بعد مرور عشر سنوات كاملة على ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، تغيرت قواعد اللعبة السياسية في مصر ولم تعد الخريطة الفاعلة هي ذاتها، فقد تبدلت الأدوار وتأرجحت عوامل القوة والتأثير، وأصبحت الساحة الآن مهيأة لاستقبال مؤثرين جدد، إذ إن النخبة التي اعتلت سدة المشهد بعد يناير انزوت بعيدًا عن ساحة الأضواء، حيث تفرقت ما بين مُعتقل ومُطارد وقتيل ومُكافأ على خدماته ودعمه للثورة المضادة، فيما ظهرت شريحة أخرى اليوم وهم من المستفيدين من الثورة رغم أنهم كانوا وقودها الأول.
العمال والفلاحون، السواد الأعظم من المصريين، شعلة الثورات على مر التاريخ، المحرك الأبرز للاحتجاجات الشعبية ضد الأنظمة والحكومات، أقل الأصناف حظوظًا من كعكة الثورات، وأكثرهم توظيفًا من النخب بشقيها، الحاكمة والمعارضة، والأهم كونهم الاستثناء الذي لا يمكن السيطرة عليه مهما كان حجم التضييق والتنكيل، ومهما ردد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بأن ما حدث قبل عشر سنوات لن يتكرر مرة أخرى.
وهذه القوة ناتجة بشكل أساسي من حجم هذه الفئة في سوق العمل، إذ يتجاوز عدد الفلاحين، ما بين القطاع العام والخاص، نحو 55 مليون مصري من إجمالي 30 مليون فرد، وفق الإحصاءات الرسمية الصادرة عن جهاز التعبئة العامة والإحصاء ونقيب الفلاحين، ما يعني أن أكثر من 80% من المصريين عمال وفلاحين.
العمال والاحتجاجات
انتهى العام الماضي على حضور ملحوظ للحراك العمالي في الشارع المصري، رغم أساليب القمع والترهيب المتبعة لوأد أي من تلك التحركات التي تثير غضب وقلق السلطات الحاكمة بشكل كبير، حيث شهد الربع الأخير من نفس العام 73 احتجاجًا مختلفًا (اعتصام/ إضراب/ وقفة احتجاجية/ انتحار/ قطع طريق/ شكوى جماعية/ حراك نقابي)، بحسب رصد الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان.
التقرير الربع السنوي للأشهر أكتوبر ونوفمبر وديسمبر، كشف عن 40 احتجاجًا مارسته فئات اجتماعية غير منظمة (سكان أحياء وتجمعات مواطنين)، في مقابل 43 احتجاجًا قامت به فئات عمالية ونقابية وكانت تشمل مطالبهم الرواتب المتأخرة ورفض الخصخصة وتسريح العمال.
كما جاءت المحافظات المركزية صاحبة الكثافة السكانية والتأثير الجغرافي القوي (القاهرة والجيزة) على رأس المحافظات الأكثر عددًا في الاحتجاجات، بواقع 15 احتجاجًا لكل منهما، تلتها محافظة الإسكندرية، ثم الشرقية وأسوان والقليوبية، وبعدها شمال سيناء والدقهلية وقنا.
وبعيدًا عن الأشهر الثلاث الأخيرة من العام الماضي، فإن الاحتجاجات التي شهدها العام إجمالًا تجاوزت 364 تظاهرة مختلفة، تصدرت تلك القائمة الاحتجاجات الاجتماعية والعمالية بعدد 173 فعالية، ثم احتجاجات الجماعات الإسلامية بعدد 111 فعالية.
وتركزت مطالبها حول قرارات الفصل التعسفي، وانعدام الأمان الوظيفي، وإزالة منازلهم وقانون التصالح في المباني، بخلاف المطالبة أيضًا بصرف المستحقات، فخلال الأشهر الماضية، يواجه أكثر من 70% من العاملين بالقطاع الخاص أزمة تسريح وإنهاء عقود العمل دون الحصول على تعويض مناسب، وهي الظروف التي تعززت بصورة أكبر مع جائحة كورونا التي أودت بآلاف العمال إلى طابور البطالة، وفق تصريح أحد المسؤولين في اتحاد عمال مصر، هذا بخلاف وجود أكثر من 7 آلاف مصنع متعثر.
وذلك علاوة على بعض الاحتجاجات الفئوية الأخرى، مثل اعتراض عدد من أطقم التمريض فى المستشفيات على الأوضاع الصحية والمطالبة بعمل مسحات للكشف عن الإصابة بفيروس كورونا، واحتجاج العاملين بنادي الزمالك على تأخر المرتبات وعدم الحصول عليها لعدة أشهر، بجانب اعتراض عدد من الصيادين على قانون التأمينات وزيادة أسعار السولار.
وفي الأيام الأخيرة نشبت بعض الوقفات الاحتجاجية الأخرى من عمال مصانع الحديد والصلب تنديدًا بقرار تصفية الشركة التي تضم 7.5 ألف عامل باتوا جميعًا في عداد البطالة، الأمر تكرر في مصانع الغزل والنسيج بالمحلة الكبرى بالغربية ومصانع سماد طلخا بالدقهلية وغيرها من المصانع القومية التي تعتزم الدولة تصفيتها بدعوى خسارتها خلال السنوات الماضية.
