يعد كوردوغلو مصلح الدين ريس (1487 – 1535) أحد أبرز أمراء البحرية العثمانية، وقاد أسطول الدولة العثمانية نحو عشرات الفتوحات التي كان لها أثرها البالغ في توسعة نفوذ الإمبراطورية الإسلامية، وعلى رأسها فتح جزيرة رودس التي عُين محافظًا لها.
ينتمي مصلح الدين صاحب الإسهامات البناءة في الفتوحات العثمانية لمصر، والدور المحوري في إنشاء الأسطول العثماني في المحيط الهندي الذي كان مقره مدينة السويس (شرق القاهرة)، إلى أسرة بحرية من الطراز الأول، فوالده كان بحارًا من الأناضول ثم ذهب إلى شمال غرب إفريقيا ضمن الأسطول العثماني لتوسعة رقعة الإمبراطورية هناك.
اكتسب أمير البحرية العثمانية خبرته المتجذرة من الأسماء الكبيرة التي عمل معها، فكان رفيقًا لأباطرة البحر في هذا الوقت، على رأسهم خير الدين بربروسا وكمال ريس وبيري ريس، فنهل من خبراتهم ونهلهم إياها، حتى صاروا علامات مضيئة في سماء البحر المتوسط.
قيادة البحر
كان لطبيعة عمل والده البحرية دور كبير في عشق كوردوغلو للبحار منذ صغر سنه، فكان دائم التنقل مع والده وأقرانه وأقاربه، وكان تربطه علاقات قوية بالبحر وأمواجه وسفنه العملاقة، حتى إنه استطاع قيادة أسطول بحري في سن لم يتجاوز الـ15.
كانت تحركاته البحرية – بحسب والده – تتمحور بداية حياته في شمال إفريقيا، وبينما هو على مشارف العقد الثاني حصل على إذن من سلطان حفصي بالجزائر، أبو عبد الله محمد الخامس الذي حكم خلال الفترة من 1494 حتى 1526، باستخدام قاعدة بنزرت البحرية لقيادة عملياته في المتوسط، وكان ذلك نظير حصول السلطان على جزء من الأرباح والغنائم التي يحصل عليها من سفن أوروبا.
ويعد العام 1508 البداية الرسمية لعمليات مصلح الدين البحرية الرسمية، ففي صيف هذا العام جيش أسطولًا مكونًا من 30 سفينة تحمل 600 محارب، وهاجم به مدينة ليغوريا (شمال غرب إيطاليا)، حيث استطاع إحكام قبضته على المدينة والحصول على الكثير من المغانم.
من أعظم المآثر التي حققها كوردوغلو في حياته البحرية، إنشاءه الأسطول العثماني المصري ومقره مدينة الإسكندرية
عملياته البحرية المتتالية أثارت انتباه السلطان العثماني بايزيد الثاني (1447-1512) الذي دعاه في فبراير/شباط 1509 إلى المشاركة إلى جانب الأسطول العثماني لفتح جزيرة رودس التي كانت تحت قبضة فرسان القديس يوحنا، ورغم الحصار الذي فُرض على الجزيرة، فإن العثمانيين لم يتمكنوا هذه المرة من فتحها.
وخلال الحصار خاض أسطول كوردوغلو العديد من المعارك الجانبية الأخرى، استطاع خلالها أن يأسر بعض السفن الإيطالية والمغانم، ففي أغسطس/آب من نفس العام استولى على قادس (سفينة كبيرة) من إحدى السفن التابعة للدولة البابوية بالقرب من مصب نهر التيبر (وسط إيطاليا).
وبعد عام تقريبًا وتحديدًا في سبتمبر/أيلول 1510 أسر عشرات السفن المملوكة لأسطول الجمهورية البندقية، بجانب العديد من الجنود الأسرى، وذلك حين أحكم قبضته على بعض المناطق البحرية التي كانت تتمركز بها السفن البندقية في جزيرة أندروس وخيوس.
الفتح العثماني لمصر
بعد قدوم السلطان العثماني سليم الأول (1470- 1520) دعا كوردوغلو للخدمة في الأسطول العثماني والانضمام إليه بشكل كامل بعيدًا عن العمليات التي كان يقوم بها بشكل انفرادي بين الحين والآخر، وهي الدعوة التي قابلها بالترحيب أمير البحر الذي وجد في الانضمام للبحرية العثمانية فرصة لإثبات قدراته وإمكاناته.
وقبيل الانضمام للأسطول الإسلامي مارس كوروغلو هوايته المفضلة في الهجوم على أساطيل إيطاليا، فهاجم المدن الساحلية لإقليم ليغوريا واغتنم منها الكثير، حيث حصل على عدد من السفن التجارية والعسكرية التي كانت ترسو في صقلية وجنوة، وأرسلهم إلى قاعدة بنزرت.
وبينما هو في معاركه الخاصة تلقى القائد البحري العثماني رسالة من السلطان يطلب منه فيها أن يكون قائدًا للأسطول العثماني وأن ينضم للحملة العثمانية ضد المماليك في مصر (1516-1518) إلا أن مشاركته تأخرت بسبب الهجوم الفرنسي الإسباني على بنزرت وحلق الوادي في أغسطس/آب 1516.
