لم يمر في العام الجديد 2011 سوى عشرون دقيقة فقط، حتى تناثرت أشلاء الجثث من بين جنبات كنيسة القديسين بالإسكندرية، نتيجة عبوات ناسفة تم زرعها داخل الكنيسة أثناء احتفالات رأس السنة، مخلفة وراءها 23 قتيلًا وما يقرب من 100 جريح.
أصابع الاتهام وجهت حينها لوزير داخلية مبارك، اللواء حبيب العادلي، الذي كان كثيرًا ما يوظف الأقباط كورقة سياسية يتم استخدامها وتوظيفها بين الحين والأخر، تحقيقًا لأهداف سياسية، فيما تصاعدت الأصوات التي تتهم الداخلية بالتورط في هذا الحادث خاصة وأنه جاء بعد مناوشات بين الشرطة والأقباط قبلها بعدة أشهر في منطقة العمرانية بمحافظة الجيزة.
الحادث كان مفجعًا لعموم المصريين، المسلمين قبل المسيحيين، الأمر الذي عزز الاحتقان حيال نظام مبارك لاسيما بعد استخفاف العادلي بعقول الشعب حين أراد إلقاء التهمة على حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، وهو الاتهام الذي أثار سخرية لدى الشارع المصري حينها.
كانت واقعة القديسين أحد الأسباب التي عجلت بثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، لاسيما بعد أن عمت التظاهرات القبطية شوارع الإسكندرية والقاهرة تتطالب بالثأر وحق القتلى، إلا أنها قوبلت بالقمع والتنكيل وتهديدات من الشرطة باستخدام العنف ضد المتظاهرين.
وجاءت الثورة ومعها شعاراتها المدوية “الشعب يريد إسقاط النظام”، هذا الشعار الذي كان يفسره البعض وقتها بأنه محاولة ابتزاز شعبية من خلال تصعيد المطالب إلى المستحيل للوصول إلى الممكن، وكان الممكن لدى شريحة كبيرة أنذاك إقالة حبيب العادلي.
المؤسسة الدينية بشقيها – الأزهر والكنيسة – كان لهما نفس الموقف تقريبًا بداية الحراك، حيث كانت الرؤية ضبابية ولم تتضح الأمور بعد، لكن مع مرور الوقت تغيرت المواقف وتباينت التوجهات، وبين موجات المد والجذر، ورياح الصعود والهبوط، تأرجحتا المؤسستان الدينيتان قربا وبعدًا عن السلطة السياسة… فإلى أين وصل كل منهما بعد عشر سنوات من الثورة؟
تحفظ وصمت بداية الثورة
بطبيعة المؤسسات الدينية عمومًا فإنها تميل إلى التحفظ وعدم المجازفة واستقراء المشهد بأريحية كاملة قبل الانخراط فيه، ولذا لم يستقبل الأزهر كما الكنيسة الثورة بالأحضان، رغم مشاركة بعض منتسبي الجهتين بشكل فردي، فكان لدى كل كيان منهما موقفه المتحفظ الداعم لنظام مبارك حتى اللحظات الأخيرة.
فكلاهما كان ينظر للثورة على أنها فعل أهوج ومغامرة محفوفة بالمخاطر، ليبقى وحيدًا كبيرًا عن الطريق القويم الذي يتطلب طاعة أولي الأمر والحفاظ على أمن واستقرار الوطن من أي هزات تبعث بأوراقه، ومن هنا غاب دور الأزهر والكنيسة عن الساحة الثورية بدايتها بصورة شبه كاملة.
ففي الأيام الثلاثة الأولى للثورة أصدرت مؤسسة الأزهر بيانًا تضمن عبارات مستهلكة حول “حرية إبداء الرأي”، ووجوب “سلمية” التظاهرات، مذيلة إياه بالتأكيد على الثقة في القيادة الرشيدة للرئيس مبارك وقياداته الأمنية، بل إن صحيفة “صوت الأزهر”، الصوت الرسمي للأزهر، نشرت تهنئة إلى وزير الداخلية مع صورة كبيرة له، بمناسبة “عيد الشرطة”.. وهنا بدا موقف المؤسسة الدينية الإسلامية معروفًا للجميع.
الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، وعضو لجنة السياسات بالحزب الوطني، في بيانه الصادر في 3 فبراير 2011 حث الشباب على التعقل، منوهًا إلى أن مثل هذه الأحداث “يراد بها تفتيت مصر وتصفية حسابات وتنفيذ أجندات خارجية”، داعيًا الثوار إلى العودة إلى بيوتهم: “أناشد المحتجين كوالدهم، فلا يوجد من في قلبه مثقال ذرة من دين يريد أن يغمس يده في ما يحدث”.
وفي الجهة الأخرى أصدرت الكنيسة بيانًا لا يختلف كثيرًا عن الأزهر، محذرة فيه رعاياها من التخريب، مطالبة أقباط مصر بالصلاة من أجل الوطن واستقراره، مناشدة الجميع بضبط النفس وعدم الانخراط في مثل هذه الممارسات التي تهدد أمن الدولة وتقوض تماسك جبهتها الداخلية.. وهنا أيضا كشفت الكنيسة عن موقفها.
تغير طفيف في المواقف
ومع بداية انهيار الداخلية وسقوط أمبراطوريتها تحت أقدام المتظاهرين، وإجبار الرئيس الذي مكث فوق كرسي الحكم 30 عامًا على التنحي، لتتفكك معه ترسانة الديكتاتور الصلبة، بدأت المؤسسة الدينية تراجع مواقفها، فلم يعد الأمر على قلب رجل واحد حيال حراك الشارع.
عشية بيان الطيب انضم المتحدث الرسمى باسم مشيخة الأزهر السفير محمد رفاعة الطهطاوي، للمعتصمين في ميدان التحرير، بعد أن أعلن ترك منصبه، مؤكدًا مساندته الكاملة للمتظاهرين حتى رحيل مبارك عن الحكم، وكان هذا الموقف أول موقف رسمي من الأزهر وإن كان صاحبه ليس خريج مؤسسة الأزهر إنما كان قادمًا من وزارة الخارجية.
وفي 11 فبراير وقبل تنحي مبارك بساعات أفتى الطيب خلال تصريحات متلفزة له بأن التظاهرات “حرام” بعدما تحققت مطالب الثوار، في إشارة إلى توكيل رئيس المخابرات، اللواء عمر سليمان، بالصلاحيات الكاملة لإدارة شؤون الدولة، وهو الموقف الذي اعتذر عنه شيخ الأزهر بعد ذلك مبررًا إياه بأن هدفه كان حقن الدماء وتهدئة الأمور المشتعلة.
ومع اتضاح الرؤية نسبيًا، ونجاح الموجة الأولى للثورة التي أطاحت بمبارك، تبدل موقف المؤسسة الأزهرية، فلم يعد متأرجحًا بين الغياب والتواطؤ والخفوت الذي لا يتناسب مع مكانتها الإقليمية والدولية، وعلى الفور بدأ الخطاب يتغير، وخرجت البيانات الداعمة للربيع العربي، تأييدًا لحقوق الشعوب الليبية واليمنية والسورية في بناء دولتهم الديمقراطية دون أنظمة ديكتاتورية.
الموقف كان مشابهًا في الناحية الأخرى عند الكنيسة، فرغم البيان التحذيري الأول، هاهي الكنيسة تعود لـ”تبارك الشباب الطاهر وتصلي لمصر مرة أخرى”، لينطلق الشباب القبطي داعمًا للحراك الثوري لاسيما وأن العلاقة بين البابا شنودة ومبارك لم تكن على ما يرام، فالبابا عانى من الإقامة الجبرية أيام السادات وتكررت المحنة أيام الرئيس المخلوع، وهو ما عمق من الفجوة بين الكنيسة والقصر الجمهوري لسنوات طويلة.
