تشهد الفيروسات طفرات طوال الوقت، بما في ذلك فيروس كورونا المستجد الذي تسبب في تفشي جائحة عالمية. ومع أن معظم التطورات التي تطرأ على الفيروس ليس لها تأثير واضح، إلا أن السلالات المتحورة الأخيرة التي ظهرت في المملكة المتحدة وجنوب إفريقيا والبرازيل أثارت قلقًا شديدًا. فعلى الرغم من كونها لا تبدو أكثر فتكًا من السلالات السابقة، إلا أن الدراسات تشير إلى أنها معدية أكثر. وقد أدى ارتفاع عدد حالات الإصابة إلى زيادة حالات الاستشفاء والوفيات في إنجلترا ومناطق أخرى. ويقول صانعو الأدوية إن لقاحاتهم لا تزال فعّالة، فيما يحذّر بعض الباحثين من أن اللقاحات قد تحتاج إلى تحديث دوري للحفاظ على فعاليتها.
ما مدى خطورة الوضع
أدت السلالة المتحورة الجديدة التي ظهرت في جنوب شرق إنجلترا في شهر أيلول/ سبتمبر، التي اُطلق عليها اسم سلالة بي.7.1.1، إلى ارتفاع عدد حالات الإصابة في شهر كانون الأول/ ديسمبر، مما دفع المملكة المتحدة إلى إعادة فرض الإغلاق. كما دفع العديد من البلدان الأخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، إلى تعليق الرحلات الجوية والبرية من المملكة المتحدة أو فرض قيود على السفر. في الأثناء، اتبعت دول أخرى إجراءات إغلاق أكثر صرامةً، خاصة في أوروبا، وواصلت حثّ الناس على الالتزام بتدابير الوقاية مثل ارتداء الأقنعة. وقد حذر مسؤولو الصحة من أن هذه السلالة قد تصبح سائدة في الولايات المتحدة بحلول شهر آذار/ مارس.
في جنوب إفريقيا، تواجه المستشفيات ضغوطًا من احتمال اندلاع موجة تفشي جديدة بسبب ظهور سلالة متحورة جديدة معروفة باسم “501 واي.في2”. وقد حذّر باحثون برازيليون من أن السلالة المتحورة “بي.1” التي اكتُشفت في ماناوس عاصمة الأمازون في شهر كانون الأول/ ديسمبر يمكن أن تؤدي إلى تفاقم تفشي الفيروس هناك.
تم تأكيد إصابة أربعة مسافرين يابانيين عائدين من الأمازون في مطلع شهر كانون الثاني/ يناير بالسلالة المتحورة البرازيلية أثناء الفحص الروتيني في مطار طوكيو هانيدا الدولي. وقال باحثون من مركز سيدارز سايناي الطبي في لوس أنجلوس إن سلالة جديدة ظهرت في كاليفورنيا لا يُعرف الكثير عن أهميتها.
ما سبب ذلك؟
تشير التحليلات الأولية إلى أن هذه السلالات المتحورة الجديدة من المرجح أن تنتشر بشكل أسرع بين الناس أكثر من سلالات فيروس كوفيد-19 المنتشرة الأخرى. وقد اكتشف علماء الجينوم في جنوب إفريقيا أن السلالة المتحورة الجنوب أفريقية يمكن أن تصيب الخلايا البشرية بصورة أكثر فاعلية وهي معدية بنسبة 50 بالمئة مقارنة بالسلالات السابقة. واكتشف العلماء أن السلالة المتحورة البريطانية معدية أكثر بنسبة تتراوح ما بين 56 بالمئة إلى 70 بالمئة. وقد اكتسبت 17 طفرة مقارنة بآخر سلالة – وهو معدل تغيير أسرع مما يلاحظه العلماء عادة.
لم يجد الباحثون أي دليل على أن هذه السلالة المتحورة أكثر خطورة. وحسب تقرير صادر عن باحِثي كلية لندن الإمبراطورية في 31 كانون الأول/ ديسمبر، فإن هناك مؤشرًا “صغيرا ولكن له دلالة إحصائية” على أن سلالة بي.7.1.1 تؤثر على الشباب – الذين تقل أعمارهم عن 20 سنة – أكثر من غيرهم، علمًا بأن السبب قد يكون ظرفيًا.
وقد أظهر تحليل خضع له 641 شخصًا مصابًا بفيروس كوفيد-19 في المملكة المتحدة أن المصابين بالسلالة المتحورة لديهم تركيزات أعلى بنسبة 10 إلى 100 مرة من فيروس كورونا في منطقة الأنف مقارنة بالعدوى الناجمة عن سلالات فيروس كوفيد-19 “العادية”، وهو ما يفسر ارتفاع نسبة العدوى.
