ترجمة وتحرير نون بوست
في الساعات الأولى من صباح عيد الميلاد، تلقيت رسالة نصية من صديقي اللبناني الفلسطيني في بيروت، التي أرسلها من رواق شقته، فقد جرى إلى هناك بعد أن استيقظ مشدوهًا من نومه بسبب أصوات الطائرات الإسرائيلية – التي تبين لاحقًا أنها طائرات وصواريخ في طريقها لأهداف في سوريا – وتملكه إحساس بأن شيئًا ما على وشك الانفجار.
بالطبع اختراق “إسرائيل” المجال الجوي اللبناني ليس بالأمر الجديد، فهي مشهورة ليس فقط بانتهاك سماء لبنان وأراضيه بشكل عام، بل أيضًا بانتهاك طبلة أذن اللبنانيين وصحتهم النفسية والعاطفية.
في كتابه “Pity the Nation” عن الحرب الأهلية اللبنانية منذ عام 1975 وحتى 1990، وصف الصحفي الراحل روبرت فيسك الصوت المروع الذي تولد في أثناء حادثة عام 1978 تقريبًا عندما اخترقت طائرتان إسرائيليتان حاجز الصوت وطارتا على مستوى قريب للغاية فوق غرب بيروت، ما تسبب في تحطم واجهات المحال في شارع الحمراء الشهير نتيجة هذا الانفجار الصوتي.
أصبح الأمر إزعاجًا لا يتوقف منذ ذلك الحين، بالطبع لا يثير الأمر اهتمامًا إعلاميًا كبيرًا، لكن إذا بحثنا قليلًا في جوجل سنجد أن المشكلة موجودة بالفعل، فهناك رسالة من رويترز عام 2017 عن الانفجارات الصوتية التي هزت المباني وحطمت النوافذ في مدينة صيدا جنوب متسببة أيضًا في هلع السكان.
لقد تمكنت “إسرائيل” من تطبيع النظرة العالمية لصديقها الإمبريالي الأمريكي التي ترى بموجبها أن حدودها مقدسة، لكن حدود الآخرين يمكن انتهاكها حسب الرغبة
هناك تقرير أيضًا في جيروسالم بوست عام 2007 عن الانفجارات الصوتية فوق النبطية ومرجعيون، المدينة ذات الأغلبية المسيحية التي كانت سابقًا مقر قيادة جيش جنوب لبنان وهي ميليشيا إسرائيلية بالوكالة قامت بالكثير من التعذيب والإرهاب مع المهجرين في العقدين الذين احتلت فيهما “إسرائيل” جنوب لبنان وانتهى في مايو/أيار عام 2000.
هناك كذلك عنوان لـ”بي بي سي” عام 1998 يقول: “الطائرات الإسرائيلية تصنع ارتباكًا بسبب الانفجارات الصوتية فوق لبنان” وتتعلق بالغارات الوهمية التي يقوم بها سلاح الجو الإسرائيلي فوق لبنان وضواحيه.
من المؤكد أن هذا الإهمال النسبي للإعلام ليس سببه نقص المعلومات، فلبنان لا يتردد في الإعلان عن الانتهاك غير القانوني الصارخ لمجاله الجوي من جاره الجنوبي المعادي، كما قدم عدة شكاوى للأمم المتحدة في مختلف المناسبات آخرها هذا الشهر.
تاريخ وحشي
في مارس/آذار 2019 أفاد تقرير الأمين العام للأمم المتحدة أنتونيو غوتيريش أن “إسرائيل” واصلت انتهاك المجال الجوي اللبناني بشكل يومي، في انتهاك للقرار 1701 (عام 2006) وللسيادة اللبنانية، كان القرار 1701 قد صدر في نهاية الـ34 يومًا من الحرب الإسرائيلية على لبنان التي قتلت نحو 1200 لبناني معظمهم من المدنيين.
بالنظر للسجل الإسرائيلي في لبنان فتاريخها الوحشي يتضمن غزو 1982 الذي قتل ما يقرب من 20 ألف لبناني – معظمهم مدنيين كالعادة – لذا ليس من الصعب أن نكتشف لماذا تثير التحليقات الجوية والانفجارات الصوتية كل هذا الفزع والإرهاب.
