بعد مخاض انتخابي وصف بالأصعب في الولايات المتحدة الأمريكية، تولى الرئيس الأمريكي جو بايدن السلطة في الـ20 من يناير/كانون الثاني الحاليّ ليكون الرئيس الـ46 منذ إقامة الجمهورية في الولايات المتحدة الأمريكية. ولعل الملف الأكبر الذي يشغل الإدارة الجديدة يتمثل بمنطقة الشرق الأوسط وما فيها من مشكلات تمتد من إيران إلى العراق ثم سوريا فاليمن.
الأسطر التالية لـ”نون بوست” تقدم قراءة في وضع أكراد العراق في ظل الإدارة الجديدة وطموحات حكومة إقليم كردستان في المساعدات الأمريكية المادية والدبلوماسية تجاه العديد من القضايا الداخلية والاقتصادية وملف حزب العمال الكردستاني وتركيا.
طموحات الأكراد سياسيًا
يعود تاريخ العلاقات العامة بين الولايات المتحدة وأكراد العراق إلى عقود خلت، وقد بُنيت في إطار الحرب الباردة حين اعتبرت واشنطن الشعب الكردي في العراق قوة موازنة محتملة لانقلاب عام 1958 الذي أطاح بالحكم الملكي الهاشمي في العراق وأتى بعبد الكريم قاسم إلى السلطة وهو الذي كان مواليًا للاتحاد السوفييتي بنظر الأمريكان، بحسب الكاتب الكردي سردار عزيز.
ويضيف عزيز في مقال تحليلي له “جو بايدن يملك تاريخه الخاص في العراق، إذ إنه مطلع على مسائل المنطقة والقضية الكردية على وجه الخصوص ومنخرط فيها منذ فترة طويلة، حيث تعود علاقة بايدن بالعراق إلى ما قبل الغزو الأمريكي حين زار رفقة صديقه السيناتور تشاك هيغل (جمهوري من ولاية نبراسكا) الإقليم في رحلة لا تُنسى في ديسمبر/كانون الأول 2002”.
ويتابع أن بايدن ألقى خطابًا أمام البرلمان الكردي بصفته رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي وطمأن الأكراد مؤكدًا لهم حينها أن واشنطن ستدعم مساعيهم لبناء عراق موحد، وناقض بتصريحاته تلك المقولة الكردية المأثورة: “الجبال ليست صديقكم الوحيد”.
أنعش فوز الديمقراطي جو بايدن بالرئاسة الأمريكية آمال أكراد العراق بعد فترة من خيبات الأمل والانكسارات والتناقضات والأزمات التي رافقت سياسة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وخذلانه أكراد العراق في أكثر من محطة سياسية، لعل أبرزها رفضه الكامل استفتاء الانفصال الذي أجراه الإقليم عام 2017، فضلًا عن تماهيه وسماحه بتوسع التدخل الإيراني والتركي في شؤون الإقليم والسماح لتركيا باستهداف العمال الكردستاني ضمن الداخل العراقي في مدن الإقليم.
يقول السياسي الكردي المخضرم عثمان محمود: “الأكراد ينتظرون مرحلة جديدة، ويتوجب عليهم التعامل معها بعقلانية، فضلًا عن الاستفادة من الأخطاء السابقة في التعاطي مع الملفات المهمة”، مؤكدًا أن المرحلة تتوجب وعيًا كرديًا في ألا ينتظروا أي تغيير في السياسة الأمريكية تجاه القضية الكردية.
ويعزو عثمان ذلك إلى أن واشنطن تنظر للعراق ككتلة واحدة غير قابلة للتقسيم، والأكراد جزء من العراق، وأن حل مشاكلهم يكون في بغداد وليس في مكان آخر، وليس للأكراد أي ضمانات لنيل استحقاقاتهم سوى الدستور العراقي.
ويتابع عثمان أن التعاطي الأمريكي مع الإقليم لن يتغير بمجيء أو ذهاب الرئيس، سواء كان ترامب أم بايدن أم غيرهما، إلا أن بايدن يبدو أكثر قابلية للتفاهم من ترامب، فلديه اطلاع جيد على القضية الكردية.
شهدت إدارة ترامب العديد من الخلافات الكبيرة بين بغداد وأربيل، خاصة ما يتعلق بدخول القوات العراقية الاتحادية مدينة كركوك في أكتوبر/تشرين الأول 2017
ملف المناطق المتنازع عليها
تشكل المادة 140 من الدستور العراقي المقر عام 2005 ذروة سنام الخلافات بين حكومتي بغداد وأربيل، فعلى الرغم من مرور 16 عامًا على إقرار الدستور، فإن هذه المادة لا تزال معلقة دون حل رغم أن الدستور أقر فترة عامين عقب إقراره لحل الخلافات بشأن هذه المادة.
وتعرف المناطق المتنازع عليها في العراق بأنها المناطق المحاذية لإقليم كردستان في محافظات نينوى وصلاح الدين وكركوك وديالى، وهي مناطق يدّعي الأكراد أنها تتبع لهم جغرافيًا وفيها عدد كبير من القومية الكردية، وكانوا قد سيطروا على أجزاء منها عقب الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003.
