قبل عشر سنوات من الآن لم يكن يتوقع أحد داخل المطبخ السياسي لنظام حسني مبارك أن الشعب الذي ظل مقهورًا لعشرات السنين من الممكن أن يخرج عن عباءة الخوف التي أجبر على ارتدائها، ليصرخ مطالبًا بإسقاط أحد أقوى الأنظمة في المنطقة – أو كما كانوا يظنون حينها – في 18 يومًا فقط.
الأمواج التي خرج فيها الثوار تباعًا لم تكن وليدة لحظة عابرة أو دعوة حماسية مؤقتة، بل كانت نتاج سنوات من القمع والفساد والتنكيل، حتى فاض الكيل وما عاد له من متسع، وهنا كسر الشباب سلاسل الاحتقان والخوف والاستكانة التي قيد بها غضبه لسنوات طويلة، لينتفض في وجه السلطة الغاشمة في وقت كان يسخر فيه النظام وعلى رأسه الرئيس من أي تحركات من هذا القبيل، قائلًا: “خليهم يتسلوا”.
ما أشبه اليوم بالبارحة… حيث يخيم الصمت على تلك الأجواء الملبدة بغيوم الاحتقان والغضب التي لا يمكن أن ينكرها منصف، تلك الحالة التي لم تترك بيتًا إلا وأظلته وإن كان بصورة نسبية، أوضاع معيشية متدنية، إقصاء لم يشهد التاريخ مثله، تغول غير مسبوق على مقدرات الدولة من جنرالات الجيش، انتهاكات حقوقية كانت مثار انتقاد الخارج قبل الداخل.
اللافت للنظر أنه وللمرة الأولى منذ انطلاق ثورة يناير في 2011 تغيب دعوات التظاهر والنزول للشوارع لإحياء ذكرى الثورة، وهي الملاحظة التي أوهمت أنصار الثورة المضادة والقابعين على كراسي الحكم في البلاد أنها مؤشر على أفول نجم يناير وإجهاض حلم المصريين في دولة مدنية ديمقراطية بعدما نسف العسكر هذا الحلم بقنابل الاعتقال والتعذيب والتنكيل وتضييق الخناق.
اكتفاء الثوار والمؤمنين بيناير بإحياء ذكراها العاشرة على منصات التواصل الاجتماعي وتجنب النزول الميداني ليس معناه مطلقًا أن شمس الثورة غابت، وأن إيمان الناس بها يتراجع، بل العكس قد يكون الصحيح، فرغم ما يمارس بحق الينايريين من خنق وكبت واستهداف وملاحقات، فإن جذوة شعلة الثورة لا تزال موقدة في وجدانهم، ليبعث الأمل مجددًا أن يناير فكرة والفكرة في علم الاجتماع السياسي لا تموت، ربما يعاد تحويرها وفق مقتضيات عصرية لكنها أبدًا لا تلفظ أنفاسها الأخيرة.
باريس الآن وإحياء ذكرى ثورة يناير #ثورة_يناير pic.twitter.com/XFzCSmKXeT
— Assem Elbaradei (@Assem_Elbaradei) January 24, 2021
النظام أكثر قلقًا
ما زالت الثورة وذكراها تمثل صداعًا في رأس السلطات الحاكمة التي تعلم يقينًا أنها مهما حاولت طمس هويتها وتشويه صورتها فإنها ما زالت تسكن أرواح أنصارها المؤمنين بها، وهو ما يدفعها كل عام لتجييش قوتها عند الحالة القصوى خشية أي حراك من هنا أو هناك يحمل معه شهادة وفاة رسمية للنظام.
ورغم غياب أي دعوات للتظاهر، سواء عن طريق شخصيات عامة أم قوى سياسية بعينها أم حتى دعوات فردية عبر السوشيال ميديا، فإن الإجراءات الأمنية المشددة في القاهرة والجيزة والإسكندرية على وجه التحديد، يليها باقي المحافظات، تعكس حالة القلق التي تسيطر على النظام.
حزمة الإجراءات والقرارات المتخذة خلال الساعات الماضية تشير إلى أن السيسي ورفاقه أكثر إيمانًا ببقاء جذوة الثورة مشتعلة في نفوس أنصارها من المؤمنين بها، إذ أصدر رئيس الحكومة قرارًا بإحالة بعض الجرائم من النيابة العامة إلى محاكم أمن الدولة طوارئ، وتضمنت هذه الجرائم، وفقًا لما نشر بالجريدة الرسمية، التجمهر وتعطيل المواصلات والترويع والتخويف والمساس بالطمأنينة.
ووفق المنشور بدأ العمل بالقرار اعتبارًا من الساعة الواحدة من صباح أمس الأحد، عشية ذكرى ثورة 25 يناير، وهو نفس اليوم الذي دخل فيه قرار تمديد حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد لمدة 3 أشهر، بعد تمرير مجلس النواب المصري (البرلمان) له قبل أيام.