أحداث ماسبيرو.. الجراح لم تندمل
جسدت الأيام الـ 18 التي شهدتها الثورة المصرية في ميدان التحرير حتى تنحي مبارك، ملحمة رائعة في الوحدة الوطنية، فكان المسلم والقبطي يدًا بيد، كلاهما يحمي الأخر في مشهد أسطوري تحاكى به الخارج قبل الداخل وقتها، فالهمً كان واحدًا، والهدف واحد… إزاحة الديكتاتور وبناء دولة ديمقراطية مدنية جديدة.
لكن الأمور لم تكن كما كانت عليه في الميدان، فمع إدارة المؤسسة العسكرية للمشهد حدثت بعض الممارسات والقرارات التي أثارت الشك في ذلك الوقت، وفق شهود عيان عدة، كان الهدف منها الإبقاء على تلك الحالة المتوترة بين المسلمين والمسيحين، وهي الورقة التي اعتاد نظام مبارك استخدامها كما أشرنا قبل ذلك.
في الأسبوع الأول من أكتوبر 2011 شهدت محافظة أسوان واقعة غريبة، حيث هدم سكان إحدى القرى كنيسة بدعوى أنها غير مرخصة، ثم خرج المحافظ وقتها، وهو المعين في عهد مبارك، بتصريحات اعتبرت مسيئة للأقباط، الأمر الذي أثار الغضب لدى الكنيسة… وكان لابد من وقفة.
في 9 أكتوبر من نفس العام انطلقت تظاهرة كبيرة من منطقة شبرا بالقليوبية إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون “ماسبيرو” على كورنيش النيل بمنطقة وسط القاهرة بالقرب من ميدان التحرير، وقرر الإقباط الاعتصام أمام المبنى لحين استرداد حقهم في بناء كنيستهم أو الحصول على ترخيص، بجانب اعتذار المحافظ عن تصريحاته.
لكن وبدون أي مقدمات نشبت مواجهات بين قوة الشرطة العسكرية والأمن المركزي المتمركزة أمام ماسبيرو وبين المعتصمين، وكان من بينهم مسلمون شاركوا إخوانهم في الوطن حراكهم اعتراضًا على ما حدث في أسوان، وأسفرت تلك المواجهات عن سقوط 28 شخصًا بالإضافة لأكثر من 321 مصاب أغلبهم من الأقباط.
المؤسسة الدينية ومرسي
قبل تولي الإخوان الحكم في مصر حرص قادة الجماعة على التقرب من الأقباط، فقام المرشد محمد بديع بزيارة البابا الأنبا شنودة، فيما هنأ الدكتور سعد الكتاتنى رئيس مجلس الشعب المنحل، والدكتور محمد مرسي رئيس حزب الحرية والعدالة بتهنئة المسيحيين بعيد الميلاد – يناير2012.
ومع تولي الرئيس المنتخب محمد مرسي الحكم في 30 يونيو/ حزيران 2012 حرص دومًا على التأكيد على أن مصر دولة مدنية وليست ثيوقراطية كما يزعم البعض بعد تولي رئيس إسلامي مقاليد الأمور، وطالما صرح بأن مصر وطن الجميع، وكل الفئات التي تحيا بها شركاء في هذا الوطن الكبير.
حاول الرئيس الراحل طمأنة الأقباط قدر الإمكان، فعيًن المفكر القبطي الليبرالي سمير مرقص “مساعدًا لرئيس الجمهورية لملف التحول الديمقراطي” وهي الخطوة التي اعتبرها البعض وقتها مبادرة إيجابية لتخفيف حجم القلق باتجاه المسيحيين الذين يشكلون ما بين 6- 10% من المصريين.
سعى مرسي خلال العام الذي أدار فيه البلاد إلى العمل على إزالة مخاوف الأقباط من تولي إسلامي للحكم، وهو ما كان يؤكد عليه بين الحين والآخر، رغم مساندة شريحة كبيرة منهم للمرشح الخاسر أحمد شفيق فى جولة الاعادة في الانتخابات الرئاسية، وهي الرسالة التى اعتبرتها جماعة الإخوان بداية لعلاقة فتور بين الأقباط والإخوان.
