إلى الدرجة التي دعت مبارك نفسه للقول إن “السيسي طلع عقر” (حاذق وماكر)، لنتأمل الفرق بين عدم انتباه نظام مبارك لخطر مواقع التواصل الاجتماعي ونظام السيسي الذي ينوع أساليبه القمعية في هذا المجال: حجب المواقع المهمة ورعاية اللجان الإلكترونية وإظهار الحرص الدائم على متابعة ما يدور في هذه المواقع من السيسي نفسه أو وحدة الرصد الجديدة التابعة للنائب العام الأخير.
نقاط الضعف
ليس المراد من هذا العرض المبالغة في قوة النظام أو الاستهانة بقوة معارضيه وتكريس الهزيمة، لكن المراد هو تبين موضع قدم كل طرف، بموضوعية، لنستطيع تفسير ما يحدث منذ 8 أعوام والتنبؤ، في حدود ما هو ممكن، بما هو قادم، وبطبيعة الحال، فإن نظامًا كهذا لا بد أن يكون له الكثير من نقاط الضعف.
تكمن أبرز نقاط ضعف النِظام في واحدة من أكثر السرديات شيوعًا منذ بروزه على السطح مع الانقلاب العسكري، يوليو/ تموز 2013، وهي: الشعبية الجارفة.
لا يمكن بطبيعة الحال، التأكد بدقة من تفضيلات الرأي العام المصري في ظل غياب تام لأي انتخابات نزيهة واستطلاعات رأيٍ محدثة وعلمية، لكن يمكن الجزم بأن أسطورة الـ30 مليون متظاهر الذين نزلوا إلى الشوارع ضد حكم الإخوان في الـ30 من يونيو/حزيران كانت فريةً كبرى، فقد أثبتت الجزيرة من خلال تحقيق استقصائي قصير، بالأدلة، أن عدد المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشوارع، منذ ثورة يناير حتى، بالكاد وصلوا إلى بضعة ملايين.
وبغض النظر حتى عن تحقيق الجزيرة، فإن نظامًا عجز عن حشد عدد مرضٍ من الناخبين في أول انتخابات رئاسية بعد الانقلاب العسكري، بين السيسي وحمدين صباحي، إلى درجة اللجوء لترهيب الناس في مآذن المساجد بالقرى بالغرامات والحذف من بطاقات الدعم ومد مدة الاقتراع يومًا إضافيًا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر سوق آلاف العاملين بالدولة وشركات رجال الأعمال في الحافلات، هو نظام غير مرغوب بالبداية، إلا من شريحة عمرية واجتماعية بعينها، دون بقية المصريين، وإذا كان الأمر هكذا مع ذروة صعود الجنرال، فما بالك بعد سنوات من مراكمة الديون ورفع الأسعار وجباية الضرائب؟
ورغم القبضة الأمنية المشددة المستمرة منذ نحو عقد، بشكل غير مسبوق، وتجفيف ضرع المجتمع من التنظيمات المدنية والمسلحة، فإن هناك شعورًا عامًا لدى المصريين، أن هذا الاستقرار، وإن كان أفضل من الفوضى بالطبع، فإنه استقرار مزيف، مصطنع تمامًا.
شعور عام بتوقف الزمن منذ ثورة يناير وسيادة حالة من “الاستثناء”، فما زالت السلطة بعد كل هذه السنوات تمنع جماهير كرة القدم من دخول المدرجات، وإذا سمحت بذلك لأسباب خارجة عن إرادتها فإنها تهرع لاعتقال شاب بتهمة رفع علم فلسطين، وما زالت تستنفر كل طاقاتها كلما سمعت عن محاولة جادة للانتحار الجماعي بالتظاهر ضدها، في أي بلد طبيعي في العالم يحدث هذا؟
ويرتبط هذا النظام الهش، وهذا من أسباب هشاشته، بشخصٍ واحد معين هو صاحب الانقلاب وطالب التفويض ومقرِر المجازر ومدعي الشرعية، ونتيجة لهذا الارتباط العضوي، لم يستطع النظام ولن يستطيع على الأرجح، تجهيز بديل دستوري سلس، حال تعرض السيسي إلى أي طارئ، يحول دون إمكان استمراره في أداء مهامه.
لن يعدم الجيش بالطبع من رجال يشبهون السيسي في بطشه وأنانيته، وهو يحاول بالفعل ترك البلاد لمن سيخلفه، قادرةً على الاستمرار في حالة الاستثناء: مدن جديدة محصنة وقلاع إستراتيجية وقوات تدخل سريع لمكافحة التمرد وجيش خبير في قتال المسلحين وقواعد بيانات محدثة عن كل شاردة وواردة، لكن المشكلة أن الثقل كله، محليًا وإقليميًا، يحتكره السيسي، وليس هناك أي مؤشرات جادة إلى الآن عن تقاسم هذا الثقل مع أي شخص. في أحد الأوقات المفصلية من تاريخ هذا النظام، استغاثت إحدى مؤيداته قائلة: “انقذ مصر يا سيسي”، تكثف هذه الصرخة الشهيرة ورطة هذا النظام إذا حدث للسيسي أي مكروه.