ما مدى سرعة انتشار العدوى؟
تنتشر السلالة المتحورة بشكل أسرع، وقد أصبحت منتشرة في العديد من البلدان، وتزيد نسبة العدوى في عطلات نهاية السنة التي ترتبط تقليديا بزيادة الاختلاط الأسري والاجتماعي. وبحلول شهر كانون الثاني/ يناير، تم تحديد حالات إصابة بالسلالة المتحورة البريطانية المعروفة باسم “بي.7.1.1” في حوالي 50 دولة أو منطقة، بما في ذلك الولايات المتحدة وأستراليا وكندا وألمانيا وإيطاليا واليابان ولبنان وهولندا وسنغافورة وكوريا الجنوبية.
على نحو مماثل، فإن السلالة المتحورة الجنوب أفريقية “501 واي.في2” المكتشفة لأول مرة في نيلسون مانديلا باي في مطلع تشرين الأول/ أكتوبر تسببت في ارتفاع حاد في حالات الإصابة في تسع دول في جنوب إفريقيا، إلى جانب سيشيل وموريشيوس. ووقع الإبلاغ عن تسجيل حالة في الدنمارك في منتصف شهر كانون الثاني/ يناير.
معدل عدوى السلالات المتحورة؟
يبدو أن السلالات المتحورة الجديدة لها مزايا مختلفة عن بقية السلالات الأخرى ساعدتها على الانتشار بشكل أسرع، وذلك بغض النظر عن العوامل المؤثرة مثل تزايد التجمعات في الطقس البارد التي تساهم بدورها في انتشار العدوى. وقد لاحظ فريق استشاري بريطاني في شهر كانون الأول/ ديسمبر أن سلالة بي.7.1.1 قد تؤدي إلى ارتفاع عدد التكاثر الأساسي (متوسط عدد الإصابات الجديدة التي تسببها حالة واحدة) في نطاق يتراوح من 0.39 إلى 0.93 – وهي “زيادة كبيرة في قابلية العدوى مقارنة بالسلالات المتحورة الأخرى”.
حسب هيئة الصحة العامة في إنجلترا فإن معدلات الإصابة في المناطق التي تنتشر فيها السلالة الجديدة ارتفعت بوتيرة أسرع من المتوقع. كما أبلغت الهيئة في كانون الثاني/ يناير عن أن احتمال نقل المصابين بالفيروس المتحور للعدوى كان أكبر مقارنة بمن أصيب بالسلالة “العادية”.
مع استمرار الطفرات، سنشهد نشأة المزيد من السلالات المتحورة الجديدة.
كم عدد السلالات المتحورة الموجودة حاليا؟
ظهرت الآلاف من التحورات والسلالات في جينوم “سارس-كوف-2” منذ ظهور الفيروس في أواخر 2019. وقد ظهرت نسخة متحورة نتيجة طفرة تعرف باسم “دي 614 جي” في أوائل 2020. وبحلول حزيران/ يونيو، حلّت تلك النسخة محل السلالة الأولية التي تم التعرف عليها في الصين، لتصبح الشكل السائد للفيروس المنتشر عالميًا. وبعد أشهر، تم التعرف على سلالة جديدة مرتبطة بمزارع المنك لدى عشرات المرضى في شمال غوتلاند في الدنمارك، ولكن لا يبدو أنها انتشرت على نطاق واسع. ومع استمرار الطفرات، سنشهد نشأة المزيد من السلالات المتحورة الجديدة.
هل بعض السلالات أكثر أهمية من غيرها؟
نعم. يولي العلماء أكبر قدر من الاهتمام للتحورات في الجين الذي يشفر شوكة بروتين السارس، الذي يلعب دورًا رئيسيًا في دخول الفيروس إلى الخلايا. ويؤثر هذا البروتين، الذي تستهدفه اللقاحات، على كل من المناعة وفاعلية اللقاح.
تحمل كل من السلالة المتحورة البريطانية “بي 1.1.7” والجنوب أفريقية “501 واي.في 2” والبرازيلية “بي 1″، طفرات متعددة تؤثر على شوكة البروتين السكري، مما يثير تساؤلات بشأن مدى قدرة أجسام الأشخاص الذين طوروا أجسامًا مضادة للسلالة “العادية” – سواء من اللقاح أو بعد تعافيهم من كوفيد-19 – على التصدي للسلالات المتحورة الجديدة.
