كانت الرحلة رقم 13 لسفينة “إيجوز” مهيأة لمأساة حقيقية، فعلى الرغم من حالة الباخرة المتهالكة وافتقارها لقوارب نجاة ووسائل اتصال ملائمة، فضلًا عن هيجان البحر ذات ليلة عاصفة، سُمح لها بالإبحار بحمولة زائدة، فقضى ركابها الـ44 غرقى.
لم تكن تلك حماقة ارتكبها جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، لكن الإهمال كان متعمدًا، إذ إن الكيان حديث العهد كان يخطط يومها لحدث مثير في المغرب، فلماذا اختار جهاز الموساد التضحية بهؤلاء المغاربة اليهود العزل الذين وعدتهم الصهيونية بأرض جيدة وواسعة تفيض لبنًا وعسلًا؟ علما بأن معظمهم كانوا سيصيرون جنودًا يستخدمهم الاحتلال كحزام أمان ضد الثوار الفلسطينيين، بعد أن زعمت بأن فلسطين أرض بلا شعب، للدفع بهم نحو الهجرة.
في البدء كان التهجير سرًا
يمكننا تقسيم هجرة اليهود المغاربة إلى ثلاث مراحل: تمتد أولها من إعلان الكيان الإسرائيلي عام 1948 وحتى حصول المغرب على استقلاله عام 1956، حينها هاجر بشكل سري أكثر من مئة ألف يهودي مغربي إلى “إسرائيل”، بيد أن مئة ألف يهودي كانوا لا يزالون في المغرب، وخلال الفترة الثانية الممتدة من 1956 إلى 1961، خرج نحو 25 ألف يهودي من المغرب بشكل سري أيضًا.
وظل التهجير سريًا إلى أن غرقت “إيجوز” (أي الحوت بالعبرية)، وهي الباخرة التي استأجرها جهاز الموساد عام 1960 لتنقل اليهود من المغرب نحو جبل طارق ومن ثم إلى “الوطن الموعود”، ولم تكن هذه الباخرة بحالة جيدة، حيث خضعت لإصلاحات شاملة، ومع ذلك حامت شكوك حول سلامة السفينة للقيام بهذه الرحلة لكنها كانت الوحيدة، وقد نجحت في الإبحار سرًا 12 مرةً، حيث نقلت على متن كل رحلة ما بين 40 إلى 50 شخصًا.
عاصفة هوجاء أنهت حلمهم
برد شديد وظلام دامس، انتظر المغاربة اليهود الـ44، رجال ونساء وأطفال، وصول الباخرة المتهالكة التي رست على شاطئ مدينة الحسيمة يوم الـ10 من يناير/كانون الثاني 1961، وآخر حلمهم كان أن يروا شواطئ الوطن الذي وعدتهم به الحركة الصهيونية، لكن بعد ساعتين من الإبحار لم ينج أحد منهم، بعدما هبت عاصفة هوجاء لم تكن في الحسبان.
لم تقو إيجوز على مقاومة الأمواج العاتية، وفي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل لم يظهر لها أثر، وقبيل ذلك استحوذ قبطان الباخرة وطاقمه الإسباني على قارب النجاة الوحيد ولاذوا بالفرار تاركين اليهود العزل يصارعون الغرق، وحدث أن صادف القبطان قارب صيد بث من خلاله برقية نجدة، كما فعل ذلك عميل للموساد، فتحركت مراكب من إسبانيا وجبل طارق والجزائر والمغرب لإنقاذ الغرقى، لكن الآوان كان قد فات، حيث غرق الجميع ولم يتم العثور إلا على 22 جثة ضمنهم 16 طفلًا بينما فُقد الباقون في عرض البحر.
تأليب الرأي العالمي ضد المغرب
قبل الكارثة، عقدت اجتماعات في مكتب وزيرة الخارجية الإسرائيلية غولدا مائير، حينها اتفق الجميع على حدوث شيء مثير في المغرب، وقالت غولدا مائير يومها: “يتحتم على “إسرائيل” أن تقوم بعملية تؤدي إلى صدمة في المغرب، حتى ولو كلف الأمر موت العديد من المواطنين اليهود العزل”، لهذا استأجر الموساد سفينة غير صالحة، صحيح أنهم لم يغرقوها لكنهم كانوا على دراية بأنها سوف تغرق في البحر.