التجاهل والتهميش
معاناة العمال ليست بعيدة عن الفلاحين كذلك، رغم تباين حجم ومستوى تلك المعاناة، فبينما يفقد قطاع كبير من العمال وظائفهم وتُقلص رواتبهم وتضاعف المهام المطلوبة منهم، فإن الفلاحين يعانون أيضًا من تراجع إيرادات المحاصي التي تعد المصدر الأساسي والوحيد للدخل لديهم بسبب زيادة المصروفات الناجمة عن ارتفاع أسعار الأسمدة والعمالة.
وبالنظر إلى تلك الأوضاع، اضطر كثير من الفلاحين لتبوير أراضيهم بسبب قلة المياه وانقطاعها معظم فترات الموسم الزراعي لا سيما المحاصيل التي تحتاج إلى مياه مستمرة كالأرز، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على مستواهم المعيشي في ظل تجاهل الحكومة لصرخاتهم المستمرة.
نقيب عام الفلاحين، حسين أبو صدام، لفت في تصريح له مؤخرًا إلى تجميد نشاط النقابة العامة للفلاحين المشهرة برقم 466/2/2011 على مستوى الجمهورية، نتيجة عدد من الأسباب على رأسها تهميش الحكومة لطلبات الفلاحين وتجاهلها لمشاكلهم.
أبو صدام المقرب من السلطات الحاكمة أشار إلى زاوية أخرى فيما يتعلق بغضب ما يقرب من 55 مليون فلاح في مصر، تتعلق بتجاهل القيادة السياسية لهم وعدم تمثيلهم في مجلسي النواب والشيوح طبقًا للدستور، على عكس المجالس السابقة التي كانت تخصص كوتة ثابتة للعمال والفلاحين، ما جعل المجلس الآن لا يمثل هذه الشريحة المحورية من الشعب، وهو ما زاد من احتقان تلك الملايين.
في تقرير صادر عن المركز المصري للدراسات الاقتصادية أشار إلى تراجع ملحوظ في دخل العاملين بالقطاع الزراعي وتدهور معيشتهم بشكل متسارع، معددًا أسباب هذا التراجع إلى السياسات النقدية والاقتصادية المتبعة التي ربما لم تكن موجهة للقطاع الزراعي بوجه خاص، كالتأثر سلبًا بوضع حد أقصى على السحب والإيداع، ووقف الأنشطة السياحية بشكل كامل والمطاعم بشكل شبه كامل.
يذكر أن القطاع الزراعي يمثل نحو 11.2% من الناتج المحلي الإجمالي ويعمل به نحو 23.8% من مجموع المشتغلين في مصر، وفي ظل حالة التدهور التي تعرض لها خلال الآونة الأخيرة فإن الأوضاع مرجح أن تتفاقم بصورة غير متوقعة، في ظل غياب الحكومة عن القيام بدورها.
غضب بلا قيادة
تصاعد وتيرة الاحتجاجات العمالية ومعدلات احتقان الفلاحين بسبب موجة التدني المستمرة لمستوياتهم المعيشية، التي قوبلت بمزيد من التنكيل والاعتقالات وتضييق الخناق والتهديد بالفصل، لا تحصر المشهد عليهم، إذ تعاني أيضًا فئات أخرى مثل الصحفيين من الاعتقالات وكبت للحريات وتراجع للمستوى المعيشي، إضافة إلى المحامين والأطباء والمهندسين وغيرهم من شرائح المجتمع التي تدفع ثمنًا باهظًا لتغول السلطات الحاكمة.
لكن التعويل على مثل هذه الاحتجاجات لتحريك المياه الراكدة في بحيرة الثورة منذ 2013 وحتى اليوم مسألة سابقة لأوانها في ظل الإصرار السلطوي على عدم تكرار ما حدث قبل عشر سنوات، والعمل على وأد أي مؤشرات تميل إلى إحياء المسار الثوري مرة أخرى.
ورغم سوداوية المشهد الملبد بغيوم القبضة الأمنية المشددة التي لا تراعي أي أبعاد حقوقية ولا تبالي بأي انتقادات داخلية كانت أو خارجية، فإن اللافت للنظر في الأجواء الراهنة أن حالة الاحتقان الحاليّة بلا قيادة سياسية تحركها وتسيطر عليها، عكس الوضع بعد 2011.
كان أحد أسباب نجاح ثورة يناير بداية انطلاقها أنها كانت بلا قيادة، فكان الشعب المحرك الأول والكلمة الفصل على الساحة، وحين انبرت القوى والتيارات السياسية لقيادة الحراك وقعت في مستنقع المواءمات والحسابات السياسية، فكانت النتيجة أن تم استئناسها وتدجينها شيئًا فشيئًا حتى تشرذمت فسهُل الانقضاض عليها.
البعض يتحدث عن إمكانية استغلال المعارضة للحراك العمالي الحاليّ وتوظيفه سياسيًا، لكن هذا السيناريو ربما يكون غير مجد في الوقت الراهن في ظل ما تعانيه المعارضة من عدم تجانس، فضلًا عن انحيازاتها الطبقية وتعارضها في كثير من المسارات.
وفي المحصلة يمكن البناء على تلك القاعدة العمالية لتدشين معارضة شاملة، كل يتحرك في مساره الطبيعي بتنسيق هامشي يجعل من تغيير تلك الأوضاع هدفًا أسمى وأجمع وأشمل بدلًا من المطالب الفئوية التي ربما تكون سلاحًا لشرخ جدار المعارضة كما حدث قبل ذلك.