يؤدي انفراد السيسي وحده بمقاليد الحكم، وتهميش أي أشخاص خارج دائرته المقربة، إلى أزمات حادة له، وللنظام بالكامل، فقد خالف السيسي التوصية البيروقراطية بعدم التوقيع على إعلان المبادئ الثلاثي الخاص بسد النهضة، فوجدت مصر نفسها تتفاوض على “الملء والتشغيل” بدلًا من الوقوف عند نقطة مشروعية بناء السد دون موافقة دولتي المصب منذ البداية، وخالف التوجيه الفني في قضية ترسيم الحدود مع السعودية، ليجد النظام المحتكر للوطنية نفسه يدافع عن التفريط في جزيرتين إستراتيجيتين لدولة أخرى، كما تتسبب الطريقة غير الاحترافية في إدارة الأزمات من نظام “استثناء” كهذا إلى تورطه في أزمات جديدة، مثلما حصل مع المكسيك، عندما رفض محاسبة طيارين مصريين قتلوا سياحًا مكسيكيين بالخطأ، ومع إيطاليا عندما بالغ ضباط الأمن الوطني في تعذيب الباحث الإيطالي جوليو ريجيني إلى حد قتله يناير 2016.
ومع الإقرار بنجاح السيسي في توظيف أطروحته الاقتصادية لتوريط الجيش ضمن معادلة يصعب الفصل فيها بين الرئيس والمؤسسة العسكرية إلى حد كبير، فإنه، ما زال أمام بعض أبناء الجيش الطموحين مساحةٌ للتحرك أو للمقامرة إن أردنا الدقة، ضد الرئيس المنقلب.
فبحسب إحدى المواد المرئية التي تحوي مناقشات مبكرة عن الوضع في مصر بعد الانقلاب، من ترجمة “خالد سعيد نسخة كل المصريين”، فقد قال السيسي للأمريكيين إن هناك شرائح من الضباط غير راضية عما قام به ضد التجربة الديمقراطية، وإن وجودها بهذه القناعات سيستدعي منه عملًا مقابلًا، هو الاستئصال، ومع الإقرار أيضًا بنجاحه في إجهاضها، فإن عام 2018، كان شاهدًا على هذه المساحة الممكن للضباط التحرك فيها، سواء بدوافع تصويبية صادقة، أم ضمن التنافس الطبيعي على حظوة الحكم، كما حدث مع الضابط المهندس أحمد قنصوة وقائد السيسي السابق سامي عنان وقائد سلاح الجو السابق أحمد شفيق.
وبنسبةٍ أقل، قد تضطر المؤسسة نفسها إلى التخلص من الرئيس في وقتٍ ما واتخاذ خطوات تصحيحية إذا توافرت الشروط الموضوعية الأساسية للقيام بذلك أو إذا كانت، بمعنى أدق، كلفة بقاء الرئيس أفدح من ثمن التضحية به، وللمفارقة، فإن التعديل الدستوري الأخير الذي طرحه السيسي يخوِل للجيش القيام بالتحرك ضد الرئاسة حفاظًا على الثوابت الرئيسية للدولة والمجتمع، وقد حاول المتظاهرون، بذكاء لافت، منذ عام عزل السيسي عن الجيش عبر تركيز الأزمة فيه شخصيًا، لجس نبض الضباط من هذه الناحية، وهو ما كانت آن باترسون السفيرة السابقة لواشنطن في القاهرة قد طرحته من قبل: أن الجيش قد يضطر للتخفف من السيسي في وقت ما إذا شعر الضباط بتورطهم فيه وتهديده لوضعهم في المجتمع.
ومن باب الإنصاف، فإن المعارضة المصرية في الخارج لا تزعج السيسي إلى حد مطالبته، أكثر من مرة، بتعطيل التقنيات التي تسمح بتداخل بث المحطات التابعة للمعارضة مع مدار عمل القمر المصري وحسب، بل نجحت في تكبيده أكبر ضربتين تلقاهما منذ الانقلاب، الأولى هي التسريبات الشهيرة من داخل الاجتماعات الأمنية رفيعة المستوى، والثانية في إدارة معركة “المقاول” الذي بدد سرديات السيسي عن نزاهته الشخصية والوطن الفقير، وتسبب في حالة ذعر غير مسبوقة للنظام، دافعًا السيسي للحشد المضاد دون جدوى، ومضطرًا إياه للتراجع أمام الموجة بتيسيرات اقتصادية سبتمبر/أيلول 2019، وبتعديلات جوهرية في طريقة تعامل النظام مع ملف مخالفات البناء نفس الشهر 2020.
