ترجمة وتحرير نون بوست
في وسط المكان الذي بدأ فيه كل شيء، كان منصور محمد يعيش في كشك مغطى بالمشمع في البقعة الخضراء الوحيدة وسط أميال من الخرسانة والأسمنت، لمدة 10 أيام كان يأكل وينام وسط مجموعة من الغرباء اجتمعوا معًا بدافع الغضب المتزايد والثورة في كل مكان.
كانت الحشود الهائلة تتدافع وهي تهتف بمطالبها للتغيير في هتاف يرج أنحاء ميدان التحرير في القاهرة، يقول محمد: “لا يمكن أن أنسى هذا الصوت أبدًا، لقد كان أقوى ضجيج أسمعه في حياتي، كان أقوى من 10 طائرات عملاقة، لقد كان تحررًا لستة عقود من الخوف”.
بعد عقد من الزمان أصبحت قاعدة انطلاق الثورة المصرية – التي أصبحت جزءًا أصيلًا مما عُرف بعد ذلك بالربيع العربي – مكانًا مختلفًا تمامًا، كما هو حال البلاد، أصبحت بقعة العشب مغطاة بالأسمنت ويقف عليها نصب تذكاري جديد يشير إلى السماء في تذكير صارخ بأوقات اليقين الراسخ.
يتحرك المرور بهدوء حول الميدان الخالي من المتظاهرين أو أي محاولة للاحتجاج، فالشرطة السرية تتمركز في مكان قريب، ليس بشكل سري تمامًا، هناك القليل من الحديث عن الثورة ومحاولات لإثارة أشباح ميدان التحرير التي تقابلها اليد الثقيلة للدولة العسكرية القوية التي رسخت وجودها في أعقاب الثورة.
بدأ الأمر بشكل مختلف تمامًا لمعاذ عبد الكريم، ففي صبيحة 25 يناير 2011 اجتمع معاذ مع مجموعة من الشباب المصري في شقق على الجانب الآخر من نهر النيل ثم شقوا طريقهم إلى محل الفطائر حيث استعدوا لتغيير التاريخ.
كان الموقع بعيدًا عن متناول شاحنات الشرطة وبعيدًا عن شبكة قادة الأمن الذين كانوا يمشطون المدينة بحثًا عن المخربين الذين شحنتهم ثورة تونس حيث أجبروا الديكتاتور زين العابدين بن علي على الرحيل خارج البلاد قبل عدة أسابيع.
كانت حارات الحي الضيقة قد منحتهم الفرصة لتنظيم أنفسهم وجمع عدد من الناس قبل أن تقتحم شرطة مكافحة الشغب المكان، كان عليهم أن يتفوقوا على مطارديهم بطريقة مميزة، وذلك بحشد المؤيدين على منصات التواصل الاجتماعي، تلك الطريقة الاستثنائية التي ستؤدي لاحقًا إلى تحطيم الأوهام بأن قوات الرئيس حسني مبارك لا يمكن مواجهتها.
في صباح ذلك اليوم اجتمعت المجموعة في محل مخبوزات الحايس وشرعوا في تنفيذ خطتهم، يقول عبد الكريم – الذي يعيش في المنفى بأوروبا الآن -: “كان الاجتماع في المخبز خطوة واحدة فقط من الخطة، كانت هناك مجموعات مختلفة أخرى ننسق معها، وكانت مهمة مجموعتنا أن تبقى في المخبز بميدان مصطفى محمود، كنا نراقب الشرطة لنرى إذا كانت ستهاجم المتظاهرين”.
يضيف عبد الكريم: “كنا نعتقد أننا إذا نجحنا فستصبح مصر أفضل، وإذا فشلنا فسنموت أو نقضي بقية أعمارنا في السجون، طوال حياتي كان مبارك رئيسًا لمصر، كنت أحلم دائمًا أن أرى ئيسيًا آخر من أسرة أخرى”.
“كانت مهمتنا أن نجمع المتظاهرين معًا فلا تستطيع الشرطة السيطرة على الوضع، عندما يكون عدد المتظاهرين قليلًا تستطيع الشرطة اعتقالهم ببساطة ويفشل الأمر، بعدها بقليل تجمع أكثر من 2000 شخص ولم تتمكن الشرطة من السيطرة على الموقف، في تلك اللحظة أدركت أننا نجحنا لأنني رأيت الناس من جميع الفئات ومن مختلف المستويات الاجتماعية، الغني والفقير، الشاب والكهل، يقفون معًا في صف واحد”.
في ذلك الوقت كانت دعوات التظاهر على وسائل التواصل الاجتماعي للتجمع في مناطق القاهرة المختلفة والأماكن العامة قد صنعت زخمًا لا يمكن إيقافه، يقول عبد الكريم: “كانت وسائل التواصل الاجتماعي أهم أداة في الثورة، حيث يمكن للناس أن يتواصلوا بسهولة ويعبروا عن أنفسهم دون رقابة”، لقد دهس المنشقون على دولة مبارك البوليسية بهواتفهم الذكية وحسابات فيسبوك.