قرار التمديد ينص في مادته الثانية على تولي “القوات المسلحة والشرطة اتخاذ ما يلزم لمواجهة الإرهاب وتمويله، وحماية الممتلكات العامة والخاصة وحفظ أرواح المواطنين” وهي الرسالة التي يبعث بها النظام إلى كل من يفكر في النزول للتظاهر أو إحياء ذكرى الثورة عبر فعاليات احتجاجية كما في الأعوام الماضية.
الأيام القليلة الماضية شهدت أيضًا العديد من الممارسات الانتهاكية بحق المواطنين ترهيبًا من فكرة التظاهر أو الاحتجاج وذلك عبر حملة توقيف شنتها قوات الأمن بحق بعض المعارضين والصحفيين بجانب تفتيش هواتف المارة في شوارع القاهرة والجيزة، وفق ما سجلته منصة “نحن نسجل” الحقوقية.
وفي تلك الأثناء يكثف الإعلام – بشتى أنواعه – المدعوم من النظام – على مدار الأسبوع الماضي وحتى كتابة هذه السطور- من نشاطه وتحركاته، لمحاولة محو أي أثر لثورة يناير من خلال التأكيد على أن 25 يناير هو عيد الشرطة المصرية فقط، وأن أي مناسبات أخرى في هذا اليوم لا تعدو كونها مؤامرة على الوطن تم كشفها في 30 يوليو.
إحياء من نوع آخر
رغم اللجان الإلكترونية المنتشرة والتحذيرات التي تلقاها البعض من التعبير عن دعمه لثورة يناير، فإن منصات التواصل الاجتماعي كانت أكبر توثيق لبقاء الثورة بذات أهدافها، حيث تحول كل من فيسبوك وتويتر إلى لوحات فنية عابرة لاستعراض قصص وحكايات الشباب مع الثورة.
فهذا أحمد… صحفي يعمل في إحدى الجرائد الحزبية، يشير إلى أن الثورة هي أنقى حدث في تاريخ جيله والأجيال السابقة له، وأنها ستظل أيقونة للكرامة والعزة، ومهما حاول أنصار الثورة المضادة وأدها فلن ينجحوا في ذلك، والدليل – على حد قوله – أنه ومع مرور 10 سنوات كاملة عليها لا تزال تفاصيلها عالقة في الذاكرة.
ويضيف الصحفي المصري في حديثه لـ”نون بوست” أن الزمن لو عاد ألف مرة سيشارك في الثورة مرات ومرات، إلى أن يتحقق الحلم في دولة مدنية ديمقراطية، يزخر مواطنوها بالعزة والإباء، ويتحقق فيها العدل والمساواة، وتتبوأ مقعدها بين دول العالم المتقدم.
أما صبري.. وهو محام وناشط حقوقي شارك في يناير، فيؤكد أن الأجواء الحاليّة تتشابه إلى حد كبير مع أجواء ما قبل 2011، وإن كانت أكثر قسوة في ظل إستراتيجية التنكيل الممنهجة التي يتبعها النظام الحاليّ، لافتًا إلى أن هناك حالة احتقان مفحمة تزلزل صدور الملايين من المصريين، لكن الخوف من البطش هو الحائل عن التعبير في ظل الحصانة الدولية التي يحظى بها نظام السيسي.
وأشار الحقوقي المصري إلى أن عدم نزول الناس للتظاهر لا يعني أفول نجم الثورة كما يتوهم البعض، بل إن الناس أرادت أن تعيد ترتيب الأوراق مرة أخرى بعدما ثبت أن الطرق التقليدية في التعبير عن غضبها ورفضها للنظام لم تعد تجدي نفعًا، فضلًا عن تجاوز السلطات الحاليّة للخطوط الحمراء في التعامل مع أرواح الشعب التي باتت بلا قيمة لديها.
السوشيال ميديا.. الحلم مستمر
نعم غابت دعوات التظاهر والنزول على منصات السوشيال ميديا لأسباب يعلمها الجميع في ظل قبضة أمنية لا تراعي أي معايير إنسانية أو حقوقية، ومعها الضوء الأخضر لكل السيناريوهات بلا خطوط حمراء، لكن في المقابل كان حلم الثورة حاضرًا وبقوة.
الثورة حلم لا يسقط بالتقادم.. هكذا وصف عبد الرازق، المدرس الأربعيني، الوضع بعد مرور عشر سنوات على يناير، لافتًا إلى أن الواهمين فقط من يعتقدون أن الزمن كفيل أن يُنسي حلم الشباب في بناء دولتهم وفق منظور أكثر رقيًا وتطورًا، هذا الأمل الذي كان على بعد خطوات من التحقيق لولا الخيانة والتآمر الإقليمي والداخلي على إرادة المصريين.
