لا يُذكرون إلا مجرد رقم وحصيلة عددية ضمن من استشهدوا أو أصيبوا أو فقدوا حرياتهم في أحداث ثورة يناير، لم تذكر أسماؤهم، ولم ترفع صورهم، لم تنشر الصحف والمواقع الإلكترونية قصصهم، ولم تذكر الفضائيات تضحياتهم، ولم تحمل مواقع التواصل الاجتماعي صورًا من معاناتهم ومآسي أسرههم، ولا تأتي عليهم المنظمات الدولية الحقوقية إلا كمجرد رقم يضم عشرات الآلاف من ضحايا ثورة ذهبت أدراج الرياح.
لم تدشن الهاشتاغات للمطالبة بحرية المعتقلين منهم والقابعين خلف القضبان، ولم تجد قصص شهدائهم من يرويها أو يسمعها، فيما ظل المصابون الذين يعاني الكثير منهم من عاهات مستديمة وصلت إلى الشلل الرباعي، يبكون في صمت ويتحسرون على ثورة أضاعها من أضاعها، وأضاع معها تضحياتهم بلا ثمن، ثم زادوا فلم يذكروهم أو يعبأون بهم في أي محفل كان.
وفي قصصهم ومآسيهم ما يُحكى وما يبكي، ما يثير الشجن والأسى، وما يملأ سطور آلاف الكتب من التضحيات الرائعة لأناس ناضلوا وكافحوا من أجل وطن حر، وواجهوا أعتى سلطات القمع والاستبداد والفساد بكل شجاعة وجسارة، باذلين في ذلك أرواحهم وأنفسهم وحرياتهم وأموالهم، غير عابئين بمآل الوقوف في مواجهة أشرس أجهزة القمع، ودون أن يكون لهم مطمع في سلطة أو منصب أو جاه أو مال أو مجد أو شهرة، فقد كانت كل أحلامهم أن يعيشوا في وطن حر يحفظ كرامتهم ولا يمتهن إنساينتهم، ينعمون فيه بالعدل بعيدًا عن كل ألوان الظلم والقهر والاستبداد.
في السطور التالية نقرأ بعض الصفحات الحزينة من قصص أبطال وفرسان الثورة المجهولين.
محفظ القرآن خلف القضبان
تتذكر عائشة، تلك الفتاة التي لم تكمل الـ17 ربيعًا، حال بيت أبيها الشيخ مراد منذ ثماني سنوات، حين كان يدوي آناء الليل وأطراف النهار، بقراءة القرآن الكريم، وكيف كان يأتي إليه عشرات الصغار في الصباح الباكر، في الغرفتين اللتين خصصهما أباها كدار تحفيظ، فيما يأتي الشباب مساءً لتعلم أحكام التجويد، بينما تعج الدار بالحركة والحياة ولا تخلو ممن يطرق الأبواب من الفقراء وذوي الحاجات، وكيف أصبحت مقفرة لا يعلو فيها إلا صوت أمها الذي كان خفيضًا، محاولة أن تزجر أخواتها الأربعة الصغار.
ولم يكن الشيخ مراد الذي عمل عقب تخرجه من الجامعة محفظًا للقرآن الكريم، يعبأ يومًا بالسياسة أو شؤونها، وكان جل اهتمامه ينصرف إلى تحفيظ وتعليم كتاب الله، والعمل التطوعي في إحدى الجمعيات الخيرية، لا يستنكف فيه عن حمل البضائع واللحوم والخبز وسائر الأغذية والملابس للفقراء والمحتاجين.
كان الشيخ مراد رجلًا حازمًا شديد الجانب، يخشاه الكبار قبل الصغار لجرأته في الحق كحد السيف، ومع شدة بأسه كان محبوبًا، كثير التبسم بوجهه الأبيض الممتلئ الممزوج بحمرة وعينيه الخضراوتين.
الرجل الذي لم ينتم يومًا إلى حزب أو جماعة، وجده نفسه في منتصف أغسطس 2013، وسط النيران والدماء والأشلاء، اعتقله جنود مدججون بالسلاح، ليقاد إلى مكان مجهول ولا يظهر إلا بعد شهور، مواجهًا قائمة من التهم
ومع انهيار التعليم في نهاية عصر مبارك، كان كثير من التلاميذ ينهون التعليم الابتدائي وهم يجهلون القراءة والكتابة، وكثيرًا ما يلجأ آباهم إلى الشيخ مراد الذي ينجح خلال شهور في تحقيق ما عجزت عنهم مدارس مبارك في سنوات.
