تشهد الساحة الإقليمية والدولية في الوقت الحاليّ العديد من التغيرات الجذرية التي من المتوقع أن يكون لها انعكاساتها على تماسك الأنظمة الحاكمة في بعض البلدان، في مقدمتها النظام المصري الذي استند في كثير من مقومات ترسيخ أركانه على دعم كيانات وقوى دولية له طيلة السنوات الماضية.
بعيدًا عن شعارات التأييد الشعبي لنظام عبد الفتاح السيسي، فإن العامل الأبرز الذي ساهم في استمرارية هذا النظام وصموده في مواجهة الغضب الداخلي والانتقادات الخارجية كان دعم نظام الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، ومن قبله حلفاء الثورة المضادة في المنطقة وعلى رأسهم الإمارات والسعودية.
وطيلة السنوات السبعة الماضية منذ 2013 وحتى اليوم كانت تلك الأنظمة حائط الصد أمام أي حراك ثوري من شأنه أن يستعيد ديمقراطيته المسلوبة، فكان الدعم المالي المستمر والتأييد السياسي المطلق، سلاحا السيسي لوأد أي بصيص أمل لإحياء روح يناير في نفوس المؤمنين بها.
اليوم وبعد مرور عشر سنوات على ذكرى 25 يناير، تغيرت قواعد اللعبة، فالحلفاء يتساقطون واحدًا تلو الآخر، والحاضنات السياسية والمالية بدأت تتهاوى شيئًا فشيئًا، ليبقى الأمل مجددًا في نفوس أبناء يناير، المؤمنين بأن الثورة فكرة لا تموت، وهدف لا ينهزم بخسارة جولة أو جولات، وأن من يملك النفس الطويل هو من ينتصر في نهاية المطاف مهما طال الزمن.
ترامب.. سقوط حاضنة السيسي
كانت إدارة ترامب على رأس القوى الدولية المساندة للسيسي، وعلى عكس علاقات زعماء ورؤساء دول العالم بالرئيس المنتهية ولايته كانت العلاقة مع الرئيس المصري لها نكهة خاصة، علاقة حميمية من طراز فريد، الأمر الذي كان مثار جدل وتساؤل لدى الكثير من المراقبين.
لم يخف ترامب إعجابه الشديد بشخصية السيسي، فهو ديكتاتوره المفضل كما جاء على لسانه، وربما يعود ذلك لالتزام الرئيس المصري بالحفاظ على المصالح الأمريكية في المنطقة ودعم توجهات واشنطن في الشرق الأوسط، سواء فيما يتعلق بالحفاظ على أمن ومصالح “إسرائيل” أم مناهضة تيارات الإسلام السياسي.
وفي الوقت الذي كانت صرخات المنظمات الحقوقية، المحلية والإقليمية والدولية، تدوي في جنبات الأمم المتحدة بشأن الانتهاكات التي تمارسها السلطات المصرية بحق المعارضين، كانت إدارة ترامب الحاضنة السياسية التي تستند إليها القاهرة حيال كل هجوم تتعرض له.
ورغم حالة الغضب والاحتقان الشعبي من تلك الممارسات التي أفرزت عددًا من الفعاليات الاحتجاجية في 20 من سبتمبر/أيلول 2019، كان موقف ترامب الأكثر تأييدًا لنظام السيسي وممارساته، إذ علق على تلك التظاهرات خلال لقائه مع السيسي على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، في 23 من سبتمبر/أيلول 2019 بقوله “المظاهرات تحدث في جميع الدول”.
وأضاف “المظاهرات تحدث في جميع الدول، ولدى مصر قائد رائع ويحظى بالاحترام”، وكان هذا أول تعليق رسمي للرئيس الأمريكي على التظاهرات النادرة التي تشهدها مصر، الأمر الذي أعطى القاهرة الضوء الأخضر للتنكيل بالمعارضة وتقليم أظافرها دون قلق من أي رد فعل دولي.
وبحسب منظمة العفو الدولية، اعتقلت السلطات المصرية في تلك الأيام أكثر من 2300 شخص – من بينهم ما لا يقل عن 111 طفلًا -، إضافة لعمليات الاعتقال التعسفية المستهدفة لمحامين حقوقيين وصحفيين ونشطاء سياسيين وسياسيين، فيما علقت نجية بونعيم، مديرة الحملات لشمال إفريقيا في المنظمة بقولها: “لقد دبرت حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي هذه الحملة للقضاء على أدنى مؤشر للمعارضة، وإسكات صوت كل منتقد للحكومة. فموجة الاعتقالات الجماعية غير المسبوقة، التي شملت العديد من الذين لم يشاركوا حتى في الاحتجاجات، إنما تبعث برسالة واضحة مفادها – أن أي شخص يُتصور أنه يشكل تهديدًا لحكومة السيسي سيتم سحقه”.