العديد من حوادث الاعتداء على كنائس وأديرة وقعت خلال فترة حكم مرسي، بعضها كان على أيدي جماعات إسلامية سلفية متطرفة، وأخرى قيدت ضد مجهول، الأمر الذي أثار الشكوك وقتها حول الهدف من تلك الجرائم في هذا الوقت ومحاولة تصدير صورة سلبية عن إدارة الرئيس المنتخب للدولة وتعزيزه للطائفية.
وهنا كان القرار من الكنيسة بالعمل على التخلص من الإخوان وحكم مرسي، حتى لو كان الثمن الارتماء في أحضان العسكر وذيوله السياسية كجبهة الإنقاذ وحركة تمرد وغير ذلك من الكيانات الممولة من الخارج والمدعومة من المؤسسة العسكرية.
الأقباط ومشهد الثالث من يوليو
وجد السيسي في الأقباط ضالته التي من الممكن أن تمنحه الزخم الديني المتراجع بعد استعدائه للإسلاميين وتخليه عن نصوص الدستور وانقلابه على رئيسه المدني، وفي المقابل وجد الأقباط في السيسي الشخصية المناسبة للتخلص من الإسلاميين وحكم الإخوان.
وزير الدفاع – آنذاك- الحالم بكرسي الرئاسة، لعب وبنجاح كبير على مشاعر الأقباط المتألمة جراء الاعتداءات التي تعرضوا لها منذ بداية الثورة وحتى الإطاحة بمرسي، رغم أن جزء كبير من تلك الجرائم كانت بفعل العسكر – كما مذبحة ماسبيرو- والجزء الآخر كان محل شك.
وهنا التقت رغبة الطرفين، السيسي الساعي لمغازلة الخارج بدعم الأقباط، والأخير الرامي إلى التخلص من الإسلاميين ولو عبر بوابة العسكر، وبالفعل كان البابا تواضروس (الذي تسلم عصا الرعاية بعد وفاة شنودة في مارس 2012) أول الحاضرين في الاجتماع التاريخي الذي شهد بيان الانقلاب في 3 يونيو/حزيران 2013.
العسكر كانوا على يقين تام أن دعم الأقباط لهم ممر مضمون وآمن نحو المباركة الخارجية لاسيما أوروبا وأمريكا، ورغم التحفظات التي خرجت وقتها بشأن توصيف ما حدث، ثورة أم انقلاب، من قبل بعض العواصم الغربية، إلا أن التأييد المطلق لأقباط مصر لهذه الأحداث كان عامل تهدئة كبير حيال السيسي ونظامه.
مؤسسة الأزهر هي الأخرى كانت حاضرة في المشهد ممثلة في شيخها الطيب، الذي قيل بعد ذلك أنه أجبر على المشاركة، فيما غادر القاهرة متوجهًا إلى قريته بصعيد مصر، مختليًا بنفسه بعد جرائم فض اعتصامي رابعة والنهضة والتي سقط فيها المئات تحت جرافات ورصاص الجيش، وهي الأحداث التي وضعت شيخ الأزهر في مأزق حقيقي، وكانت بداية التوتر مع السيسي بعد ذلك.
السيسي والكنيسة.. المعادلة تغيرت
منذ إعلان الجمهورية في مصر عام 1952 والعلاقة بين الدولة والأقباط تحددها العلاقة بين الرئيس والبابا، ففي عهد جمال عبد الناصر كان البابا كيرلس السادس من أشد المقربين منه، وعليه حصلت الكنيسة وقتها على العديد من المنح والهدايا والمزايا المادية والعينية.
وخلال فترة أنور السادات توترت العلاقة بينه وبين البابا شنودة بشكل أثر على العلاقة مع الأقباط، فيما التزم مبارك سياسة العصا والجزرة، لكنه في المجمل لم يكن على هوى المسيحيين، فهم لم ينسوا له تركه شنودة خمس سنوات سجينًا بين أسوار دير الأنبا بيشوي بعد مقتل السادات، هذا بخلاف عرقلة العديد من القوانين التي كان الأقباط يطالبون بتمريرها وعلى رأسها قانون بناء الكنائس الذي كانت عليه العديد من التحفظات الأمنية والسياسية.