البدائل
وفق هذا البناء، كانت يناير حدثًا مهيبًا ومزلزلًا، لكن لم يعد مخيال إنتاجها كما هي منذ 10 أعوام واقعيًا، وعلى الأرجح لن يكون ممكنًا في المستقبل القريب، بينما كانت تقديرات قوات الشرطة، بحسب خلاصةٍ بحثية خرج بها الباحث في العلوم الأمنية أحمد مولانا عن “دهاليز الأمن المركزي” تقول إن عدد المتظاهرين المحتمل نزولهم في 2011 نحو 5 آلاف شخص فقط، ومن ثم كان نزول الآلاف مرعبًا لقوات الأمن التي لم تستعد لهذا المشهد، فإن السيسي، يشدد الآن، في الذكرى العاشرة للثورة، على إعادة تجديد كل المقرات الشرطية في البلاد وتحديث كلية الشرطة، بالتزامن مع كمائن وسط البلاد لتفتيش هواتف المارة، رغم عدم وجود دعوات للتظاهر أصلًا.
في أحد المقاطع المرجعية، يتساءل الإعلامي عمرو أديب، مستنكرًا، عن السبب الذي قد يدفع النظام الحاليّ للجلوس على طاولة المفاوضات مع المعارضة في أي وقت مستقبلًا، مشيرًا إلى أن رافضي النظام – رغم نقاط ضعف هذا النظام – لا يمتلكون أي أوراق تجبره على التفاوض، فضلًا عن تقديم تنازلات.
يخبرنا هذا المقطع المهم بما علينا فعله، بعد أن نقر بهزيمتنا أمام أنفسنا، ولا نخجل من ذلك ولا نتكبر على هذا الاعتراف، وهو: أن نراكم القوة حتى نستطيع إجبار النظام على التفاوض أو دفعه إلى مسارات غير متوقعة تعيد، بعد اختمار ظروفها، إنتاج الثورة لكن بشكل جديد، بعيدًا عن الخيال القديم الذي صار كثيرٌ منا محبوسين داخله.
بمفهوم المفكر الإصلاحي المعتقل أيمن عبد الرحيم، فإنه رغم تجفيف منابع العمل العام داخليًا، وغياب أي بارقة أمل تدفع في اتجاه احتمال حدوث انفراجة، فإن “سقف الممكن لا يزال كبيرًا”، على الأقل من الخارج في هذا الوقت.
يمكن كتابة عشرات التوصيات والقيم الحاكمة عن سؤال واجب الوقت ومسؤولية المعارضين في الخارج تجاه الوضع السياسي في مصر، لكن أهم الملفات التي يمكن العمل عليها حقًا، هي: الاستقلال الإعلامي والمالي والإداري عن الدول الداعمة، وهو أمر لا يعني أبدًا الانقلاب عليها أو التنصل من الاعتراف بفضلها، بالإضافة إلى توثيق هويات المجرمين من القيادات السياسية والفاعلين الأمنيين على الأرض والتوعية بدور مفاهيم الصحة النفسية في التعافي من “التروما الجماعية” التي أصبنا بها جميعًا والتنقيب عن المسارات القانونية الممكنة لمطاردة قيادات الانقلاب في الخارج وتكثيف الدراسات الأكاديمية الباحثة في تفكيك بنى النظام ومعرفة نقاط ضعفه والتنبؤ بمستقبله خاصة الدراسات المستقبلية.
ولعل من أهم المبادرات التي تلاقت مع هذه الملفات الحيوية المندرجة تحت مظلة “سعة سقف الممكن” مؤخرًا، مؤسسة “نحن نسجل” التي تعمل بجهود تطوعية بشكل شبه كامل، على توثيق هويات المجرمين والضحايا بعد الانقلاب العسكري وتوفير معلومات موثوقة عما يجري داخل السجون، ومنصة “الموقف المصري” التي باتت صوتًا رصينًا للمعارضة المصرية، ونسخة منقحة – بخطاب جامع إلى حد كبير – من صفحة “كلنا خالد سعيد”، وموقع “مدى مصر” الذي يناضل مديروه من أجل تقديم تغطية صحفية مهنية لأوضاع الداخل المصري بعيدًا عن إملاءات النظام.
بالإضافة إلى نجاح الناشط المصري والمعتقل السابق محمد صلاح سلطان في التقاط خيط إمكانية مقاضاة رئيس الوزراء المصري إبان مجزرتي رابعة والنهضة، حازم الببلاوي، في أمريكا، مما أسفر، لاحقًا، وبعد جهود متشابكة، عن الإفراج عن مجموعة كبيرة من أقاربه القابعين في السجون المصرية. بمثل هذه الجهود الراشدة، التي تركِز على الملفات النوعية، يمكن، بمرور الوقت ونضوج الظروف، المساهمة في إدراك مسارٍ ما للتغيير، دون التقيد بأسر مخيال يناير الأولى بحذافيرها.