في كانون الثاني/ يناير، وجدت هيئة الصحة العامة في إنجلترا أنه غالبا ما تتمكن أجساد الأشخاص الذين أصيبوا بفيروس كورونا “العادي” من تكوين استجابة فعالة من الأجسام المضادة ضد السلالة المتحورة “بي 1.1.7”. لكن في الشهر ذاته، تم الإبلاغ عن تسجيل أول حالة لمريض تعافى من كوفيد-19 ثم أصيب مرة أخرى بسلالة “بي 1” في البرازيل.
هل ستكون اللقاحات فعالة ضد السلالات المتحورة؟
لا يزال البحث جاريا، ولم تظهر نتيجة قطعية حتى الآن. ولكن توصل بحثان في جنوب إفريقيا وجامعة روكفلر في نيويورك إلى نتيجة تدعو للقلق:
- درس المعهد الوطني للأمراض المعدية في جنوب إفريقيا عينات دم من 44 مريضًا أصيبوا سابقًا بفيروس كورونا للتحقق من قدرة الأجسام المضادة على مقاومة السلالة المتحورة المنتشرة في المنطقة. قد تكون الفئة المدروسة صغيرة، لكن الأمر المثير للقلق أن نصف العينات التي تم اختبارها أشارت إلى فقدانهم استجابة الأجسام المضادة المحايدة كليا، مما يدل على فقدان هؤلاء الأشخاص المناعة ضد الفيروس.
في العينات الأخرى، لوحظ انخفاض في مستويات الأجسام المضادة، لأن هؤلاء الأفراد تمتعوا بمستوى أعلى منها لتعافيهم من فيروس كوفيد-19 ذي الأعراض الحادة. وقد حذر العلماء من أن نتائج الدراسات المخبرية لا تعدو أن تكون مؤشرا قطعيًا، حيث قالوا إنهم لا يمتلكون أي دليل على أن هذا ما يحدث في الواقع بالفعل، أو ما إذا ستقل فاعلية الأجسام المضادة الناتجة عن اللقاح ضد السلالة الجديدة.
- في جامعة روكفلر، تشير التجارب إلى أن السلالات المتحورة، بما في ذلك “بي 1.1.7″ و”501 واي.في 2” و”بي 1″، قد تتسبب في إبطال فاعلية لقاحات “موديرنا” و”فايزر-بيونتيك”، وذلك وفقًا لدراسة صدرت في 19 كانون الثاني/ يناير قبل النشر ومراجعة النظراء. وما زال الباحثون يعملون على فهم آلية عمل الفيروس بشكل أفضل.
ما الذي يتحتم على شركات الأدوية فعله؟
قال الشريك الألماني لشركة “فايزر”، “بيونتيك” إن نتائج إحدى الدراسات المخبرية التي صدرت في منتصف كانون الثاني/ يناير تشير إلى أن لقاح الحمض النووي الريبوزي المرسال سيكون فعالا “على السلالة المتحورة في المملكة المتحدة” – وهو تصريح مماثل لما أدلت به شركات تصنيع اللقاحات المنافسة.
كما أكدت شركة “بيونتيك” استعدادها لتعديل اللقاح إذا لزم الأمر. ومن جهتها، قالت جامعة أكسفورد، التي شاركت في تطوير لقاح “أسترازينيكا”، إنها تقيّم متطلبات التوزيع السريع للإصدارات “المعدلة” من اللقاح لمكافحة السلالات المتحورة إذا دعت الحاجة لذلك. وفي الواقع، لا تعد هذه التعديلات غريبة، فهي تحدث سنويًا مع الأنفلونزا الموسمية سريعة التطور. وعلى عكس الإنفلونزا، تمتلك فيروسات كورونا آلية جينية ذاتية التصحيح تعمل على تقليل تطوير التحورات.
هل هناك أي عواقب أخرى؟
نعم، قد يؤثر ذلك على العلاجات والتشخيص. فقد وجد باحثون في جنوب إفريقيا أن بعض العلاجات التي تعتمد على الأجسام المضادة، بما في ذلك منتج شركة “ريجينيرون” للصناعات الصيدلة الذي مُنح تفويضا للاستخدام في حالات الطوارئ في الولايات المتحدة والذي تلقاه دونالد ترامب، قد تكون غير فعالة ضد السلالة المتحورة الجنوب أفريقية “501 واي.في 2”.
وتحذر المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها من أن السلالات الجديدة قد تقوض أداء بعض الاختبارات التشخيصية القائمة على تفاعل البوليميراز المتسلسل. مع ذلك، صرحت منظمة الصحة العالمية بأنه من غير المحتمل أن يكون هذا التأثير كبيرًا.
المصدر: واشنطن بوست