إلا أنه ومنذ عام 2014 وسيطرة تنظيم داعش الإرهابي على مساحات شاسعة من العراق، لم يعد الملف الأمني في تلك المناطق يدار بصورة مشتركة بين بغداد وأربيل، وهو ما أدى إلى فراغ أمني مستمر في تلك المنطقة، فضلًا عن أن التعقيدات بين الجانبين ازدادت بصورة كبيرة عقب استعادة القوات العراقية السيطرة على مدينة كركوك (الغنية بالنفط) عام 2017 وهو الملف الذي لا يزال يتسبب بكم كبير من المشكلات بين الجانبين.
وفي هذا الصدد، يقول الباحث السياسي محمد عزيز في حديثه لـ”نون بوست” إن إدارة ترامب شهدت العديد من الخلافات الكبيرة بين بغداد وأربيل، خاصة ما يتعلق بدخول القوات العراقية الاتحادية مدينة كركوك في أكتوبر/تشرين الأول 2017 وهو ما لم تعلق عليه إدارة ترامب بأي شكل مؤيد لما يطالب به الأكراد أو منتقد لما أقدمت عليه حكومة حيدر العبادي حينها.
ويعتقد عزيز أن حكومة أربيل تأمل من إدارة بايدن الضغط على بغداد في ملفات عديدة ولا سيما فيما يتعلق بالاحتكام للمادة 140 من الدستور والضغط على حكومة بغداد لأجل السماح لقوات البيشمركة بالعودة للمواقع التي كانت فيها قبل 2014 ومن ضمنها كركوك.
ويعزو عزيز اعتقاده ذلك إلى أن إدارة بايدن ترى أن العراق لا يمكن له الاستقرار السياسي ما لم تتوافق حكومتا بغداد وأربيل معًا لمواجهة التحديات القادمة المتمثلة بالانتخابات التشريعية القادمة في البلاد، فضلًا عن مواجهة تصاعد خطر تنظيم داعش في المناطق المتنازع عليها في ديالى وكركوك وصلاح الدين.
على الرغم من عشرات الاجتماعات بين وفود الإقليم وحكومة بغداد خلال الأشهر الماضية، فإن الطرفين لم يصلا لاتفاق نهائي بشأن المسائل العالقة، وهو ما أدى حتى الآن لتأخر صرف رواتب الموظفين
الملف الاقتصادي
خلال الشهرين الأخيرين من عام 2020، شهدت بعض مناطق إقليم كردستان تظاهرات شعبية واسعة، كان عنوانها الملف الاقتصادي والفساد واحتجاج أكراد السليمانية ومناطق أخرى على تأخر صرف الرواتب وتراجع الوضع الاقتصادي في عموم الإقليم.
وفي هذا الصدد، أوردت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية تقريرًا مفصلًا عن وضع الإقليم الاقتصادي أيام الاحتجاجات في نوفمبر وديسمبر من العام الماضي، حيث قالت إن تلك الاحتجاجات سلطت الضوء على حجم الخلل الاقتصادي والسياسي الذي تشهده حياة المواطنين الأكراد، مشيرة إلى أنه في الوقت الذي يحتج فيه المتظاهرون على فجوة الثروة الواسعة بين الساسة ومواطني الإقليم، فإن القادة الأكراد صوّروا المظاهرات على أنها مؤامرة، وقطعوا خدمة الإنترنت وقبضوا على الصحفيين الذين شاركوا في تغطية الاحتجاجات، بحسب الصحيفة.
وأوضحت أن حكم المنطقة الكردية يقوم على حزبين رئيسيين: هما الحزب الديمقراطي الكردي في أربيل ودهوك، والاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية، وكلاهما يتحمل المسؤولية فيما تشهده المنطقة من فساد منظم وتجاهل ومحسوبية سياسية، مشيرة إلى أن المتظاهرين أحرقوا مقرات لكلا الحزبين.
ونقلت الصحيفة عن المحللة العراقية البارزة في مجموعة الأزمات الدولية لهيب هيجل قولها: “في مقارنة مع الاحتجاجات السابقة، فإن التظاهرات الحاليّة ذات مغزى كبير، في ضوء الأزمة المالية التي تؤثر بالسلب على قطاعات عريضة من المواطنين، ورغم أنها نتيجة مباشرة لتأخر صرف الأجور، فإن جذورها ترجع إلى سنوات من الفشل في إدارة الأموال”، في الوقت الذي توقعت فيه اتساع التظاهرات في المناطق الكردية إذا لم يتم التوصل إلى حلول لجذور الاضطرابات.
وتعود أزمة الإقليم الاقتصادية إلى الخلافات العميقة بين بغداد وأربيل بشأن الموازنة العامة للبلاد، إذ تطالب بغداد الإقليم بتسليم نصف واردات النفط المباع من الإقليم والمقدر بنصف مليون برميل يوميًا إلى الحكومة الاتحادية مع تسليم جزء من واردات الجمارك والمنافذ الحدودية كي تضمن بغداد صرف رواتب موظفي الإقليم العموميين وقوات البيشمركة الكردية.