في تقريره أشار غوتيريش إلى أنه من نوفمبر/تشرين الثاني 2018 وحتى فبراير/شباط 2019 سجلت قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان “اليونيفيل” (هي في الواقع غير مؤقتة حيث يعود تاريخ وجودها إلى عام 1978) 96.5 انتهاك جوي شهريًا بمعدل 262 ساعة طيران، وأوضح أن الطائرات دون طيار شكلت ما يقارب 77% من الانتهاكات بينما كانت البقية لطائرات مقاتلة أو طائرات مجهولة الهوية.
يمكن للمرء أن يتخيل نوبة الغضب العارمة أو ربما الحرب الإقليمية التي كانت لتحدث لو أن جزءًا صغيرًا من هذه الانتهاكات حدث للجانب المقابل، في الحقيقة لقد تمكنت “إسرائيل” من تطبيع النظرة العالمية لصديقها الإمبريالي الأمريكي التي ترى بموجبها أن حدودها مقدسة، لكن حدود الآخرين يمكن انتهاكها حسب الرغبة.
الحرب النفسية
يعد قطاع غزة أرضًا أخرى تعتمد فيها “إسرائيل” على الانتهاكات الجوية المستمرة كوسيلة للحرب النفسية، لإبقاء المواطنين في حالة صدمة وفزع دائم، في مقاله بالجزيرة عام 2013 اقتبس الصحفي جوناثان كوك حديثًا لحمدي شقورة من المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان عن الانتشار الواسع للطائرات الإسرائيلية في غزة رغم الانسحاب الإسرائيلي المفترض منذ عام 2005، يقول فيه: “هذا الطنين هو صوت الموت، لا مهرب من ذلك ولا مكان سري، إنه تذكير بأنه مهما أكد المجتمع الدولي و”إسرائيل” فإن الاحتلال لم ينته بعد”.
إن عبارة “صوت الموت” ليست مبالغة أبدًا، من بين آلاف المدنيين الفلسطينيين الذين قتلتهم الطائرات دون طيار الإسرائيلية المزودة بالصواريخ، 4 أطفال كانوا يلعبون على شاطئ غزة عام 2014، تلك الجريمة التي برأت “إسرائيل” نفسها منها في العام التالي.
بالعودة إلى لبنان، فقد دفع ارتفاع نشاط سلاح الجو الإسرائيلي وكالة أسوشيتد برس إلى نشر مقال في 10 من يناير/كانون الثاني بعنوان: “طيران المقاتلات الإسرائيلية اليومي على ارتفاع منخفض فوق لبنان ينشر التوتر”.
مع إصرار “إسرائيل” على تصوير نفسها طوال الوقت بأنها الضحية الأولى للإرهاب في العالم، فالأمر يستحق أن نواصل تَتَبُع من يقوم بالإرهاب حقًا
وفي إشارة إلى إرهاب سكان بيروت في عيد الميلاد، اعتمد المقال على حسابات اليونيفيل ما بين يونيو/حزيران وحتى أكتوبر/تشرين الأول 2020، حيث ارتكبت “إسرائيل” انتهاكات جوية يومية بمتوسط 12.63 انتهاك، وتشكل الطائرات دون طيار 95% من تلك الانتهاكات.
الإرهابيون الحقيقيون
أصبحت التوترات اللبنانية حادة في الآونة الأخيرة، ورغم أن التنبؤات باحتمالية وقوع نوع من الصراع الإقليمي في الأيام الأخيرة لرئاسة ترامب في الولايات المتحدة لم تحدث، فإن العذاب النفسي الذي يسببه العقاب الجمعي الجوي الإسرائيلي أصبح مضاعفًا بسبب الظروف اللبنانية الحاليّة.
ما زالت البلاد تعاني من انفجار أغسطس/آب الذي دمر بيروت وانهيار الاقتصاد الوطني وارتفاع معدلات فيروس كورونا التي هي وحدها أمور صادمة وليست بحاجة لإضافة الانفجارات الصوتية والطائرات دون طيار لهذا الخليط.
مع إصرار “إسرائيل” على تصوير نفسها طوال الوقت بأنها الضحية الأولى للإرهاب في العالم، فالأمر يستحق أن نواصل تَتَبُع من يقوم بالإرهاب حقًا.
المصدر: ميدل إيست آي