وفي مارس/آذار1517 انضم كوردوغلو بأسطوله المكون من 30 سفينة إلى الحملة العثمانية ضد المماليك، حيث التحق بالأسطول العثماني بالقرب من جزيرة بوزجادا في تركيا متجهًا إلى مصر، وهناك أسند إليه السلطان قيادة خفر الشواطئ المصرية، لمنع السلطان المملوكي طومان باي من الهروب، وهو ما دعاه للاستسلام في الـ14 من أبريل/نيسان من العام ذاته.
ومن أعظم المآثر التي حققها كوردوغلو في حياته البحرية، إنشاءه الأسطول العثماني المصري ومقره مدينة الإسكندرية، كما أنشأ أسطول البحر الأحمر والمحيط الهندي العثماني وجعل مقره في مدينة السويس المصرية، وكان الهدف منه وقتها مواجهة الأسطول البرتغالي المتمركز في الهند، واستطاع هذا الأسطول أن يحقق العديد من الانتصارات خلال فترة قصيرة، بجانب تدشينه بعض المرافئ كما في عدن والبصرة.
فتح رودس
بعد أداء مهمته في مصر على أكمل وجه والقضاء على التمرد المملوكي وبناء الأسطولين البحريين في البحرين، الأحمر والمتوسط، عاد القائد البحري المخضرم إلى إسطنبول في مارس/آذار 1519، لاستعادة نشاطه هناك مرة أخرى، وبعد وصوله بستة أشهر فقط أسند إليه سليم الأول قيادة الأسطول العثماني الذي كان يعده السلطان لمعاودة فتح جزيرة رودس، مقر فرسان القديس يوحنا، مرة أخرى بعد محاولات عدة من الفشل.
لكن السلطان وافته المنية قبيل تحقيق حلمه في اقتحام الجزيرة، كان ذلك في 22 من سبتمبر/أيلول 1520، هذا في الوقت الذي كانت هناك عشرات السفن تحت الإنشاء، كان يتم إعدادها لتلك المعركة، وهنا جيش كوردوغلو كل ما يملك من أجل الانتهاء من تلك السفن، وفق ما ذهب يلماز أوزتونا في كتابه “تاريخ الدولة العثمانية“.
وعلى مدار عامين كاملين حاول الأسطول البحري العثماني تشديد حصاره على الجزيرة لفتحها، كانت المحاولة الأولى في مايو/أيار 1512 حين أبحر القائد العثماني على رأس أسطول مكون من 30 سفينة قادس و50 سفينة صغيرة، متجهًا نحو أطراف الجزيرة.
ظل أمير البحرية العثمانية يواصل جولاته البحرية في المناطق القريبة من رودس، محققًا عشرات الانتصارات على قوات البنادقة والأوروبيين، خلال السنوات الأخيرة من حياته
ورغم ما تحمله تلك الجزيرة “رودس” من أهمية إستراتيجية للعثمانيين كونها معقل قيادة القديس يوحنا، وأن السيطرة عليها ضربة موجعة للأسطول البحري الأوروبي، فإنها بالنسبة لكوردوغلو معركة استثنائية، إذ تعززت لديه روح الانتقام من فرسان القديس يوحنا بسبب أنهم قتلوا اثنين من إخوته وأبقوا أخًا آخر له سجينًا في الجزيرة.
وبنهاية ديسمبر/كانون الأول 1522 كانت الجزيرة تحت سيطرة العثمانيين بقيادة السلطان سليمان القانوني الذي تولى السلطنة خلفًا لوالده سليم الأول، وإيمانًا من السلطان بدور كوردوغلو مصلح الدين ريس في هذا الفتح، أمر بتعيينه محافظًا للجزيرة.
لم يكتف المحافظ الجديد بمهام وظيفته الإدارية فحسب، بل استمر في ممارسة هوايته المفضلة وهي خوض المعارك البحرية وتعزيز قائمة فتوحاته بالقرب من الجزيرة، وقد ساند خلال تلك المرحلة رفيقه الصدوق القائد الفذ خير الدين بربروس الذي كان يتولى مهام الاستيلاء على سفن البنادقة من ميناء الإسكندرية في مصر وإرسالها إلى قيادة الأسطول العثماني في إسطنبول.
وظل أمير البحرية العثمانية يواصل جولاته البحرية في المناطق القريبة من رودس، محققًا عشرات الانتصارات على قوات البنادقة والأوروبيين، خلال السنوات الأخيرة من حياته، إلى أن توفي عام 1535، بعدما صال وجال في مياه المتوسط والأحمر لمدة تتجاوز 27 عامًا.
ولأنه كان خير سلف في قيادة البحرية العثمانية، فإن ولده كوردوغلو خضر ريس كان خير خلف له، حيث قاد الأسطول العثماني في المحيط الهندي بعد وفاة والده، وخاض العديد من المعارك ضد القوات البرتغالية المتمركزة في الهند، كما قاد حملة الإمبراطورية ضد سومطرة في إندونيسيا (1568-1569م)، التي كان من نتائجها إعلان مقاطعة آتشيه الولاء للإمبراطورية العثمانية عام 1565 وظلت تحت الولاية العثمانية حتى 1569.