وعلى الرغم من عشرات الاجتماعات بين وفود الإقليم وحكومة بغداد خلال الأشهر الماضية، فإن الطرفين لم يصلا لاتفاق نهائي بخصوص المسائل العالقة، وهو ما أدى حتى الآن لتأخر صرف رواتب الموظفين، إذ إن حكومة بغداد تستقطع المبالغ المستحقة على الإقليم من حصة الموازنة المخصصة له.
من جانبه، يقول المحلل الاقتصادي محسن قاسم إن حكومة كردستان تأمل في أن مجيء بايدن للحكم قد يوفر فرصة لإنجاح المفاوضات الاقتصادية بين بغداد وأربيل لأجل صرف مرتبات الموظفين الذين يناهز عددهم مليون موظف، بحسب مصادر كردية، حيث إن الكتل السياسية الشيعية في البرلمان الاتحادي لا تزال ترفض تمرير حصة الإقليم في الموازنة ما لم يسلم الأخير عائدات النفط والمنافذ الحدودية.
ويؤكد قاسم في حديثه لـ”نون بوست” على أن الخلاف المالي بين الإقليم وبغداد مستمر منذ عام 2014، وهو ما أدى إلى أزمة اقتصادية حادة في الإقليم، خاصة بعد تفشي فيروس كورونا وتعطل الحياة الاقتصادية جراء الإغلاق التام وحظر التجوال الذي استمر أشهر خلال 2020.
توقعات كبيرة يبديها أكراد العراق بعد تولي جو بايدن حكم الولايات المتحدة، انطلاقًا من العلاقات التاريخية بين الجانبين
الملف التركي
تشكل العمليات العسكرية التركية في شمال العراق وتحديدًا في مدن إقليم كردستان معضلة كبيرة لحكومة الإقليم، فإدارة ترامب السابقة سمحت لكل من تركيا وإيران بالتدخل في شؤون الإقليم، بحسب العديد من الخبراء.
وبالعودة إلى الكاتب سردار عزيز فإنه يعتقد أن الأكراد ينتظرون أن ينتهج بايدن سياسة مختلفة عن ترامب فيما يتعلق بالعلاقة مع تركيا، مضيفًا أن أنقرة تظن أن التغييرات المقبلة في العلاقات الدولية ستزوّد تركيا بفرصة أن تصبح جهة فاعلة إقليمية وتبسط نفوذها بشكل مباشر وغير مباشر في المنطقة.
ويتابع أن ذلك قد حصل في كردستان العراق في ظل دخول الجيش التركي إلى حدود الإقليم متوغلًا بعمق يزيد على 30 كيلومترًا، حيث تواصل الطائرات التركية المسيرة عمليات المراقبة والغارات الجوية على ما تصفه بمعاقل حزب العمال الكردستاني.
وتزداد التوترات بين تركيا والإقليم يومًا بعد آخر، فبعيد تولي بايدن الحكم في واشنطن، هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باجتياح مناطق شمال العراق الحدودية ومنطقة سنجار للقضاء على مقاتلي حزب العمال الكردستاني (المصنف في تركيا منظمة إرهابية).
وأكد مسؤول كردي (فضل عدم كشف هويته) في حديثه لـ”نون بوست” أن وضع الإقليم لا يتحمل التهديدات التركية باجتياح مناطق الإقليم، خاصة أن الأيام الأخيرة شهدت العديد من الغارات الجوية التركية العنيفة في مناطق محافظتي أربيل ودهوك.
وأضاف المصدر أن الإقليم يأمل ألا تتخذ أنقرة خطوات تصعيدية كهذه، معولًا على المجتمع الدولي والولايات المتحدة في حث أنقرة على عدم الإقدام على هذه الخطوة العسكرية.
من جانبه، يشير الخبير الأمني حسن العبيدي في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن إدارة بايدن قد تكون أشد حدة في التعامل مع تحركات تركيا تجاه الأكراد في سوريا والعراق، وبالتالي ربما تشهد علاقات أنقرة وواشنطن مزيدًا من التدهور والخلافات، خاصة أن إدارة الرئيس الأمريكي السابق فرضت عقوبات على مؤسسة الصناعات الدفاعية التركية دون التطرق للملف الكردي، وهو ما يشير إليه العبيدي على أن هذا الملف سيكون عنوان الخلاف القادم بين الجانبين.
هي توقعات كبيرة يبديها أكراد العراق بعد تولي جو بايدن حكم الولايات المتحدة، انطلاقًا من العلاقات التاريخية بين الجانبين، إلا أن الواقع يقول إن العراق عام 2021 ليس عراق عام 2002 و2005 وهو ما قد يجعل أكراد العراق ينتظرون أشهر عديدة حتى تكشف إدارة بايدن عن سياساتها الدقيقة تجاه العراق والملف الكردي برمته، في ظل انشغال الإدارة الأمريكية بكم كبيرة من الملفات الداخلية والخارجية في آن واحد.