ومنذ قدوم السيسي إلى الحكم تغيرت المعادلة بين الرئاسة والكنيسة، حيث التحالف الأكبر في تاريخ الدولة المصرية، وبات الأقباط أحد أبرز أركان نظام السيسي، الداعم الأبرز، الأوضح موقفًا، والمؤيد الأكثر حضورًا في كافة المناسبات والمحافل.
حتى أقباط المهجر الذين كانوا صداعا في رأس كافة الأنظمة السابقة، نجح السيسي في استمالتهم له واستقطابهم لدعم نظامه، فهو من خلصهم من الإسلاميين وأعاد لهم قوتهم مرة أخرى، فتحولت التظاهرات المعادية للرئيس خلال زياراته الخارجية إلى تظاهرات دعم وتأييد، وتحولوا إلى كتيبة لدعم السيسي في أي دولة غربية يزورها في مواجهة المعارضة.
وكان نتيجة لهذا التحالف أن حققت الكنيسة العديد من المكاسب التي ماكانت تحلم بها يومًا من الأيام، فصدر أول قانون لبناء الكنائس في مصر عام 2016 معالجًا الأزمات التي استمرت لعشرات السنين، كما بنيت العديد من الكنائس خلال سنوات حكم السيسي السبعة، لم تشهدها الدولة المصرية طيلة الـ 150 عاما التي مضت، حيث كانت تبنى الكنائس بالموافقة الشفهية مع الأمن، تغلق وتفتح في مناسبات عدة ووفق العلاقات بين السلطات والكنيسة.
هذا بخلاف ترخيص ألاف الكنائيس والحق في بناءها في المدن الجديدة، فضلًا عن المكاسب السياسية الأخرى، إذ مُنح الأقباط نسبة تمثيل في البرلمان هي الأعلى في تاريخهم، وهو ما تترجمه أرقامهم في انتخابات 2015 و2020، علاوة على المشاركة في المناصب التنفيذية عبر تعيين محافظين أقباط، وهو الأمر الذي لم يكن موجودًا قبل ذلك.
وحتى كتابة هذه السطور تواصل العلاقات الحميمية بين السيسي والكنيسة سيرها نحو آفاق مستقبلية من التناغم والتنسيق، فالسيسي لم يترك منذ تنصيبه حدثًا قبطيًا إلا كان له فيه حضور، بجانب الرسائل التي يبعث بها للداخل والخارج من خلال زياراته السنوية للكاتدرائية لحضور قداس عيد الميلاد محملا بالهدايا والوعود.
الأزهر والرئاسة… نار تحت الرماد
وفي الناحية الأخرى شهدت العلاقة بين السيسي، وشيخ الأزهر، توترًا وخلافات حادة منذ 2013 وحتى اليوم، رغم مشاركة الطيب في مشهد بيان الانقلاب، كانت البداية بإعلان الشيخ رفضه إراقة الدماء في الفترة التي أعقبت الانقلاب، قائلا في بيان صوتي له عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة 14 أغسطس/ آب 2013: “إيضاحًا للحقائق وإبراءً للذمة أمام الله والوطن، يعلن الأزهر للمصريين جميعًا أنه لم يكن يعلم بإجراءات فضّ الاعتصام إلا عن طريق وسائل الإعلام صباح اليوم”.
وفي ديسمبر/أيلول 2014 كانت المحطة الثانية في الصدام بين الأزهر والرئاسة، وذلك حين رفض الطيب التوسع في إصدار فتاوى التكفير، مستنكرًا ما يتم تداوله في الإعلام المصري بشأن إصدار فتوى تكفير تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، لافتًا إلى أن للتكفير شروط، وهو ما أثار غضب وزارة الأوقاف والإعلام المؤيد للرئيس في ذلك الوقت.
