خرج دونالد ترامب من الحكم وجاء جو بايدن ليجلس على عرش الولايات المتحدة الأمريكية، لكن لا تزال الأسئلة الصعبة تطرح نفسها عن تأثير حقبة ترامب على حرية الرأي والتعبير “ظالمًا ومظلومًا” لا سيما بعد الهجوم على مبنى الكابيتول وما تلى ذلك من تداعيات خطيرة على المستوى السياسي والحقوقي.
مما يجرى في أمريكا والعديد من بلدان العالم، لا يمكن التخبط في إدراك المدى الذي تأثرت به حرية الرأي والتعبير والجدل الكبير بشأنها، بعد أن أصبحت هدفًا سهلًا للاغتيال من التيارات المختلفة التي تستخدم هذا الحق للمزايدة على بعضها البعض.
رفع حرارة الجدل حظر حسابات دونالد ترامب على مواقع التواصل المختلفة، ومنعه من التغريد والتعبير عن نفسه حتى بعد مغادرته البيت الأبيض، لاتهامه من الرأي العام ـ لا يوجد حكم قضائي حتى الآن ـ بالتحريض على تقويض التجربة الديمقراطية، وتشجيع الغوغاء على انتهاك دولة القانون، ما أسفر عن مقتل العديد من الأمريكيين بينهم ضابط شرطة وامرأة داخل مبنى له رمزية تاريخية، الأمر الذي ساهم في إحداث فتنة كبرى بالعالم كله وليس أمريكا وحدها.
ضد الحرية
توقفت حسابات ترامب على كل مواقع التواصل الاجتماعي، فقد منع تمامًا قبل نحو أسبوعين من مغادرة منصبه من التعرض لجمهور عريض بلغ عدده على فيسبوك وحده قبل حظره بشكل دائم نحو 88 مليونًا من مختلف دول العالم.
ومع التسليم بخطورة وجسامة تأثير ترامب وتغريداته على العالم كله، إلا أن منعه من الإدلاء برأيه يشكل مفارقة ليست سهلة بالمرة، ولهذا تحدث عنها العديد من قادة أوروبا، على رأسهم أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية التي رفضت الحجر على ترامب واعتبرته تعديًا على حرية الرأي والتعبير.
رأي ميركل في القضية أن إزالة أي محتوى ضار حق أصيل لشبكات التواصل الاجتماعي، لكن حال الإبلاغ عنه من المتابعين دون فرض حالة من الصوابية على الجميع وفق أهداف وقناعات مسؤولي هذه الشبكات.
اعتبرت المستشارة الألمانية أن الحق في حرية الرأي أساسي وذو أهمية أولية قبل أي شيء آخر للإنسان مهما كانت قناعاته، وبالتالي سطو مواقع التواصل على هذا الحق يعد انتهاكًا للقانون والتشريع، فالقضية بحسب تعبيرها لا تخضع لقرارات إدارة منصات التواصل الاجتماعي.
ميركل ليست وحدها التي استشعرت خطورة التعامل مع ترامب على هذا النحو، حتى لو كان شعبويًا يُدمن التمييز والكراهية ويمثل الكثير من الخطورة ليس فقط على الديمقراطية الأمريكية وحدها، لكن على كل مشاريع الديمقراطية في العالم الناشئة منها والمؤسسية، إذا ساد هذا النموذج، الذي يستطيع الإجابة عن أسئلة ربما تتعرقل فيها الديمقراطيات الراسخة حتى الآن لأسباب حقوقية وإنسانية مثل قضايا الهجرة والمهاجرين على سبيل المثال.
حدود التسامح
الهبة الأوروبية من أجل حرية الرأي والتعبير – بالتاكيد ليس من أجل ترامب – تثير العديد من الإشكاليات لا سيما في مجتمع مفتوح تعددي يعمل في فضاء ليبرالي، بشأن حدود التسامح وكيفية التعامل مع رسائل التحريض على الكراهية والأخبار الكاذبة التي اعتاد نشرها مسؤول بحجم رئيس أمريكا.
في الإرث الفلسفي الغربي من يجيب عن هذه التساؤلات بوضوح، وهو الفيسلوف النمساوي الإنجليزي كارل بوبر المعروف بدفاعه عن الديمقراطية والمجتمع المفتوح والتعددية، وهذه المفردات خصص لها كتاب يعتبر من أهم المراجع في العالم للقضية بعنوان المجتمع المفتوح وأعداؤه، وألفه في ضوء صعود النازية التي كانت تشكل خطرًا كبيرًا على الديمقراطية، وأبرز في هذا المؤلف ما أسماه مفارقة التسامح.
يوضح بوبر في الكتاب الصعوبات والمخاطر الكامنة في الديمقراطية التي اعتبرها أمل البشرية الوحيد في الحياة بكرامة وعقلانية، وهذا لن يحدث إلا بتعبيد الطريق أمامها دائمًا والتركيز على العوائق والسدود التي تتراكم ضدها، ومنها التسامح اللامحدود.
