تنتهي، اليوم السبت، مهلة الـ90 يومًا التي حددها اتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا لانسحاب المرتزقة الأجانب من البلاد، لكن لا بوادر لانسحاب قريب، وبالعكس فقد زاد نشاطهم أكثر من قبل، متجاهلين تمامًا الدعوات الدولية الملحة في هذا الشأن، ما يطرح تساؤلات بشأن سبب عدم مغادرتهم الأراضي الليبية وتأثيرات ذلك وتداعياته على جهود سلطات السلام في البلاد.
تحركات علنية متواصلة
في الوقت الذي ينتظر فيه الليبيون والمجتمع الدولي انسحاب المقاتلين الأجانب من ليبيا بانتهاء المهلة المحددة لهم، كثف المرتزقة نشاطهم وتحركاتهم العلنية والسرية، كأنهم يؤكدون للجميع أن لا نية لهم للانسحاب من هناك في الوقت الحاليّ.
وكانت اللجنة العسكرية الليبية المشتركة بدعم من الأمم المتحدة اتفقت في 23 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي على إلزام المرتزقة والقوات الأجنبية بمغادرة الأراضي الليبية في غضون 3 أشهر، وإعادة القوات المحلية إلى ثكناتها العسكرية ونزع الألغام وتبادل الأسرى بين الطرفين.
رغم الدعوات المحلية والدولية الملحة بهذا الشأن، وآخرها الدعوة التي صدرت عن اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5)، لم تظهر أي مؤشرات على انسحاب قريب للمرتزقة من ليبيا، الذين تقدر الأمم المتحدة عددهم بنحو 20 ألفًا.
تعتبر ليبيا وجهة لآلاف المرتزقة الذين يعملون لحسابهم الشخصي أو لحساب شركات أمنية خاصة متعددة الجنسيات
من المقرر أن يعقد مجلس الأمن الدولي اجتماعًا عن ليبيا في 28 من يناير/كانون الثاني الحاليّ، بعد تعثره في إصدار قرار لدعم أعمال بعثة الأمم المتحدة في ليبيا في إرسال مراقبين دوليين إلى ليبيا لإخراج المرتزقة من البلد بالتنسيق مع اللجنة العسكرية الليبية المشتركة.
وبين هؤلاء المرتزقة نجد آلاف الروس والسودانيين والتشاديين يقاتلون مع قوات حفتر، التي تسيطر على سرت ومنطقة الجفرة، بالإضافة إلى الشرق كله وأجزاء من الجنوب، ويتمركز المرتزقة خصوصًا في قاعدة الجفرة الجوية وقاعدة القرضابية العسكرية بمدينة سرت على البحر المتوسط، إضافة إلى وجود تمركز لها في مناطق الجنوب والشرق ووسط ليبيا، قرب الحقول والموانئ النفطية.
بالتزامن مع ذلك أفادت شبكة “سي إن إن” الأمريكية، بأن أقمارًا صناعية رصدت صورًا لبناء مرتزقة شركة فاغنر الروسية، خندقًا ضخمًا بين مدينتي سرت والجفرة (وسط ليبيا)، وقالت الشبكة: “الخندق يمتد لعشرات الكيلومترات جنوبًا من المناطق الساحلية المأهولة بالسكان حول سرت باتجاه معقل الجفرة الخاضع لسيطرة فاغنر، وتدعمه سلسلة من التحصينات المعقدة، وفق الصور”.
وأكدت الشبكة في تقريرها أن الخندق الذي تبنيه شركة فاغنر الروسية يثير شكوكًا بشأن عدم انسحاب المقاتلين الأجانب من ليبيا اليوم السبت، كما هو وارد في اتفاق السلام الذي توسطت فيه الأمم المتحدة، دون تفاصيل عن تبعية الأقمار التي رصدت الصور.
إلى جانب ذلك، نشرت عملية “بركان الغضب” – التابعة لحكومة الوفاق الوطني – صورًا تظهر تحليقًا مكثفًا من طائرات ميغ-29 في سماء منطقة الجفرة، مشيرة إلى أن هذه الطائرات الحربية كانت تتولى مهمة حماية طائرات شحن روسية تنقل المرتزقة من الجنجاويد من مدينة سرت إلى قاعدة الجفرة.
وكثيرًا ما يرصد الجيش الليبي التابع لحكومة الوفاق المعترف بها دوليًا، تحركات مسترابة للمرتزقة الداعمين لخليفة حفتر خاصة في منطقتي سرت والجفرة (فيهما أكبر قاعدتين جويتين بالمنطقة الوسطى)، ما يؤكد عدم وجود نية واضحة لدى قوات حفتر لتنفيذ اتفاق اللجنة العسكرية.
تهديد عملية السلام
يُمثل استمرار وجود المرتزقة في الساحة الليبية خطرًا قائمًا يُهدد سيرورة العملية السياسية والسلم الاجتماعي في البلاد، في الوقت الذي تتواصل في المغرب جولة المشاورات الليبية الجديدة، التي قد تفضي إلى تفاهمات بشأن معايير اختيار المرشحين للمناصب السيادية.