انخرط الشيخ مراد خلال ثورة يناير في العمل العام، وقاد اللجان الشعبية لحماية الأمن في قريته الصغيرة وحمل أنابيب الغاز على ظهره للناس، وساهم في إدارة مخابز العيش، ورغم انتقاداته الشديدة ومآخذه الكثيرة على نهج وسياسات جماعة الإخوان المسلمين، سارع بالمشاركة في اعتصام النهضة الذي بدأ قبل إطاحة الجيش بالرئيس الراحل محمد مرسي.
غير أن الرجل الذي لم ينتم يومًا إلى حزب أو جماعة، وجده نفسه في الـ14 من أغسطس/آب 2013، وسط النيران والدماء والأشلاء، اعتقله جنود مدججون بالسلاح، ليقاد إلى مكان مجهول ولا يظهر إلا بعد شهور، مواجهًا قائمة من التهم، وتظل قضيته بين أروقة المحاكم أكثر من أربع سنوات، ليجد بعدها الصدمة بحكم 15 عامًا، ولم تكن محكمة النقض أكثر رأفة فأيدت الحكم سريعًا، وانتقل الشيخ المحفظ من سجن أبو زعبل إلى سجن المنيا في تغريبة أذاقته وأذاقت أسرته المرار وأي مرار.
لا تذكر قصة الشيخ مراد ولا يطالب أحد بحريته سوى أهله وأصدقائه وتلاميذه، ودون ذلك لا يلقى الرجل ولا أسرته أي دعم ماديًا أو معنويًا أو إعلاميًا من أي جهة، وتظل مأساته ومأساة أسرته وزوجته وأطفاله الخمس قائمة، يتحول فيها بيت الرجل المستور إلى أهل الفاقة والعوز، ويعانون الأمرين في تدبير أمر زيارته الشهرية، بسبب السفر البعيد إلى سجن المنيا، ليظل حلم حرية الشيخ مراد بعيدًا بعد سجنه وبعد تجاهل الجميع قصته المأساوية.
عائلة الأستاذ سعيد
لم يكن لأسرة الأستاذ سعيد، حظ ولا نصيب من اسمها، فسريعًا تحول حال الأسرة الصغيرة في أعقاب 3 من يوليو/تموز 2013، فالابن الأكبر الذي تخرج حينها حديثًا في كلية الهندسة، سرعان ما جرى اعتقاله، ليخرج بعد بضعة شهور، وبينما سارعت أسرته بتزويجه، لم يمض إلا أيام على زفافه حتى اعتُقل مرة أخرى، لكن في تلك المرة بقائمة اتهامات أشد وأنكى، ليحكم عليه سريعًا بالسجن سبع سنوات.
شهدت عملية اعتقاله الوحشية تكسير أثاث شقته الجديدة ونهبها، لتعود عروسه سريعًا إلى بيت أهلها، وليت المأساة توقفت هنا، فلم تمر شهور حتى تم اعتقال والده، وبينما كانت شقيقته في زيارة الوالد المحبوس بأحد الأقسام، لفقت لها تهمة الاعتداء على شرطي، فزج بها هي الأخرى في السجن، ثم تتباعت فصول مأساة تلك الأسرة بطرد الأم وأطفالها الصغار من منزلهم وإغلاقه تمامًا من قوات الأمن، ليبقى منزل الأستاذ سعيد أطلالًا وخرابًا، بعد أن شردت أسرته ثمنًا لموقف سياسي، دون أن تنتمي هي الأخرى لأي حزب أو تنظيم، وتبقى قصة الأسرة الحزينة ضمن عشرات آلاف المآسي المفجعة التي يجهلها أو يتجاهلها الجميع.
تصفية واعتقال
في حياة كثير منا، يوم ما قبله ليس كما بعده أبدًا، وذلك اليوم الأشد قتامة في حياة السيدة نادية التي استيقظت باكرًا على أسوأ خبر سمعته في حياتها، وهو تصفية نجلها الأوسط حسام على يد قوات الشرطة، في حادث يكتنفه الغموض حتى الآن.
فالشاب الثلاثيني، العازف عن الزواج، كان معروفًا بين أسرته وأهالي منطقته بشغفه بالتجارة والتسوق، وتأسيسه لسوبر ماركت صغير يقضي فيه جل وقته وشغفه بكرة القدم.