وأمام هذا الدعم لم يجد نظام السيسي حرجًا في توسيع دائرة التنكيل بالمعارضين، وهو ما تكشفه أرقام المعتقلين السياسيين في مصر خلال سنوات حكم السيسي، حيث تجاوز عددهم الإجمالي وفقًا للعديد من المنظمات غير الحكومية، 60 ألف سجين سياسي، بينهم صحافيون ومحامون وأكاديميون ونشطاء فضلًا عن الإسلاميين.
يذكر أنه في عهد السيسي (7 سنوات حتى اليوم) بُنيَ 22 سجنًا جديدًا، 19 في 2016 فقط، و2 في عامي 2017/2018 وسجن آخر في مارس 2019، فيما يبلغ عدد المعتقلين والمحتجزين بصفة عامة 109 آلاف مسجون، 60 ألف منهم سياسي و49 ألف جنائي وفقًا لإحصاءات الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان.
بايدن.. مصدر قلق وترقب
الخطاب الإعلامي المصري الداعم لترامب خلال الانتخابات الرئاسية التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي يعكس حالة القلق التي تخيم على القاهرة من فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن، لما له ولحزبه السياسي من مواقف مناهضة للانتهاكات الحقوقية التي تمارسها السلطات المصرية.
بايدن خلال حملته الانتخابية في يوليو/تموز 2020 أكد أن إدارته – حال فوزه – لن تقف مكتوفة الأيدي حيال الانتهاكات المتكررة لحقوق الإنسان في مصر، كما فعلت إدارة ترامب، وهو الموقف الذي عكس ملامح السياسية الخارجية لبايدن تجاه القاهرة مبكرًا.
في 12 من يوليو/تموز 2020 غرد بايدن بمناسبة عودة المواطن الأمريكي ذي الأصول المصرية محمد عماشة إلى أمريكا، بعد اعتقاله لأكثر من عام في القاهرة، بسبب حمل لافتة في ميدان التحرير مكتوب عليها “الحرية لجميع السجناء” قائلًا: “أخيرًا عاد محمد عماشة إلى وطنه بعد 486 يومًا في السجن المصري لحمله علامة احتجاج، إن اعتقال وتعذيب ونفي النشطاء مثل سارة حجازي ومحمد سلطان أو تهديد عائلاتهم أمر غير مقبول. لا مزيد من الشيكات على بياض للدكتاتور المفضل لترامب”.
وقبل هذا الوقت بأشهر قليلة (منتصف يناير/كانون الثاني 2020) كان قد غرد تعليقًا على وفاة مصطفى قاسم، المواطن الأمريكي من أصل مصري في أثناء سجنه داخل مصر، قائلًا “أتضامن مع أسرة مصطفى قاسم، وأصلي لها في هذا الوقت العصيب. الأمريكيون المحتجزون ظلمًا في أي مكان في العالم يستحقون دعم حكومتنا الكامل، وبذل الجهود الدؤوب لضمان إطلاق سراحهم”.
وكانت السلطات المصرية قد أفرجت خلال الأيام الماضية عن عدد من سجناء الرأي من صحفيين وسياسيين في خطوة فسرها مراقبون بأنها تعكس حالة القلق المسيطرة على النظام المصري من تطابق مواقف بايدن مع مواقف الحزب الديمقراطي التقليدية، خاصة تلك التي اتبعتها إدارة الرئيس باراك أوباما بين عامي 2008 و2016.
يذكر أنه مع اليوم الثالث لبايدن في الحكم أوقفت إدارته طلب حصانة قدمته الحكومة المصرية – سابقًا – بخصوص رئيس الوزراء المصري السابق حازم الببلاوي (المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي حاليًّا)، في مواجهة القضايا المرفوعة ضده بسبب تعذيب المواطن الأمريكي ذي الأصول المصرية محمد سلطان في السجون المصرية حينما كان الببلاوي رئيسًا للحكومة في عهد عدلي منصور 2013، الأمر الذي ربما يعرضه للتوقيف حال إدانته، وما لذلك من دلالة مبكرة على ملامح المرحلة القادمة.
