تبنى الجمهوريون داخل مجلس الشيوخ الأمريكي مبادرة لمنع محاكمة الرئيس السابق دونالد ترامب جراء أحداث اقتحام مبنى الكونغرس في الـ6 من يناير/كانون الثاني الحاليّ، بعدما أيد مجلس النواب في جلسته المنعقدة في 13 من يناير/كانون الثاني الحاليّ إجراءات العزل بموافقة عشرة برلمانيين من الجمهوريين.
المبادرة أطلقها السيناتور راند بول خلال جلسة الشيوخ أمس الثلاثاء وأيدها 45، ورغم أنها فشلت في وقف المحاكمة، فإنها بعثت رسالة قوية مفادها أنه من الصعب تمرير قرار الإدانة داخل الشيوخ، حيث يتطلب القرار موافقة 17 جمهوريًا على الأقل بجانب كل الديمقراطيين (موافقة ثلثي المجلس شرط الموافقة على قرار الإدانة).
ومن المقرر أن يبدأ الشيوخ المكون من مئة مقعد (50 للديمقراطيين و50 للجمهوريين) أولى جلسات المحاكمة في الـ9 من فبراير/شباط القادم، بتهمة “التحريض على التمرد” وهي التهمة التي لو أُقرت إدانة ترامب فيها ستمنعه من الترشح للانتخابات الرئاسية مستقبلًا. وبذلك، فهو أول رئيس في تاريخ أمريكا يحال مرتين لمجلس الشيوخ بهدف عزله من منصبه، كما أنه أول رئيس يحاكم بعد مغادرته البيت الأبيض.
من جانب أخرى، يرى بعض الجمهوريين أن المحاكمة هنا فقدت دستوريتها بسبب عدم وجود الرئيس في مكانه، لكن تمسك الديمقراطيين بإدانته يحمل العديد من الدلالات والرسائل.. فهل تطوي تلك الإجراءات صفحة ترامب السياسية للأبد؟
صعوبة الإدانة
في موكب يخيم عليه الصمت حمل النواب المعينون من رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي كـ”مدعين عامين” في محاكمة الرئيس السابق، وعددهم 9 نواب ديمقراطيين، قرار الاتهام، من مجلس النواب إلى مجلس الشيوخ، ليتلوه جايمي راسكين رئيس اللجنة المعينة، الذي جاء فيه أن ترامب حرض على العنف وعرّض أمن الولايات المتحدة ومؤسساتها للخطر الشديد.
عدد من الجمهوريين ومعهم خبراء في الشأن الأمريكي يرون صعوبة بالغة في إدانة ترامب رسميًا، خلال جلسات الـ9 من الشهر القادم، وهو ما يعززه تصويت الأمس بالشيوخ، إذ “لا فرصة في مجلس يعتبر 45 من أعضائه المئة أن المحاكمة غير دستورية” بحسب بول.
إن موافقة 10 أعضاء جمهوريين على قرار العزل في جلسة النواب منتصف هذا الشهر ما كانت إلا محاولة لذر الرماد في العيون
اعتراض السيناتور الجمهوري على استمرار المحاكمة أجبر زملاءه في المجلس على جعل التصويت علنيًا بين أعضاء حزبه، وهي الخطوة التي حددت وبشكل كبير ملامح جلسة التصويت الشهر القادم، فقرابة 90% من الجمهوريين رفضوا المحاكمة من بينهم زعيم الأقليّة الجمهورية في المجلس السيناتور الواسع النفوذ ميتش ماكونيل، الذي لم يستبعد – في وقت سابق – إدانة الرئيس خلال مثل تلك المحاكمات.
البعض يرى أن المحاكمة ولدت ميتة في ظل تضاؤل فرص الإدانة بشكل يجعل الاستمرار فيها مضيعة للوقت، فمن الصعب الحصول على موافقة ثلثي المجلس بعد هذا التصويت الاختباري الذي يتعارض بشكل كبير مع جلسة النواب السابقة التي أدين فيها ترامب بموافقة شريحة كبيرة من الجمهوريين.
وهنا يمكن القول إن موافقة 10 أعضاء جمهوريين على قرار العزل في جلسة النواب منتصف هذا الشهر ما كانت إلا محاولة لذر الرماد في العيون، تأكيدًا على حالة الرفض السياسي لفضيحة اقتحام الكابيتول التي شوهت صورة البلاد خارجيًا، لكنها كما قلنا في تقرير سابق في “نون بوست” موافقة رمزية مجمدة، لا تسمن ولا تغني من جوع.
إصرار ديمقراطي
رغم أن الرئيس الأمريكي جو بايدن يرى صعوبة في إدانة سلفه في محاكمة الشيوخ بسبب التشكيك في الوصول إلى عدد الأصوات الكافية من الجمهوريين، كما ذكرت شبكة “سي إن إن”، فإن الديمقراطيين يبذلون قصارى جهدهم لتمرير قرار الإدانة رسميًا.
بيلوسي وحزبها يعلمون جيدًا أن الحصول على موافقة ثلثي الشيوخ أمرًا ليس سهلًا، لكنهم يسعون من وراء تلك الإجراءات والإصرار عليها رغم الاعتراض الجمهوري إلى التأثير سياسيًا على الحزب المنافس من جهة والرئيس الذي ضرب بمرتكزات الدولة عرض الحائط (وفق رؤيتهم) من جهة أخرى.