“إسرائيل” كانت تسعى إلى تأليب الرأي العالمي ضد المملكة المغربية، من أجل إجبار العاهل المغربي على السماح ليهود مملكته بالهجرة الجماعية، رغم أن رأيه كان إيجابيًا لليهود حيث سمح لهم بالهجرة سرًا.
أيام حرب الاستنزاف وتصاعد خطاب القومية العربية، مارس جمال عبد الناصر ضغوطاته على الملك الرحل محمد الخامس حتى يتدخل لوقف هجرة اليهود، فقد حذره قائلًا: “كل يهودي تسمح له بالهجرة سيصبح جنديًا”، ورغم أن الملك المغربي لم يرفض طلب الرئيس المصري، استمرت الهجرة السرية من المغرب نحو “إسرائيل” تحت رعاية السلطات المغربية بشكل غير رسمي من خلال سياسة التساهل.
الموساد خطط لتقديم شهداء يهود
بعد مأساة إيجوز، خرجت جميع الوقائع التي كانت طي الكتمان إلى العلن، إذ حدثت ضجة عالمية وكتبت الصحف الغربية والعالمية عن الحادث المأساوي، مشددة في تقاريرها على أن اليهود الذين أرادوا الهرب من البلد العربي الإسلامي ماتوا في البحر، وهو الأمر الذي أدى إلى تأليب الرأي العام العالمي ضد المغرب.
الكارثة خلفت صدمة في أواسط اليهود المغاربة، خاصة لدى أولئك الذين فقدوا أقاربهم في البحر، وأدركوا حينها أن مخاطر حقيقية تحدق بالهجرة السرية، ولم تقف حدود هذه المأساة التي تعرض لها اليهود عند حدود المغرب، الذي حصل للتو على استقلاله، بل امتدت إلى سائر بقاع العالم، وهو ما خلف انطباعات متفاوتة، ومن جانبها وقفت السلطات المغربية بنفسها على حقيقة التبعات الخطيرة لغرق باخرة إيجوز.
ضحايا إيجوز
هكذا قدم الكيان الإسرائيلي شهداءً يهودًا من خلال السماح لسفينة متهالكة بالإبحار في جو هائج، كما سعى الموساد إلى تنفيذ أعمال إرهابية ضد اليهود وإلصاق التهمة بالسلطات المغربية لكي تسمح للحركة الصهيونية باستجلابهم إلى فلسطين المحتلة، لكن بعد فترة قصيرة اعتقلت السلطات المغربية شابين يهوديين مغربيين، من عملاء الموساد، وخلال التحقيق معهما توفيا إثر التعذيب، كما أن شابًا ثالثًا قتل في السجن نتيجة التعذيب، وهذا حدث آخر استغله جهاز الاستخبارات الخارجي الإسرائيلي للضغط على المغرب.
نهاية الوجود اليهودي
يومها كان الملك الراحل الحسن الثاني حديث عهده باعتلاء العرش منذ مارس/آذار 1961، فأجريت مفاوضات معه من أجل السماح لليهود المغاربة بتلبية نداء حنينهم إلى “بلاد الملك سليمان والملك داوود”، فكانت النتيجة أن استجاب لطلب “إسرائيل” بتهجير اليهود.
هنا يأتي الطور الثالث والأخير من هجرة اليهود المغاربة نحو فلسطين المحتلة، أو ما يعرف باسم عملية “ياخين” بدءًا من نوفبر/تشرين الثاني عام 1961 إلى 1966 حيث شكلت مرحلة الهجرة القانونية التي تمكنت من ترحيل نحو سبعين ألف يهودي مغربي إلى أرض الميعاد عبر دولة ثالثة، لا سيما فرنسا وجبل طارق.
كان ذلك إعلانًا عن نهاية ما يقارب ألفي عام من تاريخ الوجود اليهودي في المغرب، فقد بقيت قلة قليلة لم تأبه للدعاية الصهيونية، أما الذين التحقوا بالكيان الإسرائيلي، فقد اكتشفوا فيما بعد انطلاء الخدعة عليهم، فما كانوا ليهاجروا من وطنهم المغرب لو أنهم عرفوا مسبقًا ما كان في انتظارهم هناك.