الفجوة توسعت أكثر مع الحديث عن “الخطبة الموحدة” في صلاة الجمعة، حيث سعى وزير الأوقاف المقرب من السيسي، مختار جمعة، لإقرار خطبة مسجلة توزع على كافة المساجد في صلاة الجمعة، كان ذلك في يوليو/تموز 2016، إلا أن هيئة كبار العلماء رفضت هذا المقترح جملة وتفصيلًا.
ثم جاءت أزمة الطلاق الشفهي، حيث طالب السيسي خلال كلمته باحتفالات عيد الشرطة المصرية في يناير/ كانون الثاني 2017، بتعديل قانون الطلاق ليصبح الطلاق المعتمد فقط هو الموقّع أمام المأذون، محاولة منه لتقليل نسب الطلاق المرتفعة في مصر، إلا أن الأزهر – ممثلًا في هيئة كبار العلماء- أصدر بيانًا مذيلًا بتوقيع الطيب يرفض فيه هذا التعديل المتنافي مع الشرع، على حد وصفه.
البيان كان مثار انتقاد لاذع من أجهزة السيسي الإعلامية والسياسية خاصة وأنه أختتم بفقرة “على مَن يتساهلون في فتاوى الطلاق أن يَصرِفوا جُهودَهم إلى ما ينفعُ الناس ويُسهم في حلّ مشكلاتهم على أرض الواقع؛ فليس الناس الآن في حاجةٍ إلى تغيير أحكام الطلاق، بقدر ما هم في حاجةٍ إلى البحث عن وسائل تُيسِّرُ سُبُلَ العيش الكريم” وكان البعض قد أشار إلى أن السيسي هو المقصود بها.
وتوالت المواقف والأحداث التي عززت من الصدام بين الطيب والسيسي ولعل أبرزها قضية “تجديد الخطاب الديني” هذا الملف الذي يعد ساحة المعركة الأبرز بين الطرفين، فالسيسي يحمل المؤسسة الدينية مسئولية انتشار العنف والتطرف في البلاد فيما يتمسك شيخ الأزهر بوسطية منهج كيانه والتشكيك في دوافع فكرة التجديد.
وفي بدايات 2019 ترددت أنباء عن نوايا مبيتة لدى السلطات بإجراء تعديل دستوري يسمح للرئيس بعزل شيخ الأزهر، الذي طالما “أتعب السيسي” على حد قوله، حيث تقدم أحد أعضاء البرلمان بمشروع قانون لتعديل لائحة تعيين شيخ الأزهر، وهو التحرك الذي أحدث جدلًا كبيرًا وقتها، وتم التغاضي عنه بعد تدخلات خارجية قيل إنها من أبو ظبي وبعض الأجهزة في الداخل.
وفي الوقت الذي كان فيه السيسي يفسح المجال أمام الكنيسة والبابا لتوسيع دائرة نفوذهم كان يقلم أظافر شيخ الأزهر، حيث أطاح بساعديه الأبرز والأقرب، وكيل الأزهر السابق الدكتور عباس شومان، والمستشار القانوني للمشيخة السابق محمد عبدالسلام.
وفوق كل ذلك فرضت الرئاسة حصارًا إعلاميًا على شيخ الأزهر ورجاله، وهو ما استنكره الطيب أكثر من مرة حين أشار إلى أن شيوخ مؤسسته لا يفسح لهم المجال الإعلامي للرد على الاتهامات التي توجه للمشيخة، وهو الأمر الذي زاد من حدة الخلاف بين الطرفين خلال الأونة الأخيرة.
وبعد مرور عشر سنوات كاملة على ثورة يناير، تغيرت ملامح معادلة (الرئيس – البابا – شيخ الأزهر) فباتت الكنيسة الأقرب للسيسي، والأكثر حصدًا للمكاسب، فيما تراجعت مكانة المشيخة التي تمثل وسطية الدين وتعبر عن أكثر من 80 مليون مسلم، وتقلص نفوذها، الأمر الذي يثير معه التخوفات المستقبلية بشأن العلاقة بين نسيجي المجتمع المصري.