فُجع العالم الأدبي والروائي يوم السبت 23 من يناير/كانون الثاني من العام الحاليّ برحيل الأديب السوداني الكبير إبراهيم إسحق إبراهيم مؤلف رواية “حدث في القرية”، الذي وافته المنية في الولايات المتحدة حيث انتقل للعلاج، ويعد إبراهيم من أعمدة الرواية العربية الحديثة، ومُتجهًا في رؤية بلاده بنسقٍ إبداعي حقيقي.
من مواليد قرية ودعة محافظة دارفور بغرب السودان عام 1946، أتم تعليمه حتى المرحلة الجامعية في السودان، ثم انتقل وبدأت رحلة هجرته عن وطنه حيث استقر حتى العام 2006 في الرياض بالمملكة العربية السعودية.
تجربة إبراهيم الروائية التي بدأت مع رواية “حدث في القرية” عام 1961 تجربة ناضجة، فقد حصل على جوائز كثيرة منها جائزة الآداب والفنون التشجيعية في مهرجان الثقافة والآداب والفنون الخرطوم 1979، ومُنح الدكتوراه الفخرية من جامعة الفاشر بالسودان 2004، وشغل مناصب إدارية في اتحاد الأدباء والكتاب ولجان التحكيم في مسابقات متنوعة.
توزعت أعماله بين الروائية مثل: أعمال الليل والبلدة 1971 ومهرجان المدرسة القديمة 1976 وأخبار البنت مياكايا 2001 ووبال في كليمندو 1999 وفضيحة آل نورين 2004، والمؤلفات القصصية مثل: ناس من كافا 2006 وعرض حالات كباشية 2011 وحكايات من الحالات.
إبراهيم إسحق الذي تحدث عن الواقع السوداني والأرض اليباب واللهجة العامية لصيقة الواقع ولسان الحال، يعد من الأدباء الذين لهم تجربتهم الثرية في المشهد الثقافي الحديث، وقد تحدث الأديب العالمي الطيب صالح عن براعة الكتابة الأدبية عند إبراهيم إسحق إبراهيم حين أكد أن رواياته التي قدمها عن السودان، لا سيما غربه، والبيئة الغائبة عن المشهد السياسي والثقافي والروائي، كانت شجاعة وبليغة ومصورة بتميز وتفرد في تقديمها.
الذي يلفت النظر مع وفاته ومغادرته للحياة، أن هذا الروائي السوداني الذي عمل محكمًا في مسابقات مميزة مثل مسابقة الطيب صالح للقصة والرواية وغيرها، لم يحظ بالشهرة الكافية التي تنقل اسمه وعماد أعماله إلى العالم العربي
رغم تنقله بين بلدان كثيرة وغيابه عن أرض السودان، فإنه كرس أدبه لبلاده ولثقافتها وتقاليدها ومعاييرها المجتمعية، إذ تقوم تجربته الأدبية على نقل الواقع في الريف الغربي السوداني وتجارب الحياة فيه إلى العالم بلغةٍ ذكية وصور مشوقة.
وأول ملامح ذلك الوفاء للأرض والبلاد هو قيام قصصه ورواياته على أسماء الريف والمناطق والتراث السوداني، فظاهرة التسمية القريبة من اللهجة السودانية ملحوظة بشكل جلي في أعماله، إضافة إلى اللغة الريفية التي يُسيّر بها حوارات الشخوص في الروايات والإصرار على الإبقاء على لسان حال الحقيقة ومعاناة الناس الواقعية، مع إضفاء السمة الأدبية على الفضاء الروائي وأحداثه.
إن التفرد في سيرة إبراهيم يقف عند منهجه الروائي، إذ يؤكد النقاد أنه أول من أدخل إلى الرواية أسلوب الواقعية السحرية الذي يعتمد على ثلاثة محاور: الأسطوري والسريالي والعجائبي، حتى إن روايته “حدث في القرية” سبقت رواية ماركيز “مائة عام من العزلة” التي تعتبر أول عمل اعتمد الواقعية السحرية ونُشرت في نهاية الستينيات، ولم تترجم حتى بداية أوائل سبعينيات القرن الماضي، ما يؤكد مدى براعة الروائي السوداني ودقته في اختيار منهج سردي يحتكم فيه لقيمه التي يسعى للتعبير عنها بالكتابة الروائية، وللمهنية التي تفرضها هذه الكتابة عليه.
لكن الغريب المحزن، الذي يلفت النظر مع وفاته ومغادرته للحياة، أن هذا الروائي السوداني الذي عمل محكمًا في مسابقات مميزة مثل مسابقة الطيب صالح للقصة والرواية وغيرها، لم يحظ بالشهرة الكافية التي تنقل اسمه وعماد أعماله إلى العالم العربي، فظلت تجربته الروائية السودانية مثل بعض الشعراء السودانيين والمفكرين مخفية مطوية لا سيما عن المشهد الأكاديمي النقدي، وهذا ما يجعلنا نتساءل أمام عصر الشهرة السريعة والاتصال المباشر والتكنولوجيا المهيمنة على العالم: كيف تخفى عن العالم العربي تجربة مميزة، تنقل صدق الواقع العربي في بلدٍ عزيز مثل السودان؟! هل يعود الأمر إلى السياسات الثقافية العربية التي تُصعّد روائي وتُخفي آخر؟ أو من يدري، ربما هو حظٌ بشري لا أكثر، يعود إلى إحياء أسطورة أن المفكر والأديب والتشكيلي لا يُعرف ولا يُحتفى به إلا بعد وفاته ورحيله عن هذه القرية!