وتعتبر ليبيا وجهة لآلاف المرتزقة الذين يعملون لحسابهم الشخصي أو لحساب شركات أمنية خاصة متعددة الجنسيات، على غرار شركة فاغنر الأمنية الروسية التي تعود ملكيتها لرجل الأعمال يفغيني بريغوجين المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وعرفت هذه الشركة الأمنية بتنفيذ مهام لا ترغب روسيا في تبنيها رسميًا، وبدورها في ضم شبه جزيرة القرم، والانخراط في الاشتباكات شرق أوكرانيا إلى جانب الانفصاليين، إضافة إلى التدخل العسكري في سوريا، ودعم حركات انفصالية في دول إفريقية عدة.
إخراج المرتزقة الأجانب من ليبيا، مرتبط بوجود إرادة دولية لذلك
تلجأ الحكومة الروسية عادة إلى الاستعانة بهذه العصابات المسلحة للقيام بالعديد من العمليات العسكرية في مناطق مختلفة من العالم، للهروب من المحاسبة وحتى لا تتم ملاحقتها رسميًا، فلا وجود رسمي لهذه المجموعة، كما تستعين بها الحكومة لتدعيم مكانتها في تلك الدول، فهي تتحرك في أماكن ترى روسيا أن مصالحها الإستراتيجية عُرضة للتهديد فيها أو في أماكن يرغب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتوسعة نطاق التأثير الروسي فيها.
بقاء هؤلاء المرتزقة في ليبيا، من شأنه تعقيد الوضع هناك، فهم عنصر تأزيم في الحالة الليبية، وليس أداة سلام، واستمرار وجودهم يمثل عقبة في وجه جهود الأمم المتحدة لإرساء السلام المستدام وتحقيق الاستقرار في هذا البلد العربي.
دور حفتر في تأزيم الوضع
تعزز دور المرتزقة في ليبيا، مع اندلاع الحرب التي شنها اللواء المتقاعد خليفة حفتر على العاصمة طرابلس، في 4 من أبريل/نيسان 2019، بهدف احتلال العاصمة وعسكرة الدولة الليبية المدنية، خدمة لأجندات الدول الداعمة له.
في تلك الحرب، خسر حفتر عماد مليشياته، وهم شباب القبائل، حيث استنزف الكتائب القبلية الليبية الموالية له، ما دفعه إلى الاستعانة بمرتزقة أفارقة في البداية لكن ذلك لم يف بالغرض، ما حتم عليه اللجوء للمرتزقة الروس لتعزيز جبهته القتالية، ودفع بمعظمهم إلى الخطوط الأمامية.
وتدعم مجموعات المرتزقة قوات حفتر بالتدريبات، وتساعده في توطيد نفوذه العسكري عن طريق إمداده بقطع المدفعية والدبابات والطائرات دون طيار والذخيرة، وغيرها من أشكال الدعم اللوجستي.
فشل حفتر في كسب معركة طرابلس عسكريًا وإنهائها لصالحه رغم الدعم الذي يتلقاه من العديد من القوى الخارجية والداخلية، ولا يعني ذلك تسليمه بالخسارة، فهو يسعى من خلال المرتزقة العاملين معه إلى إطالة أمد الأزمة في ليبيا، ويبدو أنه نجح في ذلك.
يرى حفتر أن السبيل الوحيد لبقائه في الساحة الليبية، تقويض جهود السلام الرامية لإخراج البلاد من الأزمة التي تعيش على وقعها منذ سنوات، فهو متأكد من أن أي حل سياسي قادم سيقصيه من دائرة الفعل السياسي والعسكري في البلاد.
دور الدول الأجنبية
صحيح أن حفتر يعمل على إطالة أمد الصراع في ليبيا باستخدام المرتزقة، لكن ذلك لا يعني أن حفتر وحده من يسعى إلى ذلك، فالعديد من الدول الأجنبية تشاركه نفس الهدف على رأسها روسيا وفرنسا والإمارات ومصر.
لهذه الدول مصالح كثيرة في ليبيا تسعى بكل جهدها للحفاظ عليها، حتى إن كلفها الأمر إدخال البلاد في حرب لا نهاية لها، لذلك فإنه من الصعب على الفرقاء الليبيين التوصل إلى حل لأزمة بلادهم المتواصلة منذ سنوات، دون موافقة هذه الدول.
من هنا يتأكد أن إخراج المرتزقة من ليبيا مرتبط بوجود إرادة دولية لذلك، فهؤلاء المقاتلون الأجانب موظفون لخدمة أهداف داعميهم وقياداتهم الخارجية، فحتى لو اتفق الليبيون على إبعادهم من بلادهم لن يكون بمقدرتهم ذلك دون موافقة القوى الأجنبية الساعية للحفاظ على مصالحها في ذلك البلد.