لم يصل اليهود المغاربة إلى “إسرائيل” إلا بعد قيام الكيان عام 1948 على الأراضي التي سلبتها الصهيونية غصبًا من الفلسطينيين، ومنحتها ليهود أوروبا الأشكناز الذين أحكموا سيطرتهم على دواليب الكيان حديث العهد، في الوقت الذي بدأت الأفواج الأولى من اليهود المغاربة تصل، هؤلاء لم يساهموا منذ البدء في تأسيس دولة الاحتلال، لكنهم التحقوا فيما بعد ليُلقى بهم في مستنقع العنصرية.
بوتقة الصهر
عام 1950 ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ديفيد بن غوريون خطابًا أعلن فيه عن استقطاب يهود جدد من خلفيات ثقافية متباينة شرقية وغربية، ضمن خطة أسماها “بوتقة الصهر” التي تقضي بدمج اليهود في آلية واحدة ينصهرون فيها معًا، لينتج عنها “اليهودي الإسرائيلي الجديد”.
حينما شرع بن غوريون في تنفيذ خطته، كان الإعلام الأشكنازي قد نجح في رسم صورة نمطية سيئة في أذهان المستوطنين السابقين ضد اليهود الذين كانوا ضحايا التهجير، ففي شريط وثائقي بثته قناة الجزيرة، يصف اليهودي المغربي، وأحد مؤسسي حركة الفهود السود، رؤوفين أبرجيل، هذه الصورة النمطية قائلًا: “كانوا دائمًا يكتبون في جرائدهم، بأنهم سيأتون بأناس جدد إلى “إسرائيل” يعتبرون أنفسهم يهودًا ولكنهم ليسوا كذلك، لهذا ينبغي الحذر منهم، لأنهم أشرار يعتدون على النساء ويسرقون المال، ومزعجون وكسالى لا يحبون العمل، يقضون يومهم في لعب الورق، ويجلبون معم الأمراض كلها.. لو عرفنا ما كتبوا عنا، لحملنا معنا القنابل وانفجرنا عليهم”.
بعدما ترك اليهود المغاربة منازلهم في أحياء الملاح وتجارتهم وأراضيهم، وجدوا أنفسهم يعيشون في الخيام بمستوطنات “الكيبوتس” حيث البرد والحر والجوع
برد وجوع.. وحزام أمني
لم يُسمح لليهود المغاربة بالوصول إلى الوطن الموعود إلا بدءًا من عام 1950 بعدما طردت الحركة الصهيونية الفلسطينيين من أراضيهم ونسفت قراهم واحتلت مدنهم، لتوزع الغنائم المغتصبة والوظائف على اليهود الأشكناز، فسمحوا بعد ذلك لليهود الشرقيين والسفرديم القادمين من بلدان غرب البحر المتوسط، وفي طليعتهم المغاربة الذين بدأوا يصلون عبر البواخر إلى مدينة حيفا المحتلة.
يومها بدأ الأشكناز يشاهدون وصول المغاربة بملابسهم التقليدية – كالجلباب ونعال “البلغة” الرجالي و”الشربيل” النسائي – ولم يقبلوا أن يعيش هؤلاء بينهم مخافة أنهم يحملون أمراضًا، لأنهم “أوباش” يحتاجون لمئة سنة حتى يصيروا أناسًا متحضرين، وفقًا للصورة النمطية التي رسمها الإعلام العبري في أذهانهم.
بعدما ترك اليهود المغاربة منازلهم في أحياء الملاح وتجارتهم وأراضيهم، وجدوا أنفسهم يعيشون في الخيام بمستوطنات “الكيبوتس” حيث البرد والحر والجوع، وجميع شروط العيش الكريم منعدمة، في مناطق فقيرة وقاحلة، أما المحظوظون منهم فتم إسكانهم في البيوت التي جرى تهجير سكانها الأصليين من عصابات “الهاغاناه” الصهيونية، لكن جميع المغاربة كانوا يقيمون على خطوط المواجهة المباشرة، حينها اكتشفوا أن الكيان الصهيوني أتى بهم ليستخدمهم كحزام أمان له ضد الثوار الفلسطينيين.
انتفاضة وادي الصليب
لم يكن للمغاربة أن يقبلوا بهذا الاضطهاد والميز العنصري الذي مورس ضدهم في “إسرائيل”، فقرروا أن يتمردوا على الحركة الصهيونية ورفعوا شعارات تناشد ملك المغرب أن يتدخل لإرجاعهم إلى وطنهم.