وعلى عكس ما يعزف الإعلاميون الداعمون لنظام السيسي، يشير عبد الرازق إلى أن روح الثورة تتعمق أكثر وأكثر في نفوس المصريين مع مرور الوقت، مضيفًا أن ممارسات السلطات الحاليّة وأداءها بصفة عامة يزيد إيمان الشباب بثورتهم ويدفعهم للتمسك بها حتى إن طال الزمن.
إصرار رأس النظام ومعه أبواقه الإعلامية على وأد يناير وتحميلها مسؤولية الفشل المتواصل على المسارات كافة، بين الحين والآخر، يزيد من إيمان الشباب بالثورة، التي لولاها ما كان السيسي في الحكم، ولو كتب لها النجاح لكانت مصر في منطقة أخرى تمامًا بعيدة عن التذيل والتقزيم الذي باتت عليه اليوم.
قواعد اللعبة تغيرت
لا شك أن قواعد اللعبة تغيرت خلال السنوات الماضية، فلم تعد التظاهرات دلالة الاحتجاج الوحيدة، ولم تستأثر المطاردات الأمنية بين الشرطة والثوار في الشوارع بمعاني الثورية والنضال، وما عاد سقوط الشباب واحدًا تلو الآخر معيار الشجاعة الأوحد.
النظام الحاكم بسلطاته الأمنية وقبضته المشددة لم تعد تجدي معه تلك الوسائل الثورية التقليدية التي باتت كتابًا مفتوحًا أمامه، يتعامل معها بحرفية ودقة عالية، فمهما كانت التظاهرات فالنتيجة الحتمية لا تخرج عن الزج بالعشرات داخل الزنازين والبعض يلفظ أنفاسه الأخيرة على وقع الرصاص الحي الذي يخترق الرؤوس والصدور، هذا في وقت ينشغل فيه العالم بأزماته الداخلية وقضاياه العامة ومصالحه، ومن ثم فلا مجال للحديث عن أوضاع حقوقية هنا أو هناك.
وبينما يتغزل أنصار النظام في إحكام القبضة على مقدرات يناير وغلق منافذها كافة، إذ بهم يواجهون منافذ من نوع آخر، اعتصامات عمالية واحتجاجات فئوية وإضرابات واحتقان يتصاعد بين فئات المجتمع، يتزامن ذلك مع حالة الفراغ السياسي والكبت الحقوقي التي يحياها غالبية المجتمع، بعيدًا عن ميادين الثورة التقليدية.
صوت الحُريه – هاني عادل، كايروكي
الذكرى العاشرة لـ ثورة ٢٥ يناير.❤️ pic.twitter.com/Ioxb4MYmbQ
— Music`Voice (@VOICE_721) January 24, 2021
ما كان مناسبًا قبل عشر سنوات لم يعد ملائمًا اليوم، ربما يكون الهدف واحد، والحلم كما هو، لكن الأدوات لا شك أنها قد تغيرت تبعًا للمستجدات الإقليمية والدولية، ومن قبلها الداخلية، التي سيكون لها تأثير واضح على المسار الثوري مستقبلًا وفق أبجديات مختلفة تمامًا عما كانت عليه.
وعي المعارضة بكل تياراتها المشتتة لدروس الماضي خلال السنوات الأخيرة وكيف تم التلاعب بشقاقها وتفتيت أواصر وحدتها لخدمة أجندة بعينها، من المرجح أن يكون قاعدة يمكن البناء عليها في ظل حالة الزخم الثوري التي تخيم على الشارع، وإن كان عبر ميادين العالم الافتراضي.
تحية لثورة 25يناير العظيمه.
ستبقى ثورة 25 يناير حية نابضه في قلوب الأحرار من أبناءها الذين شاركوا فيهاتحية لشهدائها في ذكرها ولشعب ولكل مؤمن بالعيش و الحرية و العدالة تحية للأحرار يوما ما سيتحقق أمل شهداء الوطن في العيش والحرية والعدل يوما ما سيتوقف نعيق البوم يوما ستشرق الشمس.. pic.twitter.com/Hlloc2zPvA
— محمد فراج (@Free_dom_66_) January 23, 2021
عشر سنوات مضت على ثورة العزة والإباء، ورغم مساعي الإقصاء والتشويه والتجهيل المتعمد، فإن شعارات الثورة الأولى (عيش – حرية – كرامة إنسانية) عادت مرة أخرى لتسحب البساط مجددًا على منصات التواصل الاجتماعي، إيذانًا منها بأن روح الثورة باقية وإن تهلهل جسدها، وأن الحلم لم يمت رغم محاولات وأده ليل نهار، ليبقى الثوار على العهد – وإن طال الأمد – انتظارًا للوقت المناسب لتعويض ما مضى ومحاسبة كل من خان وفرط والتعلم من دروس الماضي، من أجل مستقبل أكثر إشراقًا يليق بالمصريين.