حلفاء السيسي.. العقد ينفرط
ما كان للسيسي أن يعبر بدولة الثالث من يوليو/تموز دون دعم مطلق من أباطرة الثورة المضادة في المنطقة، الإمارات والسعودية، حيث كانا أكبر الداعمين لإجهاض الثورة وتعتيم نورها، وفتح المجال أمامهم لضخ عشرات الملايين من الدولارات لخلق حالة من التأييد الشعبي المصطنع لحراك الـ30 من يونيو/حزيران 2013.
حتى بعد الإطاحة بأول نظام مدني منتخب، ما كان للثورة المضادة أن تستمر دون دعم اقتصادي وسياسي كبير، فكان أبناء زايد والعاهل السعودي الراحل، الملك عبد الله بن عبد العزيز، على رأس من تحملوا تلك الكلفة باهظة الثمن، في مقابل وأد التجربة الثورية، خوفًا من تمددها إلى أنظمة الحكم الخليجية التي كانت تعاني هي الأخرى من مناوشات بين الحين والآخر، تم نحرها مبكرًا.
اليوم وبعد عشر سنوات من الثورة، وثماني سنوات من الثورة المضادة، تغيرت خريطة التحالفات، وبدأ العقد ينفرط شيئًا فشيئًا، بسبب تباين الأجندات والمواقف حيال العديد من الملفات الإقليمية والدولية، هذا بخلاف انشغال كل طرف في هذا الحلف بأموره الداخلية.
فالسعودية خلال العامين الأخيرين تحديدًا تسير وفق إستراتيجية مختلفة نسبيًا، تتعارض في بعض مساراتها مع القاهرة، لا سيما بعد التخاذل الواضح لدعم التحالف العربي في اليمن، بخلاف تباين الرؤى بخصوص بعض الملفات ومنها ملف الأزمة الخليجية التي بادرت الرياض لحلحلته خلال قمة العلا الأخيرة، وهو الموقف الذي جاء عكس هوى نظام السيسي الذي وجد نفسه متورطًا في الأزمة دون مبرر، ومجبرًا على المصالحة دون مكاسب.
هذا بخلاف انشغال النظام السعودي بأزماته الداخلية ومحددات أمنه القومي في ظل المواجهات المستمرة مع الحوثيين من جانب، والأزمة الاقتصادية الناجمة عن تراجع أسعار النفط من جانب آخر، بخلاف الانتقادات الدولية الخاصة بالملف الحقوقي بعد اغتيال الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول قبل عامين.
أما بالنسبة للإمارات، فما تواجهه من مشاكل كبيرة في اليمن خاصة على الشريط الحدودي الجنوبي وخلافاتها مع السعودية، بجانب تباين الرؤى في الملف الليبي بعد الهزائم المتتالية لقوات اللواء متقاعد خليفة حفتر، وعدم دعم القاهرة لموقف أبوظبي في تلك الملفات، أسفر عن خلافات دفينة بين البلدين رغم ما يتم تسويقه من تناغم في الظاهر.
إضافة إلى ذلك؛ المشاكل الداخلية التي تواجهها الإمارات بسبب سياستها الخارجية، وتهديد الحوثيين باستهداف الداخل الإماراتي أكثر من مرة، الأمر الذي أثار القلق لدى حكام الدولة الخليجية لا سيما تجاه أسلوب إدارة ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد الذي ورط بلاده في خلافات مع العديد من قوى المنطقة.
حتى الحليف الإسرائيلي لم يعد كما كان، فبعد سنوات من الدعم المطلق من حكومة بنيامين نتنياهو لحكومة السيسي والتقارب الملحوظ بين النظامين تجاوز حتى ما كان عليه الوضع إبان إبرام معاهد السلام 1979، ها هو نتنياهو يواجه شبح الإقصاء السياسي بعد الضربة الموجعة التي تلقاها في الانتخابات البرلمانية الأخيرة وفشل خلالها في الحصول على الأغلبية التي تمكنه من تشكيل الحكومة وتعادله مع غريمه السياسي بيني غانتس.
وفي الأخير فإن تلك المتغيرات وإن كانت لا تؤثر بالشكل المحوري بعدما نجح السيسي في ترسيخ أركان نظامه، لكنها على الأقل من الممكن أن تكون نواة يمكن الانطلاق منها نحو استعادة الروح الينايرية مرة أخرى، وذلك عبر توظيفها لفضح الممارسات الانتهاكية لهذا النظام عالميًا بعد تجريده من حصاناته الدولية التي منحت له عن طريق حلفائه.