بينما يستعد أخوه حسام لاستلام جثمانه إثر تصفيته بطلقة في الرأس فجرت جمجمته إلى أشلاء، ألقت قوات الأمن القبض على شقيقه الأصغر
غير أن مأساة السيدة نادية وأسرتها التي لم تعرف أبدًا علاقة بالسياسة، لم تقتصر على تصفيه ابنها الشاب، فداخل المشرحة، وبينما يستعد أخوه حسام لاستلام جثمانه إثر تصفيته بطلقة في الرأس فجرت جمجمته إلى أشلاء، ألقت قوات الأمن القبض على شقيقه الأصغر، ليختفي قسريًا لعدة شهور، وتفقد الأم المكلومة في يوم واحد، اثنين من أبنائها.
وعبثًا حاولت الأسرة الحزينة البحث عن الابن المختفي قسريًا، ودفعت مئات آلاف الجنيهات التي بذلتها الأم من بيع ميراثها، حتى نجحت في النهاية في إخراجه من غياهب المعتقل، ليختفي سريعًا ويرحل مطاردًا بعيدًا عن بلدته وأسرته.
العريس المشلول
حاولت أسرتها إثنائها عن إتمام زواجها من الشاب “علاء. س” عقب إصابته بشلل رباعي نتيجة إصابته بطلقة قناصة في أحداث رمسيس التي تلت أعقاب فض اعتصام رابعة العدوية، غير أن فاطمة تلك الفتاة العشرينية ذات الوجه الملائكي، أبت إلا أن تتمم مراسم زواجها وتتحدى رغبات الجميع بما فيهم عريسها نفسه الذي رفع عنها الحرج وطلب إنهاء الارتباط بينهما.
كان علاء يستعد في نهاية صيف 2013 لإتمام زواجه من عروسه، ومع الأحداث السياسية والدموية التي شهدتها مصر في أعقاب بيان الجيش في 3 من يوليو/تموز، ثم الفض الدموي لاعتصامي رابعة والنهضة، وجد علاء نفسه يسير في جنازة ثلاثة من أصدقائه الذين راحوا ضحية الفض، فما كان من الشاب إلا أن خرج مع مجموعة من أصدقائه لينضم للمحتجين في ميدان رمسيس، إلا أن الحافلة التي كانت تقله، وقف لها البلطجية والقناصة بالمرصاد، فأصابته رصاصة في ظهره جعلته قعيدًا طيلة حياته وحبيس الكرسي المتحرك.
تذخر صفحات الثورة المنسية بقصص ومآسي آلاف الفرسان والأبطال المجهولين، فذلك الأب المطارد عبد الرحمن الذي قضى 15 عامًا في الخليح مدرسًا، ليعود ليبني بيتًا مستقلًا لأبنائه، ثم يصعق بمقتل نجله الأكبر على يد قوات الأمن، التي لم تكتف بذلك وراحت تطارد باقي أفراد الأسرة التي تركت منزلها لتنهبه قوات الأمن ثم تحرقه على مرأى ومسمع من الجميع.
ليسوا من مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي أو من شِلَل النشطاء والحقوقيين والسياسيين، ولا من رجالات الأحزاب، إنهم ببساطة مواطنون مصريون عاديون
وتلك الأرملة أم عماد التي حاولت إثناء زوجها كثيرًا عن الخروج في يوم الثورة الأكبر 28 يناير، إلا أنه أبى إلا أن يشارك الشباب ثورته، فراح شهيدًا لرصاص الغدر، وترك أيتامًا ما زالوا يتساءلون فيما ذهبت دماء أبيهم؟!
أما المهندس سعد فينفطر قلبه حزنًا وقهرًا وكمدًا، فبينما فقد شقيقه شهيدًا عقب أحداث فض اعتصام النهضة، فقد هو الآخر حريته منذ سبع سنين، وما زال أمامه 8 آخرين، وفي ظل مأساته يأتيه الخبر الحزين بمصرع نجله الصغير محروقًا.
وتلك الزوجات اللائي يجتمعن كل شهر من أجل سفر طويل لزيارة أزواجهن المعتقلين، يتعرضن لحادث تنقلب فيه السيارة التي تقلهن إلى السجن ليرقدن مصابات ويتركن أطفالًا صغارًا فقدوا الأم بعد الأب.
هذه قصص صغيرة، لظاهرة كبيرة ضحاياها بعشرات الآلاف من المعتقلين والمصابين والشهداء أو من ذوي نشطاء ومحتجي ثورة يناير المجهولين الذين لا ينتمون إلى حزب أو جماعة ولا حركة أو تنظيم.
ليسوا من مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي أو من شِلَل النشطاء والحقوقيين والسياسيين، ولا من رجالات الأحزاب، إنهم ببساطة مواطنون مصريون عاديون، لامس صوت الثورة آذانهم فلبوا النداء، فكان أن استحالت إلى مأساة مستمرة منذ عقد.