صورة ميدان التحرير في يناير 2011 كانت بوابة لاحترام العالم أجمع للشعب المصري العظيم.
صورة المصريين في الميادين باحتجاجهم السلمي المبتكر خفيف الظل شَرَّفَتْ مصر في الدنيا كلها، وأثلجت صدور العرب والمسلمين.
ملايين البشر في ميادين التحرير في أغلب محافظات مصر، يتحركون شوقا للحرية والعدل، يقفون بصدور عارية أمام الرصاص من أجل لقمة عيش كريمة.
من الذي قام بتسويق هذا الإنجاز في وسائل الإعلام؟ بمعنى آخر : (لماذا لم نقم بتسويق هذه الصورة في العالم؟)
الجواب : لأننا لم نكن في حاجة لتسويق، (البضاعة بايعة نفسها) !
تعال الآن ولننظر لما حدث في الثلاثين من يونيو 2013، ستجد الأمر مختلفا تماما، فالعالم كله (باستثناء الدول اياها التي شاركت في الانقلاب ومَوَّلَتْهُ) نَظَرَ لما حدث بعين الريبة، ولم يمر وقت طويل حتى سالت الدماء أنهارا، وأصبح واضحا لكل ذي عينين أن ما حدث انقلاب عسكري غاشم.
الغريب أن بعض الفلاسفة يمارون، وأصبح واضحا لكل ذي قرنين أن “ثورة الثلاثين من يونيو” لا يمكن تسويقها.
نصائح المُسَوِّقين لا تجدي !
بعد أن كتبت نيويورك تايمز افتتاحيتها التي نشرت يوم الأحد الماضي الخامس من أكتوبر 2014، وقالت للغولة (عينك حمرا)، يظن البعض أن المشكلة مشكلة تسويق !
لقد سَمَّت الجريدة الأشياء بأسماءها، فَوَرَدَ في الافتتاحية كلمات محرمة في الإعلام المصري مثل (انقلاب، رئيس غير شرعي، انتخابات مزورة، حقوق الإنسان، قمع، معتقلات، قتل المتظاهرين السلميين …الخ).
فلاسفة الانقلاب يظنون أن المشكلة تكمن في تحسين الصورة الذهنية للانقلاب في الخارج، أي أن “ثورة الثلاثين من يونيو” قضية نبيلة مثل القضية الفلسطينية تماما، ولكن اللوبي الصهيوني يحسن عرض قضية إسرائيل في الخارج، ونحن لا نحسن عرض حقنا في الأراضي المحتلة !
هذه وجهة نظرهم (والله العظيم)، ولست أدري كيف يمكن أن تُسَوِّقَ قتل آلاف البشر في طلعة نهار؟ وكيف يمكن أن تُسَوِّقَ اعتقال ما يقرب من خمسين ألف إنسان بقانون لا مثيل له في الدنيا؟ قانون يتيح للسلطات أن تحتجز من تشاء إلى الأبد بحجة أنه (على ذمة قضية) !
كيف يمكن أن تُسَوِّقَ آلاف الجرحى، وآلاف المصابين والمشهوهين والمعاقين؟
كيف يمكن أن تُسَوِّقَ التعاقد مع مرتزقة لقمع الحراك الطلابي في الجامعات؟
كيف يمكن أن تُسَوِّقَ اختراع علاج للإيدز وفيروس سي من معالج بالقرآن يلبس زي جنرال، ثم اختفاء كل هذه الوعود في غمضة عين وكأنها لم تحدث؟
كيف يمكن أن تُسَوِّقَ السياحة والحرب على الإرهاب في اللحظة نفسها؟
كيف يمكن أن تُسَوِّقَ حبس الصحفيين؟ والمحامين؟ والطلبة؟ وأساتذة الجامعات؟ والسيدات؟ والآنسات؟ والأطفال القُصَّر؟
كيف يمكن أن تُسَوِّقَ قتل المضربين عن الطعام ببطء؟
كيف يمكن تسويق حرمان المساجين من أدويتهم؟ وزياراتهم؟ وحقهم في أن يتريضوا؟ أو أن يتلقوا علاجهم؟
كيف يمكن تسويق كل هذه القسوة أمام العالم؟
كل هذه الأسئلة وعشرات الأسئلة غيرها كانت تدور في ذهني وأنا أقرأ المقالات الفزعة التي يكتبها فلاسفة الانقلاب.
بعض هؤلاء الفلاسفة رفقة نضال، وكاد كبدي ينفطر وأنا أقرأ نصائحهم للنظام المستبد، وكيف يمكن أن يغير النظام ربطة عنقه لعل ذلك يخدع العالم فيقولوا عنه إنه شاعر أو راقص باليه أو رسام مرهف الحس بدلا من قاتل مأجور خسيس !
أيها السادة … لن تستطيعوا تسويق الانقلاب، فأنتم تريدون من المشتري أن يشتري قارورة نتنة على أنها عطر جديد، وإذا اعترض قلتم له أنت لا تفهم في العطور، أو متآمر، أو إخوان !
لقد صورتم ميدان التحرير في ثورتكم المزعومة بكل الطرق الممكنة، أرضا وجوا، سينيمائيا وفوتوغرافيا، صورتموه وجملتموه وأضفتم له سائر المؤثرات ومكسبات الطعم والرائحة … وفي النهاية نسي الناس هذه الصورة، ولم تتمكنوا من (تسويق) هذا المنتج، وظلت صورة الميدان الحقيقية الطبيعية النظيفة في أذهان العالم كله، صورة ميدان التحرير في ثورته الحقيقية في الخامس والعشرين من يناير 2011.
ستبقى هذه الصورة إلى الأبد، دون أي جهد منا لتسويقها، وسيبقى ما حدث في يوليو 2013 انقلابا عسكريا … مهما فعلتم.
أقول ذلك سواء كتبت النيويورك تايمز ذلك، أم لم تكتب، أقول ذلك حتى لو كتبت النيويورك تايمز وصحف العالم كله غدا عكس ما كتبته اليوم.
سيظل ما حدث في الثالث من يوليو 2013 انقلابا عسكريا ولو قالت الإنس والجن غير ذلك، وستظل ثورة يناير مستمرة، وستنتصر قريبا جدا بإذن الله، ولن نحتاج لتسويق انتصارها في الشرق أو الغرب.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين …
المصدر: عربي 21