التسامح على طول الخط ينتهي إلى اختفاء التسامح، إذ إن التساهل مع شخص أو حزب أو جماعة أو تيار لا يهتم بشأن التسامح ولا يؤمن به يؤدي على المدى البعيد إلى سحق التسامح والمتسامحين، وترك الحرية لمن يريدون التخلص منها بالأساس، وهنا يؤسس بوبر لقاعدة رئيسية حتى تستمر الديمقراطية وتزدهر بشكل واضح: لا حرية لأعداء الحرية.
ما يقوله مؤلف “المجتمع المفتوح وأعداؤه”، يتفق معه الفيلسوف الفرنسي أندريه سبونفيل، الذي يرى أن التسامح لن يكون صالحًا إلا في حدود الحفاظ على شروطه الممكنة، حتى لا ننتهى إلى التسامح مع خسارته كليًا من الذين لا يحترموه بالأساس.
لكن هنا مفارقة أخرى وأسئلة: من الذي يمكنه الحكم على الرأي إن كان متسامحًا أم لا؟ وكيف يكون الحجر على الآخر تسامحًا بالأساس؟ ومن بيده تحديد القضية والحكم فيها حتى لا تصبح سيفًا مسلطًا على الرقاب وتقود العالم إلى صوابية سياسية جديدة لا تُحتمل وتهدد بالأساس حرية الرأي والتعبير؟!
بحسب سبونفيل وبوبر، هناك قاعدة تضبط هذه القضية، إذ يكمن التسامح من عدمه في كيفية تقبل كل الأطراف لممارسة النقاش وحرية الرأي والتعبير في إطار المواجهة بالحجج المنطقية والعقلية واحتوائها بمساعدة الرأي العام، هنا يكون من الخطأ الذي يصل حد المخالفة القانونية حظر الرأي المخالف، ويجب المطالبة بالتوقف عن هذه الممارسات بالقوة إن لزم الأمر.
لكن من يرفضون المناقشة المنطقية ولا يستجيبون للحجج إلا بالعنف، هم الذين يضعون أنفسهم خارج القانون، فالتحريض على التعصب جريمة لا تختلف عن التحريض على القتل، وحسب هذا المنطق، كل ما يهدد حرية أو سلام أو بقاء المجتمع متسامحًا، ليس مجرد تعبير عن مواقف أيديولوجية ـ يمكن تحملها ـ لكنه يشكل خطرًا حقيقيًا يجب محاربته.
توزان هش
النقاشات الدئرة عن كيف يمكن تحصين التسامح لاستمرار الديمقراطية، تخص عالم آخر وحياة أخرى، لكن الغريب أن بعض الأبحاث تؤكد أن التراجع في حرية الرأي والتعبير على مدى السنوات العشرة الماضية كان اتجاه قاد العالم فيه بلدان الشرق الأوسط .
باستثناء تونس، شرائح لا يستهان بها من الشعوب العربية فضلًا عن الحكومات أصبحت لا تؤمن بالتسامح مع حرية الرأي والتعبير وتتخوف منها بشدة، فهذا الحق بالنسبة لهم يعني إقامة مجتمع مفتوح وقوانين تبيح التعددية – تفسر جنسيًا غالبًا – وتسمح للأحزاب من المرجعيات المختلفة بالعمل دون قيود، وهي حقوق كادت أن تبيد بعض الدول خلال السنوات الماضية.
المجتمع المفتوح عند العرب ـ لا يوجد تعريف متماسك له ـ فرصة سانحة لكل القوى المتصارعة أيدلوجيًا للإجهاز على بعضها البعض، بما لا يعيق فقط نمو العمل الاجتماعي والسياسي، لكن يعيق حتى استمرار المجتمع ويهدد بتدميره، ما يتطلب جهدًا أكبر من المثقف العربي، سواء العادي أم العضوي المنضوي تحت لواء تيارات سياسية مختلفة لإيجاد مضامين مختلفة، تهتم بتقريب وجهات النظر بين الجميع، وبذل المزيد من الجهد لتوعية الناس بأهمية ومعنى التسامح.
إيضاح فلسفة التسامح في مجتمعاتنا العربية، يعني إيجاد حلول للصراعات التي أنتجت شقوقًا وخلافات عادت على المجتمعات بصدامات دامية، أريقت فيها الدماء وأزهقت الأرواح ودمرت الممتلكات، وإصلاح سوء الفهم الذي يعتري الجميع عن ماهية الحرية والنسبي والمطلق والعام والخاص.
في المجال العام – ساحة الجميع – لا يوجد أبطال وخونة أو شجعان وجبناء، هناك بكل بساطة خلافات بخصوص استخدامات المبادئ والأفكار والقناعات، والوصول إلى هذه الفرضية هو السبيل شبه الوحيد لإنتاج مجتمعات عربية تتسامح مع التعددية الدينية والسياسية والفكرية والثقافية!