اندلعت شرارة الانتفاضات التي فجرها المغاربة اليهود من حي وادي الصليب بمدينة حيفا، ابتداءً من 9 من يوليو/تموز 1959، مطالبين الحكومة الإسرائيلية برفع الحيف والميز العنصري عنهم، الذي اضطر بعضًا منهم إلى تغيير اسمه حتى يصبح أوروبيًا مثل الأشكناز، بينما اختار آخرون مواجهة الحكومة الإسرائيلية، بعدما التحقت عناصر من الشرطة الإسرائيلية لتفريق شجار في أحد المقاهي، وأطلقت الرصاص على أحد المغاربة وأردته قتيلًا.
كان من بين المتزعمين لانتفاضة وادي الصليب دافيد بن هاروش، الذي حمل قميصًا ملطخًا بدماء المغربي المقتول، ثم كتب بدمه عبارة: “يا ملك المغرب تعال وأرجعنا إلى المغرب”، فعمد سكان الحي على الترد، فأضرموا النيران في سيارات ونهبوا محلات تجارية ورفعوا أصواتهم معبرين عن الحيف اللاحق بهم جراء سياسة الحكومة الإسرائيلية لكونهم من اليهود المغاربة، لهذا قرروا أن يغيروا مصيرهم بأيديهم بعدما بلغ السيل الزبى.
تحدت الشرطة الإسرائيلية المتظاهرين بالقوة واعتقلت الكثير منهم، لكن أصداء التمرد انتشرت في العديد من المناطق التي يتجمع فيها يهود مغاربة، وتحدوا الحكومة الصهيونية بتنظيم مظاهرات وإضرابات للتعبير عن سخطهم من التمييز العنصري والمطالبة بحقوقهم في التعليم والعمل والسكن أسوة باليهود الأشكناز.
الفهود والشرطة.. عنف متبادل
في بداية السبعينيات اندلعت مظاهرات تحت لواء حركة الفهود السود، تزعمها مغاربة يهود، مستلهمين ذلك من حركة السود في الولايات المتحدة الأمريكية المناهضين للتمييز العنصري، بعدما أعلن أعضاء الفهود السود عن بدء نشاطاتهم في مظاهرة أمام مكتب رئيسة الوزراء غولدا مائير، اعتدت عليهم الشرطة واعتقلتهم، وقابلتهم غولدا مائير لتخاطبهم بلهجة احتقار قائلة: “من أنتم؟ لستم إلا مجموعة من الصعاليك والحثالى.. من خول لكم الحق في التكلم باسم اليهود المغاربة؟”.
استنكر أعضاء حركة الفهود السود وصفهم بالمخربين والخارجين عن القانون من طرف رئيسة الحكومة الإسرائيلية، لهذا عزموا العقد على الخروج إلى الشوارع مرة أخرى في مظاهرة غير مرخصة من الشرطة، عرفت مشاركة نحو سبعة آلاف من يهود المغرب والشرق الذين واجهوا العنف بالعنف مستخدمين المولوتوف ضد عناصر الشرطة، ما تسبب في وقوع جرحى في صفوف الجانبين، واعتقل عدد كثير من المتظاهرين، بعد ذلك اعترفت السلطات الإسرائيلية بالفهود السود كحركة اجتماعية بعدما كانت تنظر إليها كحركة إرهابية.
تمثلت مطالب الحركة في تصفية الأحياء الفقيرة وتوفير التعليم المجاني في المدارس والجامعات ورفع الدعم المالي للعائلات كثيرة الأولاد، كما ثاروا على الحكومة التي تخصص ميزانيات كثيرة للقضايا الأمنية بدلًا من القضايا الاجتماعية والتعليمية والسكنية، ورغم بقاء بعض الأصوات التي تنادي بنفس الآراء والمطالب السابقة، أخذت حركة الفهود السود تتفكك شيئًا فشيئًا بسبب سوء تنظيمها.
قبل الهجرة كان معظم اليهود المغاربة يشتغلون في التجارة ويؤدون دورًا بارزًا في الحياة الاقتصادية بالمغرب، لكن حالهم تغير بعد ذلك، ففي “إسرائيل” أداؤهم غير جيد في الاقتصاد والمال كما أنهم غائبون عن مجال التكنولوجيا والعلوم، هم حاضرون فقط في السياسة والجيش.