بصرف النظر عن نتائج المحاكمة، فإن مستقبل ترامب السياسي أصبح محاطًا بالشكوك والغموض، فلم يعد فرس الرهان الذي يلقي عليه الجمهوريون رصيدهم الشعبي
المحاكمة سياسية في المقام الأول، ويكفي أن مستقبل ترامب وحتى تلك اللحظات ما زال غامضًا، فالرجل الذي طالما ملأ الإعلام ضجيجًا بأنه الرئيس الأفضل والأجدر بقيادة بلاده، ربما يجد نفسه غدًا خارج صفحات التاريخ، ممنوع من الاقتراب من أي ماراثون انتخابي مستقبلًا.
يبدو أن الديمقراطيين لم ينسوا الضربات التي تلقوها على أيدي ترامب والجمهوريين طيلة السنوات الأربعة الماضية، ولم يجد هؤلاء أفضل من الظرف الراهن للثأر، لا سيما في ظل حالة التجييش ضد ترامب وأنصاره بعد واقعة الكابيتول، فرصة قلما تتكرر ولا بد من استغلالها أفضل استغلال.
تجدر الإشارة إلى أن الجمهوريين لن يتركوا الرئيس المنتمي لهم يدان بشكل رسمي لما لذلك من تأثير سلبي على مستقبل الحزب السياسي خلال السنوات القادمة، وهو ما سيدفعهم – رغم ميل بعضهم – لإجهاض المحاكمة من جلساتها الأولى، أيًا كانت المبررات.
وفي تحليل مطول لشبكة “BBC” البريطانية، فإن ترامب حتى لو نجا من الإدانة داخل الشيوخ فسيواجه 6 معارك قانونية خلال الأونة القادمة، منها ما يتعلق بالفضائح الجنسية ودفع رشاوى لبعض الممثلات على رأسهن الممثلة الإباحية ستورمي دانيلز، بجانب تهديد أحد مسئولي ولاية جورجا للتلاعب في نتائج الانتخابات بالولاية، وغير ذلك من التحديات القانونية التي ستجعل القادم بالنسبة للرئيس السابق غير هادئ بالمرة.
مستقبل ترامب السياسي
بصرف النظر عن نتائج المحاكمة، وما إذا أدين ترامب أو لا، فإن مستقبله السياسي أصبح محاطًا بالشكوك والغموض، فلم يعد فرس الرهان الذي يلقي عليه الجمهوريون رصيدهم الشعبي، فالأخطاء التي ارتكبها ستجعل خوضه لأي انتخابات قادمة على رأس الحزب الجمهوري أمرًا غاية في الصعوبة، إذ خسرت البلاد الكثير من حلفائها فيما أحيطت الشكوك بدوافع إبرام تحالفات جديدة لا تراعي مصالح الأمريكان قدر ما تحقق مصلحة الرئيس نفسه.
الرئيس المهزوم بات على يقين على أنه لم يعد مرغوبًا به – كرئيس قادم – داخل الحزب الجمهوري المنقسم حياله، وهو ما دفعه للتفكير في البقاء داخل مضمار العمل السياسي من خلال إنشاء حزب جديد ينوي تسميته بـ “الحزب الوطني” (Patriot Party)، في “مسعى لممارسة تأثير مستمر بعد مغادرته البيت الأبيض”، وفق ما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” التي أشارت إلى أن خطوة كهذه تتطلب كما هائلا من الوقت والموارد.
ترامب سيسعى جاهدًا خلال المرحلة القادمة على الإبقاء على أمبراطوريته التجارية واقفة على قدميها، لاسيما بعد تعرضها لأزمات مالية كبيرة خلال العام الماضي بسبب جائحة كورونا
صعود ترامب إلى منصات التتويج السياسي خلال المرحلة المقبلة أمر صعب للغاية في ضوء القراءة الواقعية لتفاصيل المشهد الحاليّ، لكن الرجل العاشق للأضواء ربما يلفت الكاميرات إليه بين الحين والآخر، سواء عبر تصريحات مثيرة للجدل عن أسرار فترة ولايته، أم من خلال نواياه في الفترة المقبلة، إضافة إلى احتمالية إبرام صفقات اقتصادية وسياسية مع حلفائه القدامى لا سيما في منطقة الشرق الأوسط.
ولذلك سيسعى في الغالب لإبقاء إمبراطوريته التجارية واقفة على قدميها، لا سيما بعد تعرضها لأزمات مالية كبيرة في العام الماضي بسبب جائحة كورونا والضربات التي تلقتها بعد إلغاء بعض المؤسسات المالية والتمويلية تعاملها معها.
لكن هناك فريق يتسبعد انسحاب ترامب من الساحة السياسية بشكل نهائي، كما يشير كليفورد يونج، من شركة “إبسوس” لقياسات الرأي العام، الذي يرى أن الرئيس المهزوم لم يفقد أهميته السياسية بالصورة التي يتخيلها البعض، لافتًا إلى أن لديه قاعدة جماهيرية كبيرة يمكن البناء عليها.
أنصار هذا الفريق يحاولون تخفيف الضغوط على الرئيس الجمهوري وتجميل صورته بالإشارة إلى أن أحداث الكابيتول كان وراءها نشطاء اليسار وجماعات أخرى كانت تستهدف إحراج ترامب وإظهاره في صورة الرئيس الداعم للفوضى والرافض للديمقراطية.
وفي الأخير، يسعى الجمهوريون لنسيان سنوات حكم الرئيس السابق التي أضرت صورة الحزب بشكل يحتاج إلى جهد سياسي ودبلوماسي قوي لترميم تلك الشروخات، وهو ما يعني طي الشارع الأمريكي لصفحة ترامب الرئيس والسياسي، تاركًا خلفه إرثًا معقدًا ومشاكل وتحديات لا حصر لها، داخليًا كانت أو خارجية.