بحلول 28 من يناير أصبح ميدان التحرير بوتقة لمطالب لا هوادة فيها لمصر جديدة، وخلال أسبوعين زرعت بذور رحيل مبارك، في هذا الوقت قرر الرئيس الأمريكي باراك أوباما تراجع واشنطن عن دعمها الطويل للقائد المصري الذي حكم البلاد لمدة 30 عامًا، ودعمت ثوار مصر، قال أوباما: “لقد أوضح المصريون أنه لا شيء أقل من الديمقراطية الصادقة لقيادة اليوم”.
أصبح هناك تحدٍ الآن أمام الجيش المصري الذي وقف مع المتظاهرين مع ازدياد مطالبهم، قال أوباما: “لقد خدم الجيش بشكل وطني ومسؤول بصفته راعيًا للدولة، ويجب عليه أن يضمن الآن انتقالًا ذا مصداقية في أعين الشعب المصري”.
تقول سلوى جمال – مؤيدة للثورة اضطرت للفرار من مصر عام 2014 -: “لم يكن أوباما يعلم ذلك حينها، لكن كلماته كانت نقشًا على ضريح، فمنذ تلك اللحظة كان الجيش يخطط للاستيلاء على مقاليد الحكم”.
قالت الناشطة والباحثة المصرية نانسي عقيل إن يوم تنحي مبارك – 11 من فبراير – كشف أن الأشهر القادمة ستكون أي شيء إلا انتقال سلس للديمقراطية، “لقد كانت أسوأ لحظة بالنسبة لي، رأيت دبابات الجيش وعلمت أنه سيتولى زمام الأمر، رأيت الناس يوزعون الزهور على الجيش وينظفون الشوارع ويمسحون رسومات الحائط “الجرافيتي”، لقد كانت بداية مسح آثار الثورة، خلال ذلك كله كان الناس يقولون لا، إن الجيش في جانبنا، لكننا نعرفهم ونعرف كيف يديرون الأمور”.
عام 2012 جرت انتخابات ديمقراطية في مصر وتم انتخاب أول رئيس بشكل ديمقراطي – محمد مرسي – عضو جماعة الإخوان المسلمين، الذي سرعان ما أعلن منح نفسه المزيد من القوة ما تسبب في تزايد الاستياء من حكومته.
خلال أقل من عام تم الإطاحة بمرسي من منصبه بانقلاب عسكري قاده وزير الدفاع آنذاك الجنرال عبد الفتاح السيسي الذي حلّ البرلمان وحظر جماعة الإخوان المسلمين، ومنذ ذلك الحين انطلقت حملة قمع ضد المعارضة التي ما زالت مستمرة حتى اليوم، وانتُخب السيسي مرتين على التوالي.
منذ ذلك الحين حاول الرئيس المصري الجديد محو كل آثار الثورة باستخدام القمع المفرط لسحق كل مطالب التغيير، لقد دُمرّ المجتمع المدني في مصر واضطر فنانوه ومفكروه وصحفيوه والأكاديميون على نطاق واسع إلى الصمت أو النفي أو السجن.
وحتى المعارضة السياسة تعرضت للإعاقة أو الاستقطاب وأخُرست الإدانة الدولية منذ مدة طويلة، في بداية ديسمبر/كانون الأول الماضي قدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “وسام جوقة الشرف” – أعلى جائزة مدنية في فرنسا – للسيسي متجاهلًا سجل حقوق الإنسان الذي وصفته المنظمات غير الحكومية العالمية بالوحشي.
حظيت مزاعم السيسي بالمساعدة في وقف الهجرة إلى أوروبا والوقوف كحصن أمام التهديدات الأمنية بالدعم التكتيكي، وأدى القمع الممنهج وسحق المعارضة إلى الحد الأدنى من العواقب والإفلات من العقاب، قالت هيومن رايتس ووتش إن هناك 60 ألف معتقل سياسي في مصر عام 2019.
رغم القمع، قال خالد منصور – المدير التنفيذي السابق للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية – إن الكثير ممن دعموا الثورة مستعدين للقيام بذلك مرة أخرى، وأضاف “إنها ما زالت نقطة تحول، لكننا لا نتجه دائمًا نحو الوضع المريح أو الاتجاه الصحيح”.
قال منصور: “الشيء الوحيد الذي يملكونه وسمح لها بالبقاء في السلطة هي القوة، لقد كانت موضوعات التماسك الاجتماعي والإنقاذ الاقتصادي والإرهاب وتهديدات الأمن القومي هي ما مكنت هذه الوكالات للقول بأننا “الحصن الأخير” وتأجيل أي حديث عن التغيير”.
“ما نحتاجه ليس مصر موحدة، بل مكان يمكن للفصائل المختلفة أن تتحدث فيه مع بعضها وتتشارك في حوار سياسي دون مخاوف وجودية تطغى على الأمر، هل سنتمكن من مداواة الأمر؟ سيتطلب الأمر فترة طويلة من النقد الذاتي والاستبطان وهو أمر من الصعب حدوثه الآن”.
المصدر: الغارديان